حكمت الجغرافيا على أفغانستان بأن تكون دولة حبيسة، لا يوجد لها منفذ بحري، محاطة بجوار 6 دول، بحدود تتعدى 5900 كيلومتر، متفاوتة الطول والتضاريس.
أطول الحدود الأفغانية تقع شرقا وجنوبا مع باكستان، وأقصرها تقع شرقا أيضا مع الصين، ويتفاوت طول حدودها الغربية مع إيران، والشمالية مع كل مع طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان، وهي 3 دول حبيسة أيضا استقلت عن الاتحاد السوفياتي السابق مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وبقدر طول الحدود مع دول الجوار تأتي الامتدادات العرقية واللغوية والثقافية والدينية والمذهبية وغيرها من الروابط، والخلافات أيضا، كما تأتي حسابات ومصالح كل جار لتلك الدولة التي تلملم أشلاءها هذه الأيام على يد حركة طالبان بعد الانسحاب الأميركي.
السرعة غير المتوقعة التي استعادت بها طالبان سيطرتها على البلاد لم يستطع أحد التنبؤ بها، كذلك الإستراتيجية والتكتيك الذي اتبعته ميدانيا لبسط سيطرتها في زمن قياسي، وعدد ضحايا لا يكاد يذكر مقارنة بأنهار الدماء التي أريقت طيلة 40 عاما في محطات سابقة من الصراع على أشلاء الدولة.
طالبان في نظر غالبية الأفغان هي القوة المحلية التي استخلصت تحريرا من قوات أجنبية مهيمنة، بينما كان الطرف الآخر يتمسك بها ويعتمد عليها، واعتمدت الحركة لغة جديدة ومواقف جديدة بشأن الداخل والجوار والعالم أيضا.
دول الجوار مشغولة بحسابات الربح والخسارة في أفغانستان بعد عودة طالبان، التي أعلنت قبل يومين حكومة جديدة لتصريف الأعمال، فما وزن تلك الدول بالنسبة لأفغانستان؟ وما معالم علاقتها المستقبلية مع أفغانستان “الجديدة” بعد الخروج الأميركي؟ وكيف تمهد لمصالحها هناك؟ وما حدود تأثير دول الجوار على العمائم صانعة القرار في كابل؟
باكستان أقرب الجيران
بحكم الجغرافيا، والتاريخ، والواقع، تعد باكستان أكثر الدول المعنية إجباريا بما يجرى في أفغانستان وأكثرها تأثيرا، فهي تشترك معها في حدود برية طولها 2400 كيلومتر، وجزء كبير من هذه الحدود جبلية، يصعب السيطرة عليه ويسهل الاختباء فيه، وتشكل هاجسا أمنيا للبلدين.
كما تمر معظم التجارة في أفغانستان عبر باكستان، بما في ذلك المنتجات الأساسية مثل الدقيق والأرز والخضروات ومواد البناء.
أما اللغة البشتونية لغة أكبر عرقيات أفغانستان عددا، وهم البشتون الذين يشكلون 52% من السكان ويتركز معظمهم في شرقي وجنوبي أفغانستان، فيتحدثها أيضا عدد كبير من سكان باكستان البشتون المنتشرون على مساحات شاسعة من شمال غربي باكستان، وبعض هؤلاء يرون أنفسهم جزءا من “بشتونستان”، بدلا من باكستان.
ويذهب البعض من هؤلاء البعض إلى حد القول إن “بشتونستان” تشمل إقليم “خيبر بختون نخوا” الباكستاني بأكمله، والذي احتفظ حتى عام 2010 باسمه البريطاني طبقا لخط ديوراند الذي وُضع عام 1893 باتفاقية وُقعت بين حكومة الهند البريطانية والأمير الأفغاني عبد الرحمن خان “مقاطعة الحدود الشمالية الغربية”، أو المقاطعة الحدودية الشمالية الغربية، والتي تمتد حتى منطقة العاصمة الفدرالية الباكستانية المستحدثة إسلام آباد.
أما أقرب عاصمة أجنبية إلى العاصمة الأفغانية كابل فهي العاصمة الباكستانية إسلام آباد، فهي أقرب إلى كابل من بعض المدن الأفغانية الكبرى مثل قندهار جنوبا وهيرات غربا.
