التينور الألماني يوناس كاوفمان: الصوت الأوبرالي الأول في العالم
[wpcc-script type=”3020a9c741615f977cd75a3d-text/javascript”]

للتينور الألماني يوناس كاوفمان، الذي يعد الأول في العالم حاليا، الكثير من الألبومات التي تعمل على تقريب فن الأوبرا وتفكيكه، وتقديمه للمستمع بشكل بسيط، وتوصيله إلى أكبر عدد ممكن من المتلقين، وخلق نوع آخر من عملية التلقي لهذا الفن، وتحقيق الاستمتاع بالآريات الشهيرة المكتوبة لصوت التينور، بدون الحاجة لمتابعة الأوبرا بأكملها والاستماع إلى الأصوات الأخرى، التي ربما لا يحبها البعض، كما تتيح للمستمع التعرف على الكثير من الأوبرات المهمة في وقت قصير، وهو يقوم على إعداد هذه الألبومات وتنفيذها بدقة بالغة من ناحية الاحترافية التقنية والمستوى الفني الرفيع، وكذلك اختياراته التي يحرص على أن تكون مترابطة ومتصلة في ما بينها بموضوع وفكرة محددة، ومكرسة لأعمال موسيقي معين مثل فيردي وبوتشيني، أو لغة واحدة كما في ألبوم «الأوبرا» 2017 الذي احتوى على أجمل آريات الأوبرا الفرنسية، التي تحظى بأهمية كبرى، إلى جانب الأوبرا الإيطالية.
فن الاوبريت
ويمكن القول بأن هذه الألبومات صنعت له جمهورا آخر حول العالم، غير جمهور الأوبرا التقليدي الذي يذهب لمشاهدته على خشبة المسرح، وكانت البداية عام 2007 بألبوم «آريات رومانسية»، أما أحدث هذه الإصدارات فكان ألبوم «فيينا» الذي أطلقه عام 2019 وخصصه بالكامل لفن الأوبريت الذي عرف ازدهارا هائلا في فيينا عام 1920، وقد غنى في هذا الألبوم بعض القطع المرحة التي تمنح المستمع تصوراً عن الأجواء الموسيقية الغامرة في ذلك الزمن القديم.
من حنجرة كاوفمان تنبعث موسيقى وفلسفة ودراما وروايات وأساطير، وبصوته نستمع إلى أهم الأوبرات الألمانية والإيطالية والفرنسية، وما أبدعه العظماء منذ قرون في هذا الفن، ونستمتع بجمال صوته المطلق، وإحساسه المتوقد، الذي يغمرنا بفيض من المشاعر، وتقنياته التي يعمل طوال الوقت على تطويرها، ويبذل الجهد الدائم بإرادة جبارة، تجعله يتخطى التحديات وينتقل من الصعب إلى الأصعب، فاللغة الفرنسية، على سبيل المثال، كانت تحديا كبيرا أمامه في السابق، ووقفت حائلا بينه وبين الأوبرات الكبرى، التي وضعها عظماء الموسيقيين الفرنسيين، ثم بدأ يغني بها عام 2001 بتعثر ومعاناة إلى أن أتقنها، وصار يؤدي ببراعة مذهلة الأدوار الرئيسية في أشهر الأوبرات الفرنسية، مثل كارمن وفاوست، وتميز في أداء أجمل آرياتها التي كانت من أسباب شهرته الواسعة، وقد نجح أيضا في أن يذهب بصوته بعيدا ليجعل منه ذلك الصوت الذي يستطيع أن يغني أي شيء مهما كانت درجة صعوبته، وأن يؤدي أعقد وأعظم أدوار الأوبرا على أهم مسارح العالم، واكتسب القدر والمكانة الفنية الرفيعة كصوت تاريخي نعاصره الآن، واسم مهم سيضاف يوما إلى قائمة الخالدين من أصحاب صوت التينور التي تبدأ باسم «كاروسو»، وتتمثل أحدث إنجازاته الفنية وخطواته الكبرى في أنه تمكن مؤخرا من أن يكون بطلا لأوبرا «عطيل» التي نادرا ما يتم عرضها، نظرا لتعذر العثور على صوت التينور الذي يستطيع غناء هذه الدراما الموسيقية المعقدة، بتحولاتها العنيفة وصراعاتها الشعورية والجمل الطويلة والامتداد الموسيقي والغنائي الصعب، وقد عرضت هذه الأوبرا العظيمة للمرة الأولى في تاريخها على أرض مصر في الأوبرا الخديوية، وكان الخديوي إسماعيل هو السبب وراء ظهورها، وصاحب فكرتها وممولها بطبيعة الحال، فهو من طلب من الموسيقي الإيطالي فيردي القيام بتحويل حكاية القائد المغربي القوي والعاشق الغيور التي كتبها شكسبير في مسرحية «عطيل» إلى أوبرا.
