ألبوم «بعل»: ديفيد بوي يغني قصائد بريخت

في قائمة ألبومات ديفيد بوي الطويلة نجد ألبوم «بعل» الذي أصدره المغني البريطاني الراحل عام 1982، بعنوان أول مسرحيات الكاتب الألماني برتولد بريخت، وكان في العام نفسه بطلاً لنسختها التلفزيونية من إنتاج «بي بي سي»، حيث جسد شخصية «بعل» الشاعر القاتل وزير النساء اللاأخلاقي، باغترابه الرهيب عن مجتمعه ونفوره من الواقع السائد، واحتقاره الشديد للبورجوازية، […]

ألبوم «بعل»: ديفيد بوي يغني قصائد بريخت

[wpcc-script type=”5efe384b21027d2db03d8633-text/javascript”]

في قائمة ألبومات ديفيد بوي الطويلة نجد ألبوم «بعل» الذي أصدره المغني البريطاني الراحل عام 1982، بعنوان أول مسرحيات الكاتب الألماني برتولد بريخت، وكان في العام نفسه بطلاً لنسختها التلفزيونية من إنتاج «بي بي سي»، حيث جسد شخصية «بعل» الشاعر القاتل وزير النساء اللاأخلاقي، باغترابه الرهيب عن مجتمعه ونفوره من الواقع السائد، واحتقاره الشديد للبورجوازية، لكن المسرحية التلفزيونية لا تحتوي على القصائد المغناة كاملة، ولا نسمع فيها سوى فقرات قصيرة متقطعة، وموزعة زمنياً بشكل متباعد، من «نشيد بعل» وبعض القصائد الأخرى، أما الألبوم فيضم القصائد الخمس الكاملة، التي يغنيها بوي مترجمة إلى اللغة الإنكليزية، عن النص الألماني الأصلي، بمصاحبة موسيقى دومينيك مولداوني، وهي (نشيد بعل، وتذكر ماري آ، وأغنية المغامرين، والفتاة الغارقة، والأغنية البذيئة).
قام بوي بضم قصيدة «تذكر ماري آ» إلى العمل، على الرغم من أن بريخت كتبها بعد سنوات من كتابة مسرحية «بعل» عام 1918، ربما لأنها تلائم طبيعة شخصية بعل، وعلاقته بالنساء وإحساسه بالحب، ولأنها من أجمل قصائد بريخت أيضاً، ولا نعلم إذا كان بريخت قد فعل الأمر ذاته، عندما عرض مسرحية «بعل» للمرة الأولى في العشرينيات.
وكما كان بريخت مسرحيا مهماً وموسيقيا إلى حد ما، فإن ديفيد بوي كان كاتباً أيضاً، بالإضافة إلى كونه موسيقيا ومغنيا، ولم يكن كاتبا عاديا، بل كان غريباً، مثل بريخت أو أكثر غرابة، أما المسرح فقد كان حلمه منذ طفولته، ولم يكن يرى نفسه سوى أحد صناع المسرح الموسيقي والغنائيات العالمية الكبرى، كما يروي في حواراته التلفزيونية، لكن القدر أراد له أن يكون من أكبر نجوم الروك في العالم والتاريخ، هذه النجومية الساحقة التي حظي بها لم تجعله ينسى شغفه بالمسرح، فأخذ يُظهر موهبته كمسرحي، ويخلق شخصية جديدة مع كل ألبوم يصدره، ثم يجسدها على خشبة المسرح في حفلاته أثناء الغناء، بمساعدة الملابس والماكياج والإكسسوار، ولون الشعر وطريقة تصفيفه، مثل شخصية زيغي ستاردست وميجور توم، مع قدرته الهائلة على الأداء التمثيلي، فإن ملامح وجه ديفيد بوي ما هي إلا مزيج من الشعر والدراما والموسيقى، وكان بارعا في تجسيد شخصية «بعل» في المسرحية التلفزيونية، وفي إتقانه لكل ما يتطلبه أداء الممثل جسديا، على وجه التحديد في مسرح بريخت، الذي هو ضد المسرح الدرامي تماماً، فلا يخاطب مشاعرنا ولا يهتم بها، وربما لا يعبأ بنا أساساً، ويتعمد التغريب والبعد عن الاندماجية، وتحديد خيال الممثل بشكل كبير قد يصل إلى درجة الإلغاء.

وكما كان بريخت مسرحيا مهماً وموسيقيا إلى حد ما، فإن ديفيد بوي كان كاتباً أيضاً، بالإضافة إلى كونه موسيقيا ومغنيا، ولم يكن كاتبا عاديا، بل كان غريباً، مثل بريخت أو أكثر غرابة

لكن ديفيد بوي لم يلتزم بكل ذلك في الألبوم، وكان الغناء على طريقته وبأسلوبه الخاص، فمنحه قدرا من المشاعر، لم تتمكن بالطبع من محو أثر بريخت، لكنها جعلت القصائد أكثر بساطة وقرباً، وانسجمت موسيقى الفنان البريطاني دومينيك مولداوني مع موسيقى أشعار بريخت وإيقاعها إلى حد بعيد، ما سهّل الاستماع إليها، على العكس من بعض التجارب الأخرى العصيبة التي لا تمتزج فيها الموسيقى مع الشعر، ويبدو أن ديفيد بوي كان معجباً ببرتولد بريخت كمسرحي وشاعر، ويظهر ذلك في حرصه على إصدار هذا الألبوم، الذي يخالف ذوق جمهوره الضخم حول العالم، من محبي موسيقى الروك والبوب، ولعل أهم ما يجمع بين ديفيد بوي وبرتولد بريخت إلى اليوم، هو الغموض والتفسيرات الفنية المتضاربة لفن كل منهما.
تصطبغ مسرحية «بعل» بالماركسية، رغم إنها كتبت في فترة تسبق مرحلة الماركسية الصريحة في إبداع بريخت، فنجد فيها نقدا لاذعا قاسيا للبورجوازية، ولا نفهم إذا ما كان بريخت يريد مدح البروليتاريا كنموذج مقابل أم ماذا، فإن شخصية «بعل» كريهة إلى أقصى درجة شكلاً وجوهراً، بداية من عدم الاعتناء بالنظافة والمظهر، وانتهاء بدفع بعض عشيقاته إلى الانتحار، وقيامه بقتل صديقه الوحيد بقسوة ووحشية، وفي أغنيات الألبوم نجد الكثير من علامات لاأخلاقيته مثل قصيدة «الأغنية البذيئة»، التي تعبر عن عدم احترامه للمرأة واحتقاره لجسدها، وتعمد إلى إذلال ذلك الجسد وإهانته، وكأن هذا الشاعر يكره الجمال ويرغب في تحطيمه دائماً، وكذلك قصيدة «الفتاة الغارقة» التي تصف عملية انتحار إحدى عشيقاته، وموتها البطيء غرقا، أما أغنية «نشيد بعل» الطويلة فتعبر عن حالة اغترابه الشديدة واللانهائية، وحتى قصيدة «تذكر ماري آ» التي تعد من أجمل أغنيات الألبوم بأداء ديفيد بوي الرائع، وبما تحتوي عليه من صور شعرية رقيقة، وإن كانت رغم رقتها تعبر عن جمود مشاعر بعل وبلادتها، حيث تذكره سحابة بماري التي لا يتذكر وجهها، لكنه يتذكر أنه قبل هذا الوجه، أما القبلة نفسها فإنه لا يتذكرها.

٭ كاتبة مصرية

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *