التشكيلي العراقي محمد المندلاوي: الخروج عن سياق التنميط في رؤية الحدث الواقعي

قيمة اللوحة تبقى في أنها تحمل في داخلها مستويات مختلفة من الأفكار والمضامين ونحن نتأملها، وهذا ما يمنحها مرونة في عملية التلقي لا تخضعها إلى حدود اللحظة الزمنية، التي نقف أمامها، هذه الخاصية أبرز ما أنتجه الفن الحديث منذ نهاية القرن التاسع عشر بالشكل الذي منح اللوحة فرصة أن تبقى فترة طويلة في ذاكرة المتلقين، […]

التشكيلي العراقي محمد المندلاوي: الخروج عن سياق التنميط في رؤية الحدث الواقعي

[wpcc-script type=”14e5b315dd29a7a6c756f9c1-text/javascript”]

قيمة اللوحة تبقى في أنها تحمل في داخلها مستويات مختلفة من الأفكار والمضامين ونحن نتأملها، وهذا ما يمنحها مرونة في عملية التلقي لا تخضعها إلى حدود اللحظة الزمنية، التي نقف أمامها، هذه الخاصية أبرز ما أنتجه الفن الحديث منذ نهاية القرن التاسع عشر بالشكل الذي منح اللوحة فرصة أن تبقى فترة طويلة في ذاكرة المتلقين، في محاولة منهم لأجل فك طلاسمها، والعثور على ما يود الفنان إيصاله من أفكار، وهذه العملية ستبقى قائمة، كلما أعادوا النظر إلى اللوحة وحاولوا قراءتها.

مغامرة فنية ضد القهر

بناءً على هذا السياق المغلَّف بمسحة من الغموض، يتجه الرسام العراقي الشاب محمد المندلاوي في باكورة ظهوره في المشهد العام، وما يميز هذا الظهور أنه لم يأت وفق السياق التقليدي الذي تعودنا عليه، حيث تبدأ الخطوة الأولى بأن يقدم الفنان نفسه في معرض يقام على صالة مخصصة لعرض الأعمال التشكيلية، بذلك تكون الفرصة متاحة لتجربته في أن تخضع لرؤية النقاد والعاملين في ميدان الفن التشكيلي، إلاَّ أن المندلاوي اختار أن يقدم نفسه في الفضاء الخارجي، مستثمرا جدران نفق ساحة التحرير وسط العاصمة العراقية بغداد، ولم يكن خياره هذا منبثقا من رغبة في التميز أو ميل إلى الارتماء في مساحة من الغرابة والاستعراض النرجسي، إنما يأتي خياره هذا انسجاما وتماهيا مع وعي الحراك الشعبي، الذي انطلق في الأول من شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 ضد فساد النظام السياسي القائم في العراق، وليس هذا وحده ما دفعه إلى ذلك، إنما تأتي مغامرته الفنية باعتبارها موقفا رافضا لرد الفعل العنيف والوحشي، الذي واجه به النظام الفعل السلمي للشباب المتظاهر في مدن العراق، منذ اللحظة الأولى لانطلاق الاحتجاجات في ساحة التحرير.
ليس وحده المندلاوي من اختار الابتعاد عن صالات العرض، والنزول بفنه إلى الشارع، فهناك العديد من الفنانين الذين انسجموا مع هذا الموقف، وعبروا فعليا عن انتمائهم إلى هذا الخيار، ومنهم من قطع مسافات طويلة جدا لأنه يعيش مغتربا خارج العراق، وآثر أن يكون جزءا من هذا التحول في الوعي، الذي عبّر عنه جيل الأول من أكتوبر.

البورتريه والحدث

التقطت عين المندلاوي مشاهد القسوة التي عبَّرت عنها الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة ضد المتظاهرين، وأدت بالنتيجة إلى أن يتعرضوا بسببها إلى وابل من الرصاص الحي، وقنابل غاز مسيلة للدموع، التي كانت توجَّهُ مباشرة إلى رؤوس ووجوه المحتجين، لتحدث أثرا مباشرا، فتركت آثارا مدمرة على الضحايا، وبسبب ذلك فقد الكثير منهم حاسة النظر، بعد أن اخترقت قنابل الغاز محاجر عيونهم، كما تشوهت وجوه وأجساد الكثير منهم، إضافة إلى ارتفاع أعداد من القتلى بين صفوفهم، فكانت هذه الصور الواقعية قد انسحبت بقوة إلى ذاكرة المندلاوي، وتركت فيها أثرا عميقا ومؤلما، لذا كان من المنطقي أن يعبِّر عنها بعدد من اللوحات اختار لها صيغة البورتريه، خاصة أنه كان متواجدا، ومايزال وبشكل يومي مع المتظاهرين، ويعرف العديد ممن سقطوا ويتساقطون يوميا في الميادين.


أطروحة المندلاوي الفنية في محاولته التقاط الفكرة من خلال وجوه الشباب الذين اغتالتهم أجهزة السلطة والميليشيات، تمثلت في إعادة بناء الحدث بأسلوب تعبيري من خلال تركيزه على الوجوه فقط، وكأنه أحال هذه الوجوه إلى سجل يومي يتضمن تفاصيل الجريمة التي وقعت، ويكفي بالنسبة له لكي يوصل الإحساس ببشاعة ما جرى أن يقتطع من المشهد العام بكل حشوده المتلاحمة، في لحظة زمنية ملحمية، وأن ينعتق من زخم التفاصيل المتحركة، ويهتدي إلى ذاكرة الوجوه بما يتجوهر فيها من أحاسيس خلفتها اللحظات الأخيرة، فكانت بالنسبة للمتلقي أقرب دلالة للانتقال من الخاص إلى العام.