وفي أوبراته المصورة نرى ما يتمتع به كاوفمان من قدرات في الأداء التمثيلي المليء بالخيال، بالإضافة إلى فهمه العميق للشخصيات التي يجسدها وتماهيه معها إلى حد بعيد،
التينور الرياضي
ولا شك في أن لصوت التينور بشكل عام رونقه وسحره الخاص، الذي قد لا يضاهيه أي صوت آخر في عالم الغناء الأوبرالي، وهو الصوت البطل في أغلب الأوبرات، وتأتي بقية الأصوات في الأدوار المساندة له، ومن أجله ألف العظماء أجمل الموسيقى، كما أنه يجسد أعلى درجات الحب والبطولة والدراما والجمال الرجولي، وهو أيضا أعلى وأقوى الأصوات لدى الذكور من المغنين، وكم من أوبرات كتبت لهذا الصوت في الأساس، وكان هو الشخصية الرئيسية فيها ومركزها الدرامي، ورغم أن هذا الصوت هبة طبيعية إلا أنه يصقل وتعاد صناعته بالجهد المستمر بدون توقف، وبالتدرب الشاق اللانهائي، فالتينور هو أقرب ما يكون إلى الرياضي المحترف، لذا نجد أصحاب هذا الصوت على درجة كبيرة من الجدية والصرامة والالتزام الفني، كما أنه يكون معرضا للإصابة والتوقف وإلغاء العروض في بعض الأحيان من أجل الحفاظ على الحنجرة ومعالجتها، ويكون في متابعته درجات من المتعة والإثارة ولحظات من القلق والفرح الشديد، وكل هذه الأمور التي يختبرها عشاق كرة القدم على سبيل المثال، فرغم متابعة مهارات لاعبهم المفضل بشغف طوال المباراة، إلا أن شعور الفرح بتسجيل الهدف لا يعادله أي شعور آخر، هكذا يكون الأمر أيضا لدى محبي الأوبرا، والهدف الذي يسجله التينور هو تلك النوتة المرتفعة «هاي سي» التي يكون لها أثر السحر في نفوس الجمهور، ويصل الحماس والتشجيع والتصفيق إلى أقصى مدى، وربما يظل في حالة انتظار دائم لها، رغم استغراقه في الحكاية الدرامية واستمتاعه بالغناء والموسيقى بشكل عام.
وفي أوبراته المصورة نرى ما يتمتع به كاوفمان من قدرات في الأداء التمثيلي المليء بالخيال، بالإضافة إلى فهمه العميق للشخصيات التي يجسدها وتماهيه معها إلى حد بعيد، فيجعلنا على سبيل المثال نؤمن بأنه هو «كافارادوسي» الحقيقي بطل أوبرا «توسكا» التي يراها البعض الأوبرا الأعظم في العالم، بتعبيريتها الموسيقية والغنائية والدرامية، ومن أجمل آرياتها التي يغنيها هي E lucevan le stelle وفيها يمتزج سحر الموسيقى بقوة التأثير الدرامي والنوتات الغنائية الشاعرية لصوت التينور، وهي أغنية البطل في محبسه قبل إعدامه، عن حبيبته توسكا التي يتذكر عطرها وقبلاتها الرقيقة وخطواتها التي تنتهي إلى أحضانه، ويجد أن حياته لم تكن تعــني شــيئا ســـوى ذلك الحب، وأنه الشيء الوحيد الذي يستحق البكاء والحزن على فقده، والمذهل في هذه الآريا أنه يغني النوتات المرتفعة بصوت يكاد يكون محطما متهدما يناسب الإحساس بالموت والهزيمة، ومن أوبرا كارمن الشهيرة يبدع في غناء «الزهرة التي ألقيتها إليّ» بغضب وعنف حيث يواجه خوسيه معشوقته كارمن بعد خروجه من السجن، الذي دخل إليه بسببها، ويقف أمام تلك المرأة أو القوة الغامضة التي دمرت حياته، منذ أن ألقت إليه بالوردة، ويخبرها أنه احتفظ بها في سجنه على الرغم من ذبولها وجفافها وشعوره بأنها لعنة، ومن الغناء القوي العنيف في البداية إلى ارتعاش الصوت في النهاية، وهو ينطق اسم كارمن ويقول لها: أحبك، يعبر كاوفمان عن أعمق مشاعر خوسيه العاشق المهزوم أمام حبيبته، أما أوبرا «فرتر» المستوحاة من رواية «آلام فرتر» للكاتب الألماني غوته، فهي من أقوى أدواره، حيث يبدع في غناء «لم توقظينني يا نسائم الربيع؟» ويتعاطف إلى حد بعيد مع شخصية فرتر، ويحث المستمع على التعاطف معه أيضا، ويعبر عن معاناة ذلك الشاب الذي لم يكن سعيدا إلا بموته بين ذراعي حبيبته شارلوت، ويوضح حقيقة تلك المعاناة التي هي أكبر من حبه المهزوم لامرأة متزوجة فضلت الواجب على مشاعر الحب، من خلال تعبيره عن كل ما في نفس فرتر من غضب مكبوت وتردد بين الموت والحياة ورفض للواقع بأكمله.
٭ كاتبة مصرية
