أساس الانتخابات الأميركية، أو أي عملية انتخابية، هو التواصل المباشر بين المرشحين والناخبين، وفي عملية الاقتراع نفسها. هذا التفاعل غير ممكن حالياً، في ظلّ إجراءات التباعد الاجتماعي التي تحظر التجمعات في الولايات المتحدة. التحوّل الجذري لانتشار فيروس كورونا يترك تداعيات فورية على السباق الرئاسي وانعكاسات طويلة المدى على دينامية السياسة الداخلية الأميركية.
أول تحدٍّ هو أمام الجهات المنظمة لهذه الانتخابات الرئاسية، أي الحزب الديمقراطي والسلطات المحلية في الولايات، ويتمثّل بعدم وجود جدول زمني لانتهاء هذه الأزمة الصحية العامة، وبالتالي مسار العملية الانتخابية معلّق في المدى المنظور. اتخذت 13 ولاية على الأقل، ولا سيما أوهايو المحورية، قراراً بتأجيل الانتخابات التمهيدية، بحيث كان عليها أن تختار بين ضمان الصحة العامة والتزام جدول الانتخابات. لكن هناك ولايات أخرى، مثل أريزونا وفلوريدا وإيلينوي، أجرت انتخاباتها في موعدها، في 17 مارس/ آذار الحالي. وهناك 23 ولاية لم تقترع بعد في مسار انتخابي يجب أن ينتهي قبل انعقاد المؤتمر القومي للحزب الديمقراطي بين 13 و16 يوليو/ تموز المقبل في مدينة ميلووكي بولاية ويسكونسن، لتكريس اختيار ممثل الحزب في المواجهة الانتخابية مع الرئيس دونالد ترامب. هذه الولايات التي لم تقترع بعد، تحاول شراء الوقت عبر تأجيل موعد التصويت بانتظار تبلور معطيات جديدة عن طول فترة التعامل مع فيروس كورونا.
وهناك ولايات أخرى، مثل ويسكونسن، لم تحسم بعد مسألة التأجيل، لكنها تواجه تحديات، مثل النقص في العاملين في مراكز الاقتراع، لأنّ أغلبيتهم من كبار السن، الفئة الشعبية الأكثر عرضة لمخاطر الفيروس، واحتمال حصول تعطيل محتمل للتصويت الغيابي إذا أُغلِقَت خدمة البريد الأميركي الذي يواجه تعثرات مالية نتيجة انعكاسات انتشار كورونا.
كلما طالت هذه المرحلة، ازداد معها التشنج بين الحزب الديمقراطي والسلطات المحلية في الولايات التي لم تقترع بعد. والتحدي هو التأقلم مع تحدي إجراء الانتخابات خلال مرحلة انتشار الوباء، وتحديد التكلفة المالية المحتملة لهذا الأمر. علماً بأنّ هذا الجمود في العملية الانتخابية لا يقتصر على الانتخابات الرئاسية، بل على لائحة طويلة من انتخابات الكونغرس التي تحسم الأكثرية التشريعية في الولاية الرئاسية الجديدة العام المقبل.
على المستوى السياسي، دخل المرشح اليساري بيرني ساندرز، في مرحلة صمت يعيد فيها درس حساباته وخياراته المتاحة، باعتبار أنه لم يعد قادراً حسابياً على حسم المعركة، مع متصدّر السباق، نائب الرئيس الأسبق، جو بايدن. فيروس كورونا كشف عيوب النظام الصحي الأميركي، وكان يمكن أن يساعد هذا الأمر ساندرز على إعادة خلط الأوراق في ظلّ توق نسبة كبيرة من الأميركيين إلى تغطية صحية شاملة في هذه المرحلة. بعدما فات الأوان حسابياً أمام ساندرز للفوز بالانتخابات التمهيدية، كان يراهن على البقاء في السباق لإجراء تسوية مع بايدن تؤدي إلى تكريس تحوّل خطاب الحزب الديمقراطي إلى اليسار، لكن كورونا طغى على هذه الحسابات، وفرض تدخلاً من الحكومة الفيدرالية لإنقاذ الاقتصاد على المستوى الذي كان يطمح إليه ساندرز.
بايدن أيضاً كان الغائب الأكبر عن الساحة السياسة خلال الأسبوعين الأخيرين، ولم يعرف بعد كيف يتأقلم مع هذه المرحلة، في ظلّ صعود نجومية حكام الولايات مثل حاكم ولاية نيويورك أندرو كومو الذي يتابع الأميركيون إيجازاته الصحافية يومياً حول انتشار كورونا في نيويورك. فيما إطلالة بايدن الأولى قبل أيام، كانت غير موفقة، إذ تحدّث من مكتبة منزله في ولاية ديلاوير، من دون أن يقدم أي إضافة ملموسة، ولا سيما أنّه ليس لديه دور رسمي بعد، وقدراته الخطابية محدودة. وكان يخشى أن يتهم بتسييس قضية انتشار الوباء. وهناك تسريبات من حملته تقول إنه سيبدأ خلال أسابيع مسار اختيار نائب للرئيس، بعدما تعهد بأن يكون امرأة، وهو يخطط لعقد إيجازات صحافية مع اختصاصيين لإعطاء صورة رئاسية مناقضة عن ارتباك تعامل الرئيس الحالي دونالد ترامب مع أزمة صحة عامة بهذا الحجم.
الأسابيع المقبلة هي الأقسى على أميركا من ناحية انتشار الوباء، والولايات تأخذ المبادرة في محاولات احتوائه، وبالتالي ستكون هذه المرحلة اختباراً كبيراً لرئاسة ترامب، وقد تحدد مصير بقائه في الحكم، إذا ما شعر الأميركيون بأنه أساء إدارة الأزمة الحالية. وفي آخر استطلاع مشترك لقناة “أي بي سي” وشركة “إيبسوس”، وافق 55 في المائة من الأميركيين على أداء ترامب في التعامل مع هذه المرحلة، ولا سيما أنه أعطى الانطباع في لعبة الرأي العام، بأنّ الأمور تحت السيطرة. لكنه عملياً، لم يأخذ مسألة انتشار الفيروس بجدية منذ بداية العام الحالي، كذلك ألغى عام 2018 وحدة مواجهة الأوبئة في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، وتأخّر في اتخاذ الإجراءات الوقائية الفيدرالية الضرورية التي نصحه بها الاختصاصيون في إدارته.
وفي حال انتشار الوباء على نطاق واسع في الأسابيع المقبلة، ولا سيما أن أميركا متأخرة عن أوروبا نحو شهر في ذروة الانتشار، فإنّ هذا سيضع أعباءً كبيرةً على القطاع الصحي والاقتصاد. وهو أمر قد يكون عاملاً رئيسياً في الانتخابات الرئاسية، إذا حصلت في وقتها، بحيث ستكون استفتاءً على تعامل ترامب مع كورونا، وعلى من هو أفضل مرشح لإخراج الولايات المتحدة من الركود الاقتصادي. وهذه معادلة غير مريحة لترامب، لأنه لم يعد من الممكن التنبؤ بما قد يحصل هذا العام.
أزمة كورونا تؤدي إلى ديناميات جديدة داخل واشنطن. هناك نزاع كبير داخل إدارة ترامب بين من يعطي أولوية لإعادة إنعاش الاقتصاد أو توقيف الحركة في البلاد لمدة طويلة، ومن يعتبر أن الأولوية يجب أن تكون لضمان الصحة العامة، وبالتالي يجب عدم التسرع في رفع حال الطوارئ. ترامب أقرب إلى الأولوية الاقتصادية، بحيث صرّح أخيراً، قائلاً: “لم يُبنَ بلدنا لإغلاقه. أميركا ستفتح أبوابها مرة أخرى للعمل قريباً جداً، في وقت أقرب بكثير من فترة ثلاثة أو أربعة أشهر”. كذلك هناك نزاع سياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين في مجلس الشيوخ على حجم رزمة التحفيز الاقتصادي الثانية، واللافت كان وضع فيتو من رئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، السيناتور ميتش مكونيل، على ملامح الاتفاق الذي كان يجري التفاوض عليه بين البيت الأبيض والديمقراطيين قبل التوصل إلى تفاهم. كورونا جعل التقارب بين ترامب والديمقراطيين ممكناً حول توسيع دور الحكومة الفيدرالية في إنقاذ الاقتصاد. الديون الفيدرالية الأميركية تجاوزت 23 تريليون دولار، وستصل إلى مستويات غير مسبوقة بعد الانتهاء من هذه الأزمة، في ظلّ ضرورة ضخّ الأموال في الأسواق، وتوفير الدعم للأميركيين لتخفيف تبعات الركود الاقتصادي المحتوم.