استقبلت باكستان أكبر عدد من اللاجئين الأفغان من مختلف العرقيات الأفغانية، وفي مراحل الصراع المختلفة، ولا تزال تحتضن نحو 4 ملايين لاجئ، كثيرون منهم يعيشون في أراضيها من دون أوراق رسمية.
باكستان احتضنت ودربت وأمدت ودعمت قادة المجاهدين الأفغان خلال التدخل السوفياتي في أفغانستان، وكانت أيضا، أكثر دولة لديها علاقات وثيقة مع طالبان، حيث تلقى العديد من الأفغان الذين انضموا في البداية إلى الحركة تعليمهم في المدارس الدينية الباكستانية. كما كانت بداية حركة طالبان في الشمال الباكستاني في بدايات تسعينيات القرن الماضي، وانطلقت من معقلها في مدينة قندهار الأفغانية عام 1994.
هاجس الأمن
وفيما يتعلق بالأمن والشؤون الخارجية، فإن الجيش الباكستاني هو صاحب القرار، وهاجس جنرالات باكستان النووية هو الهند جارتهم النووية اللدود، فباكستان ليس لها عمق إستراتيجي، ويستطيع الطيران الهندي اختراق مجالها الجوي في دقائق.
وكانت العلاقات الهندية مع الحكومات الأفغانية التي أعقبت سقوط طالبان قبل 20 عاما مصدر قلق لباكستان، والتي بدت منزعجة بشكل خاص من وجود قنصليات هندية على طول الحدود الأفغانية الباكستانية، في مدن مثل جلال آباد وقندهار.
واعتبرت إسلام آباد هذه القنصليات الهندية بمثابة الرعاة الرئيسيين للعناصر المناهضة لباكستان، مثل جماعة “تحريك طالبان باكستان” في الشمال، ومختلف الجماعات المتمردة البلوشية في الجنوب.
وطالما نددت باكستان بـ “المكائد الهندية في كابل التي كانت تطوق باكستان”، وبالتالي فإن وصول طالبان للحكم هو بشرى سارة لباكستان، فسيطرة الحركة تعني نفوذاً أقل للهند في البلاد.
ويعني السلام في أفغانستان تقليل الضغط على اللاجئين القادمين إلى باكستان، وتشجيع الآخرين المقيمين في أراضيها على العودة، كما تطمح باكستان إلى فتح طريق بري يمر عبر أراضيها إلى آسيا الوسطى وما وراءها، بما يعزز مصالحها الاقتصادية، ويشجع طالبان على التعاون مع باكستان في مجموعة من القضايا، بما في ذلك مسألة الأمن. كما أن تأمين الحدود الغربية لباكستان يمكنها من التركيز أكثر على التهديد المستمر من الحدود الشرقية.
ورغم أنها نفت دائما مساعدتها لطالبان، فإن باكستان كانت ضمن أول 3 دول فقط، إلى جانب السعودية والإمارات، التي اعترفت بحركة طالبان عندما استلمت دفة الحكم في أفغانستان عام 1996، كما كانت آخر دولة قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الحركة، لكنها تبدو الآن متأنية في الاعتراف بطالبان، وتنتظر التنسيق مع بقية دول الجوار وبقية الدول الغربية في هذا الشأن.
براغماتية إيران
تحل إيران في المرتبة الثانية من حيث التأثير على أفغانستان، وتعتبر إحدى الجهات الإقليمية القوية الفاعلة بحكم الجوار، والامتدادات الثقافية واللغوية والمذهبية في شمالي وغربي أفغانستان، كما تحل ثانيا بعد باكستان في عدد اللاجئين الأفغان الذين استقبلتهم.
يبلغ طول الحدود بين أفغانستان وإيران نحو 945 كيلومترا، وأبرز المعابر فيها هو معبر إسلام قلعة، ومعبر أبو نصر فراهي، اللذان يمر عبرهما جانب من التجارة مع أفغانستان.
باستثناء فترة الحكم السابقة لطالبان، ظلت إيران تبني وتدعم المدارس والمساجد والمراكز الموالية لها في أفغانستان، ويتركز الكثير من هذا النشاط في شمالي وغربي أفغانستان، بالإضافة إلى العاصمة كابل. وقد تلقت المدارس الأفغانية آلاف الكتب الإيرانية، وتبنى كثير منها قيم الجمهورية الإسلامية.
وتنتهج إيران نهجا براغماتيا مع حركة طالبان، فقد سبق وتعاونت مع أميركا لإسقاط الحركة عام 2001، حين كان لطهران وواشنطن مصالح متقاربة في أفغانستان تتطلب الإطاحة بطالبان في ذلك الوقت، ثم عادت طهران بعد فترة لفتح جسور مع طالبان بعد تصاعد أزمتها النووية مع واشنطن.
حرصت إيران على صياغة علاقة مع طالبان في السنوات الأخيرة، واستضافت قادة من الحركة، وقدمت لهم السلاح والدعم المالي، مقابل تساهل الحركة مع الشيعة الأفغان، ولا سيما أقلية الهزارة، ولهذا السبب سقطت معاقل الهزارة في وسط أفغانستان بيد طالبان دون قتال أو مواجهات.
وتبدو إيران منفتحة أكثر للتعامل مع حركة طالبان بعد الانسحاب الأميركي، وسيعتمد مدى مشاركتها على موقف طالبان تجاه إيران، وتعاملها مع الشيعة الأفغان.
اللاجئون والمياه
على النقيض من تعامل أفغانستان مع اللاجئين الأفغان المنتشرين في مختلف الأقاليم الباكستانية الأربعة، أقامت إيران معسكرات على الحدود لإيواء اللاجئين الأفغان الذين قصدوا أراضيها، وترى فيهم عبئا عليها، في حين يشكو هؤلاء اللاجئون من التمييز وسوء المعاملة على أيدي الحكومة الإيرانية، التي أرسلت بعضا من هؤلاء اللاجئين للقتال في سوريا ضمن “لواء الفاطميين”.
سبق أن اندلعت احتجاجات عديدة في أفغانستان لهذا السبب، كما سبق أن حاولت إيران استخدام التهديد بالترحيل الجماعي للأفغان كوسيلة للضغط على حكومة كابل لتبني سياسات مواتية للجمهورية الإسلامية.
وفقاً لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، تستضيف إيران حاليا 780 ألف لاجئ وطالب لجوء أفغاني، وسيقلل تحقيق الاستقرار في أفغانستان أيضاً من تدفق المهاجرين إلى إيران.
وإلى جانب قضية اللاجئين، ثمة نزاعات قديمة متجددة بين أفغانستان وإيران على تقاسم المياه فاقمتها أزمة الجفاف الأخيرة في البلدين، وتزايد التوتر بينهما مع إصرار أفغانستان على مواصلة بناء سدود على أنهارها، المتجهة إلى إيران لتعزيز قطاعها الزراعي.
وتسوية هذه القضايا الخلافية يملي على طهران اعتماد دبلوماسية تفاوضية مع حكومة كابل.
روسيا والـ “3ستان”
رغم عدم وجود حدود بين أفغانستان وروسيا، فإن الجوار قائم من خلال 3 من دول آسيا الوسطى التي استقلت مطلع التسعينيات عن الاتحاد السوفياتي السابق، وهي طاجيكستان (1345 كلم)، وأوزبكستان (144 كلم)، وتركمانستان (804 كلم)، حيث لا تزال موسكو هي القبلة الأولى لهذه الدول الثلاث الأعضاء في “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، وهي حلف عسكري تقوده روسيا التي تدير قاعدة عسكرية في طاجيكستان.
لا تزال روسيا تتذكر الحرب التي دامت عقدا من الزمن وخسرها الاتحاد السوفياتي ضد المجاهدين الأفغان بين عامي 1979 و1989. وظلت موسكو سعيدة وهي ترى الولايات المتحدة تتورط في المستنقع الذي سبق أن سقطت فيه، وكانت ترى أنه كان على الولايات المتحدة أن تتعلم من التاريخ أنه لا توجد قوة خارجية قادرة على غزو أفغانستان. لقد بذلت الولايات المتحدة قصارى جهدها للسيطرة على كابل، لكنها لم تستطع.
الهاجس الأمني يتصدر حسابات روسيا، وبالتالي حسابات تلك الدول في أفغانستان، فالقلق الرئيسي لروسيا هو ما إذا كانت أفغانستان قد تصبح ملاذاً آمناً للجهاديين من منطقة القوقاز، لا سيما لما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية، أعداء كل من روسيا وطالبان. لذلك، أدركت موسكو قوة طالبان وسارعت إلى التعامل معها حتى قبل بدء القوات الغربية بالانسحاب من أفغانستان في مايو/أيار الماضي.
وتسعى موسكو للتواصل مع طالبان لضمان أمنها السياسي، ومن ناحية أخرى هناك زيادة في عدد القوات الروسية في طاجيكستان، إضافة إلى تعاون عسكري مكثف مع طاجيكستان وأفغانستان لمنع عناصر الجماعات المسلحة من القدوم إلى دول آسيا الوسطى عبر الأراضي الأفغانية.
الصين حاضرة
الانسحاب الأميركي من أفغانستان أعطى الصين دفعة معنوية وسياسية في ملفات كثيرة، يتصدرها ملف تايوان وهونغ كونغ، ورأت بكين في الانسحاب الأميركي من أفغانستان رسالة لانفصاليي تايوان، مفادها “مخطئ من يطمئن للغطاء الأميركي”.
رغم أنها صاحبة أقصر حدود مع الجار الأفغاني (76 كلم)، مقارنة مع بقية الدول الخمس المحيطة بأفغانستان، فإن الصين لديها أكبر طموح اقتصادي في أفغانستان، صاحبة الموقع الإستراتيجي البالغ الأهمية لمشروع “الحزام والطريق”، والذي يشمل التجارة ومشاريع البنية التحتية في كل من إيران وباكستان.
كما أن أفغانستان الغنية بثروة معدنية هائلة متنوعة يسيل لها لعاب المتنافسين، خصوصا ما لديها من معادن نادرة تدخل في صناعة الشرائح الدقيقة والتقنيات المتطورة.
تمتد الفرص الاقتصادية المتوقعة لبكين في أفغانستان أيضا إلى مشاريع إعادة الإعمار والبنية الأساسية حال استقرار الدولة. وذكرت صحيفة “غلوبال تايمز” (Global Times) الصينية المتخصصة في الشؤون الدولية في 24 أغسطس/آب الماضي، أن الشركات الصينية الخاصة “تتوق إلى الاستفادة من سوق تفتقر لآلاف الأشياء”.
في هدوء ودون جلبة، تسعى الصين لتحقيق مصالحها وتطلعاتها الاقتصادية في أفغانستان، وتمهيدا لذلك حرصت على علاقاتها الدبلوماسية ومجاملتها لطالبان في الآونة الأخيرة، وتبدو مطمئنة إلى أن أفغانستان في ظل طالبان لا تشكل خطرا عليها بل العكس، وتبدو باكستان عرابها في ذلك بحكم العلاقة المميزة بين بكين وإسلام آباد.
قواسم مشتركة
هناك قاسم مشترك بين الصين وإيران بشأن اهتمامهما بمخلفات الاحتلال الأميركي لأفغانستان، خصوصا ما يتعلق بتكنولوجيا السلاح الأميركية التي خلفتها الولايات المتحدة، والتي أصبحت الآن في أيدي طالبان، فتلك الدول حريصة على الوصول إلى تلك الأسلحة وتحليلها، والاستفادة منها في برامج التصنيع العسكري الخاصة بها.
وأما القاسم المشترك في حسابات دول الجيران الست فهو تحقيق الأمن والاستقرار في أفغانستان لضمان مصالحها وتطلعاتها الاقتصادية، بدءا من البنية الأساسية والإعمار والتعدين، وغيرها من الفرص الاستثمارية في دولة لا تزال مجالات التنمية الاقتصادية فيها بكرا.
ومن المرجح بعد مواقف المراقبة والتأني والانتظار والتعاون أن تشهد الأيام المقبلة سباقا بين دول الجوار وغيرها للاعتراف بحكومة طالبان بعد اللغة التصالحية الصادرة عن الحركة.
ومن المرجح أيضا أن تعزز الصين وروسيا -أكبر قوتين إقليميتين- بصمتهما الدبلوماسية والاقتصادية داخل أفغانستان، مع الاستثمار الذي يؤدي إلى زيادة التجارة البينية والاتصال بالبنية التحتية من أجل تعزيز الروابط بين آسيا الوسطى وأفغانستان وباكستان وإيران، عن طريق مشروع “الحزام والطريق” الصيني.