المندلاوي في عملية سرد حكايات شخوصه قد اعتمد على وجوههم فقط ولا شيء آخر، فكان الاشتغال الفني لديه مرتكزا على دلالة واحدة (الوجوه) لكنه تمكن من أن يتحكم بها فنيا وفقا لطبيعة ما واجهته من وحشية قبل موتها

وجوه غير متشابهة

استغرق المندلاوي طويلا في تفرس الوجوه، حسب حديث جرى بيني وبينه فجمع العديد من الصور الفوتوغرافية، ومقاطع فيديوية عن الضحايا الشباب الذين ينتمون إلى مدن عراقية مختلفة، وحاول أن يلتقط من خلالها ما يشير إلى اختلاف كل وجه عن الآخر، حتى يصل إلى ما هو مشترك بينها، فكشف في لوحاته عن ما يجمعها، في لحظات فاصلة كانت الوجوه فيها تنتقل من الحياة إلى الموت، ومن الموت إلى الحياة حتى بعد الموت، فنقل عنها ومن خلالها إيحاءات متنوعة ومختلفة، قدمها لنا في أوضاع تحيل ذاكرتنا إلى ما هو خارج زمن اللوحة إلى حيث الزمن المنفلت في الواقع لتدمير العلاقة بين الإنسان المرتبط بعجلة السلطة، والإنسان المرتبط مع تطلعات الناس المهمشين، الذي لا يخضع إلاَّ لصوت الحرية الكامن في داخله ويستجيب له بدون أن يقع أسير مخاوف السقوط في لجَّة الموت.
التركيبة الفنية التي انساق إليها المندلاوي في التركيز على الوجوه، تبدو للوهلة الأولى تحمل تكرارا، لكن المنحى الذي تشكلت فيه تمكن من خلاله، أن يخلق لدى المتلقي انطباعات مختلفة، تحفر في داخله مشاعر تأخذه إلى لحظة أقرب إلى لحظة التطهير الأرسطي، بفعل جسامة وهول المأساة التي باتت تبتكر أيامها بشكل متوال بكل قسوة، وهنا لم يكتف المندلاوي في أن يحيل مكونات الصورة إلى دلالتها الواقعية، باعتبار أن الحدث الواقعي له سلطة إيحائية ذات بعد مؤثر يصل في مستوياته الحسية إلى أبعد مما هو فجائعي، بل حاول الأخذ بملامح الشخوص إلى مستوى من التشكيل الغرائبي في حدة قسمات الوجوه، كما لعب على التضاد اللوني وحيوية دوره في إضفاء الحضور الحاد لتفاصيل اللوحة.
ليس من السهل أن تتعامل مع الجدران في الفضاء الخارجي، وأنت لا تعتمد في خطابك الفني على الرسائل المباشرة في إيصال ما تود إيصاله من أفكار عبر الألوان والأشكال، من هنا فإن المندلاوي في عملية سرد حكايات شخوصه قد اعتمد على وجوههم فقط ولا شيء آخر، فكان الاشتغال الفني لديه مرتكزا على دلالة واحدة (الوجوه) لكنه تمكن من أن يتحكم بها فنيا وفقا لطبيعة ما واجهته من وحشية قبل موتها، وهذا ما مكَّنه من أن يؤسس تفاصيل غير متشابهة في حركة خطوط الوجوه وحِّدة ألوانه الصارخة، التي تتوزع بين الأحمر والأسود والأخضر للتعبير عن المحتوى الإنساني، فالنص البصري لديه يشتغل على تأسيس رؤية فنية تستعين قوتها من جسامة الحدث العام الواقعي، الذي يستقل بحضوره عن اللوحة، لكنه يدخل في ذاكرة الملتقي، طالما لا يستطيع الانفصال عنه وعن سطوة حضوره، خاصة أنه مايزال يتفاعل معه ومع زمنه.

موجة جديدة

من يراقب حركة ونشاط الفنانين، خاصة الشباب الذين لم يكن لهم حضور يذكر في المشهد التشكيلي العراقي، على مستوى المعارض على وجه الخصوص، سيلاحظ أن هناك موجة جديدة في تيار الفن التشكيلي، ليس لها مرجعية أبوية تعود إلى الأجيال التي سبقتهم، من حيث أساليب العمل والمدارس الفنية، كما أنها تحاول أن تبني لنفسها خطابا فنيا، قائما على تفاعل حي مع حركة الحياة، ومن هنا يأتي تصورها الكلي عن طبيعة الفن ووظيفته، فهي لم تعد معنية فقط في أن تطرح نتاجها أمام نخبة من الفنانين والنقاد بين أربعة جدران، حتى يكتشفوا فرضياتها الفنية، كما هو الحال لدى المندلاوي وزملائه، إنما هناك سعي جاد لدى هذا الجيل، من أجل أن تكون له مفاهيمه الخاصة أزاء وظيفة الفن، إضافة إلى البحث عن وسائط جديدة للعرض.

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *