عدنان حسين أحمد
قبل مئات السنين كان الحجاج المغاربة يتجشمون عناء السفر الطويل الذي يستغرق أشهرا معدودة، فيقطعون فيها مسافة 10 آلاف كيلومتر ذهابا وإيابا راجلين أو على ظهور الدواب، بحثا عن الأجر والثواب. أمّا الآن فما هو عذرهم وقد توفرت وسائل النقل الحديثة كالسيارات والطائرات التي اختصرت الزمن، وخفّفت تعب الرحيل إلى أقصى حدٍ ممكن؟
ومع توفر الطائرات الحديثة التي يمكنها أن تقطع الرحلة من باريس أو أي مدينة فرنسية إلى مكة المكرّمة في غضون خمس أو ست ساعات في أبعد تقدير، فإن الأب التقليدي المتدين محمد مجد يطلب من ابنه العلماني المتحرر رضا (الممثل نيكولا كازالي) أن يرافقه في رحلة الحج، ويقود السيارة من مدينة بروفانس في جنوب شرقي فرنسا إلى مكة المكرمة مرورا بثماني دول، وهي إيطاليا وسلوفينيا وكرواتيا ويوغسلافيا وبلغاريا وتركيا وسوريا والأردن، قبل الوصول إلى المملكة العربية السعودية.
لا تقتصر قصة الفيلم الرئيسية على تأدية فريضة الحج وهي أحد الأركان الأساسية الخمسة في الإسلام، وإنما تتعداها إلى جوانب أخرى، مثل صراع الأجيال بين الأب الذي يمثل الجيل الأول الملتزم من المهاجرين، والابن “المتحرر” الذي يمثل الجيل الثاني الذي وُلِد ونشأ وترعرع في المهجر، وصار يُتقن اللغة الفرنسية مثل أبنائها تماما، ولا يعرف من اللهجة المغربية إلا بعض المفردات القليلة التي لا تُسعِفه بشيء، وهذا يعني أنه يعاني غربة لغوية وفكرية ودينية فيما يتعلق بالثقافة العربية والإسلامية، وهو مندمج بالثقافة الفرنسية ومتماهٍ مع أعراف وتقاليد المجتمع الفرنسي، ومنظومة قيمه الاجتماعية والأخلاقية.
الأب والابن.. صدامات جيلين تجتمع في سيارة مهترئة
يركز المخرج إسماعيل فروخي في المشهد الافتتاحي على الشخصية الرئيسية رضا وهو في طريقه على دراجته الهوائية إلى أخيه خالد، ليبدل الباب الأمامي الأيمن من السيارة المعطوبة بآخر مستعمل، وسرعان ما يُغادر على وجه السرعة بعد أن يتشاجر معه لفظيا، ويعود إلى المنزل ليجد نفسه أمام والده ليأمره بمرافقته في رحلة الحج وقيادة السيارة المرممة من قارة إلى أخرى، وتحمل مشاقّ السفر ومفاجآت الطريق وإجراءات النقاط الحدودية التي لا تخلو من مصاعب واستفزازات في بعض الأحيان.
لا يحتاج المُتلقي إلى زمن طويل ليفهم التوتر والتنافر بين الابن وأبيه ودرجة القطيعة فيما بينهما، ومع أن الأب يتحدث الفرنسية -كما سنعرف لاحقا-، فإنه يُصرّ على الحديث مع ابنه بالدارجة المغربية، بينما يرد عليه رضا بفرنسية مُتقنة لا تشوبها لكنة الأجانب الذين تعلموا اللغة الفرنسية، ولم يكتسبوها كما فعل رضا وأشقاؤه، لذلك كنا كمشاهدين نتوقع أن تكون هذه “الرحلة الكبرى” صعبة جدا ولا تخلو من المنغصات بالنسبة للابن في أقل تقدير.
وقبل الخوض في التفاصيل الدقيقة للشخصيتين اللتين تقاسمتا البطولة، لا بد من توضيح بعض الخصائص والصفات التي تتوفر عليها كل شخصية على انفراد، فالأب مهاجر مغربي تجاوز الستين من عمره، وقد عاش ثلاثين سنة في مدينة بروفانس في جنوب شرقي فرنسا، وأنجب عددا من الأبناء الذين يتكلمون الفرنسية بطلاقة، من ضمنهم الابن الأكبر خالد الذي ارتكب مخالفة قانونية فسحبوا منه إجازة السياقة، ولعله كان المرشح الأول لقيادة السيارة إلى مكة المكرمة، لأن أخاه الثاني طالب في المرحلة الثانوية، وعليه أن يؤدي امتحان البكالوريا (شهادة ختم التعليم الثانوي في بلدان شمال أفريقيا) التي رسب فيها العام الماضي.
أما رضا فيبدو أنه يفهم المحكية المغربية لكنه لا يستطيع التواصل بها، ولديه علاقة عاطفية بفتاة فرنسية اسمها “ليزا”، وقد رأيناها في صورة فوتوغرافية يحملها معه، وسمعناها تتكلم معه عبر الهاتف مرة واحدة لا غير، قبل أن يُلقي والده بهاتفه النقّال في حاوية النفايات، بحجة أن المكالمات الهاتفية تُفقده التركيز في السياقة.
أول فيلم روائي يصور في الحرم المكي.. انطلاقة الرحلة
يتذمر رضا من تكليف والده الذي لا يتفهمه جيدا، فالوالد يمكن أن يسافر بالطائرة إلى مكة، وينتهي الأمر من دون الاستعانة بأحد أولاده، لكن الإجابة على هذا السؤال ستشكّل انعطافة أساسية في الفيلم الذي كتب قصته إسماعيل فروخي نفسه، وهو بالمناسبة الفيلم الروائي الوحيد الذي سمحت السلطات السعودية بتصويره في الحرم المكي أثناء موسم الحج.
يرضخ رضا لأمر والده، ويشرع معه بالرحلة التي ستكون نموذجا لأحد أفلام الطريق الحقيقية، فقصة الفيلم في مجملها تدور على الطريق، باستثناء المشَاهِد الأخيرة التي كان فيها الوالد يؤدي شعائر الإحرام والتلبية قبل أن يفارق الحياة لسبب مجهول لم نعرفه جيدا، أو تركه المخرج مفتوحا لتأويلات المُشاهدين.
ما إن تبدأ الرحلة حتى ينام الوالد ويوقظه الابن عند نقطة الحدود، طالبا منه الجوازات التي يحتفظ بها عنده، ورغم أنهما في مكان حسّاس، فإن الوالد يطلب منه أن يركن سيارته في مكان جانبي كي يؤدي فريضة الصلاة التي حان وقتها، وحينما يعترض رضا على عدم ملائمة المكان للصلاة، يسأله الوالد مستفسرا “ألا تؤمن بالله؟” فيلزم الصمت ويعاود الانطلاق من جديد.
“سنقضي الليلة هنا”.. مزاجية توتر الأجواء في الأرياف الإيطالية
يتصل رضا بصديقته “ليزا” ليخبرها بأن لديه بعض المشاكل العائلية، ويطلب منها أن تحيط المدرسة علما بأنه سيغيب لبعض الوقت، ويعتذر عن إنهائه للمكالمة خشية من توتر والده وسقوطه في دائرة الانفعال مُجددا.
وقبل الوصول إلى مشارف مدينة ميلانو يطلب منه الوالد التوقف ليأخذ قسطا من الراحة، لكنه يرفض ويدعي بأنه ليس متعبا، وأن بإمكانه المضي في القيادة، بيد أن الأب يقوم بحركة انفعالية أوشكت أن تقتلهما معا، وذلك حينما أدار المقود بحركة سريعة مفاجأة أخرجت السيارة عن مسارها الطبيعي موبخا الابن على عناده، ومؤكدا بأنه هو الذي يتحكّم بالأمور وليس الابن.
وحينما يستفسر رضا عن سبب رفضه الوقوف في ميلانو المدينة التي لم يرها من قبل، يقول إنه يريد أن يكتشف المدينة بنفسه، ويرى المناظر الجميلة الخلابة، ويلتقط لها صورا، فيأتيه الرد المنفعل بأنهم ليسوا سيّاحا كي يتوقفوا في كل مدينة يمرون بها، وحينما يرفض الأب رفضا قاطعا يلتمس منه أن يتوقف في البندقية على الأقل.
وبما أن الأب هو القائد والمتحكِّم في الرحلة، فقد أمره بأن يترك الطريق السريع، الأمر الذي أفضى به إلى شارع خلفي يمر بأراض زراعية، وغير موجودة على الخريطة، فيصر الأب بأن هذا الطريق صحيح، فينفعل رضا ويتوتر قائلا: كيف تعرف الطريق وأنت لا تجيد القراءة والكتابة؟
وحينما يتفرع الطريق الزراعي إلى فرعين، يسأل والده أيهما يختار، فيأتيه الرد “سنقضي الليلة هنا”. لقد هيأ الوالد بعض مستلزمات الرحلة، مثل الفانوس والأواني التي يحتاجها لتسخين الطعام، عندها يبحث رضا عن هاتفه النقّال، وحينما يفشل في العثور عليه يخبره الأب بأنه قد رماه في حاوية النفايات التي خلّفها وراءه على مسافة 300 كم، فيتحمل الأمر على مضض، ويمضي راضخا في رحلته الطويلة.
دليلة البوسنة.. وجه غامض تخفي تجاعيده الكثير من المآسي
في الطريق البوسني يطلب الوالد من ابنه أن يسأل عن الطريق الذي يفضي إلى بلغراد، لكن المرأة الملفعة بالسواد صعدت في المقعد الخلفي مباشرة من دون أن تنبس بحرف، وحاول الابن أن يُخرجها من السيارة، لكن الأب رفض، فأخذوها معهم باتجاه “تاليجي”، وهي الكلمة الوحيدة التي نطقتها، وهي تحمل وجها محيرا يذكّر المشاهدين بوجوه الضحايا في حروب البوسنة والهرسك.
تختفي هذه المرأة عند النقطة الحدودية، لكنها تظهر لاحقا وهي تقف في منتصف الطريق، وتواصل رحلتها الغامضة معهما إلى أن يتخلصا منها في أول فندق يبيتان فيه، لكنها تظهر ثانية في صوفيا بوجهها الحزين الذي يخبئ وراء تجاعيده الكثير من المآسي والمعاناة الممضة.
بينما يسأل رضا أحد المواطنين عن الطريق إلى صوفيا، يصادفه رجل ثرثار يتكلم بلغته المحلية دونما انقطاع، لكنه استكشف من كلامه المتدفق الذي لا يفهم منه شيئا بأن صوفيا تقع خلف الجبال التي تسد الأفق.
صوفيا.. حديث عائلي دافئ وبرد قارس
في الاستراحة القادمة تنفرج أسارير الابن فيسأل أباه بمحبة ووئام: لماذا لم تسافر بالطائرة إلى مكة؟ إنها أسهل بكثير من السفر بالسيارة.
يرد الأب بحكمة ونبرة فلسفية كنا نفتقدها في بداية الرحلة، فيجيبه بما معناه: ماء البحر حينما يتبخر ويصعد إلى السماء تضيع مرارته، ويعود للأرض ماء عذبا زلالا. إن أجر الحج سيكون مختلفا، فأجر الإنسان الذي يمشي على قدميه أكبر من أجر الإنسان الراكب على ظهر جواد، وأجر الإنسان الراكب على ظهر جواد هو أفضل من أجر الإنسان الراكب في سيارة، وأجر الراكب في سيارة هو أفضل من أجر الراكب في طائرة.
ثم أخذ يروي له حكاية أبيه الشجاع الذي كان يشق الدروب الأفريقية على ظهر بغلة، وكان ينتظر قدومه كل يوم على قمة الجبل، متمنيا أن يكون أول من يراه في عودته من الحج سالما معافى، وفي بعض الأيام كان ينام على الجبل فتأتيه الجدة لكي تعيده إلى المنزل.
يشرع الأب بقراءة القرآن كلما تسنى له ذلك، فنسمعه يرتل آيات من سورة مريم: (قالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُن بَغِيًّا).
حاول رضا أن ينام، لكن البرد القارس منعه، فدرجة الحرارة تحت الصفر، وما إن أطبق عينيه واستيقظ من جديد حتى رأى الثلج يطمر السيارة بالكامل، وحينما هشّم الثلج المتكدس حول النافذة، وفشل في تشغيل السيارة؛ اكتشف أن اباه قد مرِض من شدة البرودة فنقله إلى مستشفى في صوفيا، وحينما تماثل للشفاء طلب منه أن يعود إلى السيارة، ويجلب له المصحف الذي خبأه في الخزانة الصغيرة.
مصطفى المنقذ.. لسان فرنسي على الحدود التركية
تأتي الانعطافة الثانية عند الحدود التركية، حيث يبلغهُ الضابط التركي بأن جواز الوالد وأوراقه الثبوتية قانونية، لكن المشكلة في جواز رضا الذي استفز في الحال، وأخذ يصرخ بأن جوازه نافذ لأربع سنوات قادمة.
في هذه اللحظة الحرجة يأتي رجل تركي يدعى مصطفى (الممثل جاكي نيرسيسيان)، وهو يتكلم الفرنسية بطلاقة، وقد اقترح عليه أن يُخفِّض نبرة صوته لأن الشرطة لا يحبون هذه الطريقة في الكلام، وطلب منه أن ينتظر في السيارة، وسيحل المشكلة بنفسه.
بعد دقائق عاد مصطفى بأسارير منفرجة وهو يقول بأن كل شيء قد رُتب على ما يرام، وطلب منه أن لا يسرع في القيادة، وأخذ يدلّه على الإشارة التي تفضي به إلى منزله، وأخبرهما بأنه كان يودّع ابن عمه الذي يعيش في ألمانيا، أما هو فقد كان يعيش في فرنسا، لهذا فهو يتحدث الفرنسية بشكل متقَن.
يدعوهما مصطفى لتناول الشاي، فيرفض الأب الدعوة، بينما يضطر رضا إلى الذهاب معه، فيقترح مصطفى أن يرافقهما في رحلة الحج كمترجم، لكن مشكلته الوحيدة أنه لا يملك نقودا كافية للقيام بهذه الرحلة.
“أنت تعرف كيف تقرأ وتكتب، لكنك لا تعرف شيئا في الحياة”
في الطريق إلى إسطنبول مدينة الألف منارة، يتكلّم مصطفى عن أشياء كثيرة، ولا يقطع حديثه المتدفق بالفرنسية سوى الأذان الذي يُرفع من منارات إسطنبول الألف، ثم يحدثهما عن جامع السلطان أحمد أو الجامع الأزرق الذي يصفه بأضخم المساجد في العالم الإسلامي، كما ينتقل مصطفى إلى الحديث عن مسجد آيا صوفيا الذي كان من قبل “كنيسة الحكمة الإلهية”.
تدور أحاديث حميمة بين مصطفى ورضا، فيكتفي رضا بالإشارة إلى أن صديقته فرنسية واسمها “ليزا”، أما مصطفى فيتوسع في ذكر التفاصيل، ونفهم أنه متزوج من امرأة فرنسية ولديه طفلان، زوجته تعمل، وهو عاطل عن العمل ويقوم بتربية الأولاد في مدينة ليل شمالي فرنسا، وحينما جاء في آخر إجازة إلى تركيا تزوج ولم يعد إلى فرنسا منذ ذلك الحين، وأن أطفاله بخير وتحت رحمة الله الواسعة.
وبعد أن يمضيا ردحا من الليل في تناول المشروبات الروحية ويعودا للنوم، يستفيق رضا على صيحات أبيه وهو يخبره بأنّ مصطفى قد سرق النقود، ويوبخ ابنه الذي قضى معه الليل في شرب المنكر، ويقول له “أنت تعرف كيف تقرأ وتكتب، لكنك لا تعرف شيئا في الحياة”.
وحينما يطل رضا من النافذة إلى الشارع أسفل الفندق يلمح مصطفى بين المشاة، وهذه إشارة واضحة إلى براءته، فلو كان قد سرق شيئا لتوارى عن الأنظار، ولم يعد أبدا إلى مكان السرقة.
يراجع الأب أحد المكاتب الرسمية، ويشرح بفرنسية طليقة حادثة السرقة التي لم تخلف دليلا واضحا يدين السارق، وحينما يسأله مدير المكتب عن مكان النقود يقول إنه وضعها في واحدة من جواربه. لم يلتجئ الأب إلى الكذب بشأن الدليل على السرقة، وإذا كذب فما هي الحسنة المرجوة من قيامه بفريضة الحج؟
عطف الأب.. عطاء رغم سرقة النقود وضيق ذات اليد
لم تتوقف الرحلة رغم حادثة السرقة، وفي الطريق إلى سوريا تفاجأ رضا وهو يسمع والده يخاطب عامل المحطة أن يملأ خزّان السيارة بالبنزين، وازدادت دهشته حينما رآه يسحب حزامه ويخرج من بين طيّتيه نقودا ورقية كان قد دسها هناك تحسبا للمواقف الصعبة التي يمكن أن يمرّ بها أثناء رحلته الطويلة.
لم يردّ رضا على المرأة المستجدية، ولم يلتفت إليها أصلا، وحينما رأى والده يمنحها بعض النقود في هذه الظروف الحرجة، فقد أعصابه وبدأ ينتقده بشدة، لأنهما يعيشان على ساندويشات البيض، بينما هو يبذّر النقود بهذه الطريقة غير المعقولة بالنسبة إليه.
وعلى الرغم من تفاقم الأزمة إلى الحد الذي يأخذ فيه رضا جوازه وحقيبته ويغادر، يتبعه الأب ويخبره بأنه كان يفكر ببيع السيارة في دمشق، ويكمل رحلة الحج لوحده، ويحرر ابنه من هذه المهمة العسيرة على شاب لم يكمل العشرين من عمره.
“ألم تمارس العفو والمغفرة في ديانتك؟”.. غضب في عمّان
مثلما أخذت إسطنبول حصتها الكبيرة من مساحة الفيلم، فقد حظيت عمّان أيضا بمساحة معقولة، لكنها لا تتعدى أماكن اللهو التي يقضي فيها رضا بعض الأوقات الجميلة، خاصة أنه عثر على النقود التي خبأها والده تحت مقعد السيارة الأمامي ونسيها هناك، وسوف يذهب إلى القنصلية الفرنسية في عمّان، وتعوّضه عن النقود المسروقة من دون مساءلة طويلة.
تزداد الهوة بين الطرفين، خاصة حينما يكتشف الأب أن رضا قد جلب معه فتاة إلى غرفته في الفندق، فغضب الأب وغادر المكان، لكن رضا ظل يتبعه ويطلب منه الصفح المغفرة، وحينما انزعج قال لوالده بحدة ووجع: ألم تمارس العفو والمغفرة في ديانتك؟
يصفح عنه الأب ويمضيان في الرحلة الكبرى، وفي الطريق البري الطويل إلى مكة يسقط رضا في أحلام اليقظة، فتارة يرى والده وهو يرعى الأغنام والماعز، ويطلب منه النجدة حين تغوص قدماه في الرمال المتحركة التي تسحبه إلى الأسفل، ثم نراه يتبع قافلة من سيارات الحجاج الذين يتوقفون للراحة وتناول الطعام والشراب، ويتجاذبون بعض الأحاديث مع الحاج أحمد الذي يعرفهم ببعضهم، فنفهم أن هناك حجاجا من سوريا ومصر والسودان ولبنان وتركيا.
وحينما يسأل الحاج أحمد عن عمر رضا يضطر الأب للإجابة وتقديم مُوجز عن قصة حياته، فيخبرهم بأنه عاش في فرنسا ثلاثين سنة، وأنجب عددا من الأبناء، وأن رضا لا يتكلم العربية، وقد جاء معه ليقود السيارة في هذه الرحلة الطويلة التي قطعوا فيها مسافة 5 آلاف كيلومتر، متجشمين عناء كبيرا من أجل الحصول على الأجر والثواب. وبينما كان الحجاج يصلون في عرض الصحراء، كان رضا يكتب اسم “ليزا” برأس حذائه الرياضي على الرمل.
“أدعو الله أن يرضى عنك”.. حوار دافئ على أعتاب مكة
في استراحة أخرى يتقارب الابن مع أبيه إلى درجة كبيرة، فبينما كان الأب يتيمّم بالتراب لكي يصلي، يسأله الابن سؤالا بريئا مفاده: ماذا يعني لك أن تذهب إلى مكة، ما هو الشيء الخاص بهذه المدينة؟
فيرد عليه: لقد تجشمنا عناء هذه الطريق الطويلة، والآن بدأ اهتمامك بهذه المدينة؟ مكة يا ولدي هي أول مكان مقدس للمسلمين يأتيها الناس من كل أنحاء العالم، وهي إرث إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الحج مهم لأنه الركن الخامس من أركان الإسلام، وعلى كل مسلم يمتلك إمكانية مادية أن يحج مرة واحدة على الأقل قبل أن يموت، وذلك لكي يطهّر نفسه من الذنوب التي ارتكبها في حياته، كلنا سوف نموت يوما ما لأننا ضيوف عابرون على هذه الأرض، وأخشى ما أخشاه أن أموت قبل أن أؤدي فريضة الحج، ومن دونك لم أكن أستطيع المجيء لوحدي، وأدعو الله أن يرضى عنك لأنني تعلمت من هذه الرحلة الشيء الكثير.
ويعترف رضا لأول مرة بأنه تعلّم الكثير من هذه الرحلة التي لولاها لظلت الهوة عميقة بين الطرفين.
هدوء النهايات.. حسن خاتمة في أقدس بقاع الأرض
حين يصلون إلى مكة يساعدهم أحد الحجاج في إيجاد مكان لإيقاف السيارة، لأنهم سيمكثون هنا لمدة 8 أيام، ثم يرتدي الأب ملابس الإحرام ويقوم بطقس التلبية، ويتلاشى بين الجموع، وحينما يقلق الابن على مصير والده يبحث عنه بين الحشود المتراصة، لكن شرطة الحرم المكي تسحبه بالقوة، وتأخذه إلى مكان الحجاج الذين فارقوا الحياة لأسباب متعددة، لعل بعضها بسبب التدافع أو الموت المفاجئ بالسكتة القلبية، أو أن أجلهم قد جاء في البقعة المُباركة التي يتمنى الكثير من المسلمين أن يموتوا فيها ويدفنوا في ترابها المقدس.
ربما يكون مشهد البحث عن الأب الميت من أكثر مشاهد الفيلم تأثيرا، فبعد أن يكشف الإمام عن وجوه ثلاثة حجاج ميتين، ينخرط رضا في بكاء حار عندما يرى أباه الساكن في المرة الرابعة، حيث ينام إلى جواره ويصرخ بأعلى صوته على هذه الخسارة المفجعة التي غيّرت قناعاته الفكرية بالكامل، ودفعته لأن يبيع السيارة ويتصدق ببعض النقود، كما كان يفعل والده لأول امرأة فقيرة كانت تمد يدها على قارعة الطريق.
ينتهي الفيلم بالقصيدة العرفانية “أدينُ بدين الحُب” للشاعر العرفاني محي الدين بن عربي، وتنشدها المطربة المغربية أمينة العلوي:
أدين بدين الحب أنّي توجهتْ
ركائبه، فالحب ديني وإيماني
جدير بالذكر أن المخرج إسماعيل فروخي من مواليد القنطيرة سنة 1962، وقد أنجز عددا من الأفلام، منها “بِن الصغير” و”طفولة” و”رجال أحرار” و”ميكا” و”الرحلة الكبرى”، وقد حصد كثيرا من الجوائز في المهرجانات المحلية والعالمية.