التشكيلية العراقية زينة مصطفى سليم: شخوص مُغايرة تمحي شظايا الألم

يروم المقال التالي مقاربة جانب من التصويرية الصباغية الخاصة عند التشكيلية العراقية المغتربة في كندا زينة مصطفى سليم المظفر، التي تعتز بمولدها في البصرة وبترعرعها في بغداد على ضفاف نهر دجلة، قبل أن تجد نفسها فجأة تعيش غربة قسرية بسبب ظروف بلدها، وما يشهده من محن وتناحر وانهيارات، غربة بمثابة حرب مقيتة جرَّدتها من طفولتها […]

التشكيلية العراقية زينة مصطفى سليم: شخوص مُغايرة تمحي شظايا الألم

[wpcc-script type=”587ceeb9e43f4e2bf6cb5aee-text/javascript”]

يروم المقال التالي مقاربة جانب من التصويرية الصباغية الخاصة عند التشكيلية العراقية المغتربة في كندا زينة مصطفى سليم المظفر، التي تعتز بمولدها في البصرة وبترعرعها في بغداد على ضفاف نهر دجلة، قبل أن تجد نفسها فجأة تعيش غربة قسرية بسبب ظروف بلدها، وما يشهده من محن وتناحر وانهيارات، غربة بمثابة حرب مقيتة جرَّدتها من طفولتها ومن أهلها وأصدقائها، كما تقول.
هذه «الحرب» جعلتها تقاوم وحيدة، وهي لا تملك من الأسلحة سوى فنها الذي تنتصر به على كل العقبات والمآسي، إلى جانب نصائح أبيها وبعض الذكريات المتلاشية المحفوظة في الذاكرة، وألبومات الصور و«كنانيش» المدوَّنات اليومية، وهي بالتأكيد حرب ملعونة أجبرت العراقيين (وغيرهم) وفرضت عليهم واقعاً جديداً بعد أن غرَّبتهم، ورمت بكثير منهم بعيداً عن وطنهم الأم ليستوطن الألم والوجع قلوبهم وأفئدتهم.
في ظل هذه الظروف الصعبة، وبمنحى تعبيري رمزي، ترسم زينة لوحات صباغية عميقة المعنى والمبنى، تتمحورها وجوه ذكورية شاردة تمحي شظايا الألم، وتقاوم جروح الوطن وأخطاء التاريخ، إلى جانب أخرى نسوية بملامح آشورية، مطرزة بخطوط مكثفة قائمة على القتامة والأحادية اللونية، إلى جانب اختيارات طيفية أخرى تتصل بقضايا إنسانية مصيرية همَّشها الخوف والفزع.


تجربتها عموماً، تتناظر تشكيليّاً (بمعنى ما) مع ما يُعرف بـ«التعبيرية الاجتماعية» في التصوير Peinture، التي أرسى دعائمها الفنان الألماني ماكس بيكمان، الذي طرده أدولف هتلر من بلاده بسبب ثيماته السياسية الساخرة، التي كانت تثير سخطه وقلقه، إضافة إلى أعمال الفنانين أوتو ديكس وجورج غروش، برسومهما التشاؤمية، التي كانت تنبذ الحرب بطرق احتجاجية شديدة لدرجة وصفت بـ«الموضوعية الجديدة» كامتداد لـ«جماعة القنطرة» Die Brücke التي دعت إلى تعزيز التصوير بمضامين تتلاءم مع النوازع الإنسانية، المتأثرة كثيراً بفن الرسام الإسكندنافي إدوارد مانش منذ تأسيسها سنة 1905 في درسدن في ألمانيا، كبديل عن الواقعية الانطباعية الفرنسية. غير أن تجربة الفنانة زينة تظل بارزة تتفرَّد بأسلوبها وطابعها الخاص في المعالجة والتعبير، لتبقى لوحاتها تمثل بذلك «تأشيرات مرور» نحو عوالم ميثولوجية مفتوحة على الإيحاء والترميز.
في أعمالها الفنية الرَّاهنة يمتزج اللون بقطرات الوجع، وتمسي الشخوص كائنات أسطورية، تتبادل حواديث يومية تكاد لا تنتهي، بل تحكي تحت مصابيح مضيئة فصولاً طويلة من محن أوطاننا العربية المأزومة والممزقة.. لتقف بذلك صارخة ضِدَّ ما تتعرَّض له هويتنا من محو وطمس ممنهج..
وبقدر ما هي كائنات، فهي كذلك صور وإسقاطات رمزية للذات في حدود تأثر الفنانة وانفعالها تجاه ما جرى ويجري من حولنا من ممارسات موجعة وأفعال وحشية، دمَّرت الإنسان والإنسانية معاً، بل لتعلن موقفها الجمالي النبيل من هذا الألم، الذي جعلت منه سنداً داعماً ومحفزاً على الخَلق والابتكار، أليس «الألم هو مفتاح الإبداع وطريق العبقرية»، كما يقول وليام جيمس؟
هكذا، وبجهد متواصل، رسمت زينة شخوصها الرمزية بوجوه شاحبة وبأعين جاحظة وأخرى مغمضة، منفكة أحياناً عن مواضعها الأصلية والطبيعية، لتصير لها وظائف أخرى غير الإبصار المباشر، بحيث تتحوَّل من أداة للرؤية إلى موضوع للمشاهدة، إلى جانب أنوف طويلة وأيادٍ بأصابع متشابكة تحمل كؤوساً أو وروداً، ورؤوس ملتصقة غير مألوفة تحتشد فيها خطوط الرسم بأسلوب التظليل والترميد والتهشير Hachures، فضلاً عن رسمها لنسوة ملوَّنات تعكس في سماتهن وسحناتهن حالات شعورية متعدِّدة، تحملها الوجوه المصاغة بأسلوب فني تطغى تعبيريته على تجريديته، وقد بَدَت جوانب من هذا الاشتغال جلية، ضمن تجربتها التي قدَّمتها قبل سنوات في مونتريال (معرض «سيدات الفصول»2011)، قبل أن تتلوها تجارب فنية أخرى مماثلة، جلها ظهر ضمن معارض جماعية في مدينة أوتاوا.
فما الذي تنطق به هذه الشخوص الصامتة، التي تكاد تخرج من اللوحة؟ لا شك في أنها تريد أن تقول لنا شيئاً مهماً.. أو تنبِّهنا إلى أمر في غاية الخطورة يتعلق بمصيرنا ووجودنا المهدَّد باستمرار. إنها شخوص قوية وضمائر حية تتحرَّك لإثبات قدرة البسطاء على قهر المخاوف المفتعلة، ومقاومة الواقع بخلق واقع آخر بديل، وكأنها تتواطأ مع الفلاسفة في ضرورة التغيير (أو التأويل) وفهم الفوضى السياسية التي تنخر عالمنا المعاصر.. لعلها بذلك تعلمنا معنى الحياة ومعنى أن نكون.. المرجح أن هذه الشخوص الأثيرة والموسومة بمسحة ميتافيزيقية تظلُّ تحيا وتعيش على إيقاع متاهات العزلة والغربة، كتجربة ليست سهلة وضعت الفنانة زينة على المحك، ومنحتها مناعة وصلابة إبداعية إضافية، للدفاع عن جذورها والتعبير عن قلقها اليومي بمفردات أيقونية جديدة تتمدَّد داخل تصويرية تعبيرية مؤسسة على الفكر، ومفعمة بسرديات بصرية كثيرة تتباين من لوحة لأخرى، لكنها تظل مع ذلك وفية لأبعادها الجمالية، التي تنتقد أعطاب التدبير التراجيدي للوجود الإنساني الحديث والمعاصر.
من داخل هذه الغربة، خرجت التشكيلية زينة سليم منتصرة لقناعاتها ومبادئها كفنانة وإنسانة أولاً، مستفيدة من هذا الدرس العسير، انسجاماً مع كلام الروائي الليبي إبراهيم الكوني: «ليس من إنسان عظيم بدون امتحان عظيم، وليس من إنسان عظيم بدون ألم عظيم».

٭ ناقد تشكيلي من المغرب

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *