خاص-الوثائقية
يعتبر السيجار الكوبي الأسود أفضل أنواع السجائر في العالم، ويتميز بالعديد من الخصائص التي يسهر عليها المزارعون الرواد والخبراء المتخصصون على مدى عدة أجيال من ممارسة زراعته، حتى يصل إلى المستوى الفخم الذي يحوز الريادة في العالم.
وتعتبر زراعة التبغ تقليدا كوبيا عريقا متوارثا جيلا بعد جيل، كما أنها جزء أساسي من الثقافة الكوبية التي تتلقفها الأجيال الجديدة رغم حياة المدنية التي تختطف تلك الأجيال، لكنها دائما ما تعود إلى جذورها ومزارع أجدادها لتكمل المسيرة الذهبية للسيجار الكوبي.
هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية يستعرض كيفية صناعة السيجار الكوبي، بدءا من زراعة التبغ، مرورا بمراحل التحضير، وانتهاء بمرحلة التصنيع ولفه يدويا ووضعه في علب فاخرة لتصديره للعالم بأسره.
تاريخ التبغ الكوبي.. تراث وتقاليد
تعود زراعة التبغ في كوبا إلى عام ١٤٩٢ عندما قدم “كريستوفر كولومبوس” إليها مستكشفا، وقد أرسل “رودريغو دي خيريز” و”لويس دي توريس” للقيام ببعض المهام، ومنها استكشاف تلك الأراضي الساحرة وما يمكن أن ينتج فيها، ومنذ ذلك الوقت عرف الكوبيون تدخين التبغ، ومنهم من عرف بالإفراط في ذلك ويسمون “الزورويو”.
اتسم التبغ في بداياته بوظائف دينية، ثم أخذ الناس يدخنونه لخصائصه الطبية، وهذا ما جعله مشهورا عالميا.
“إيفان بيريز” منتج للتبغ، وهو مزارع تقليدي ورث زراعته عن أبيه، يعتبر التبغ شغفه وهوايته وكل شيء في حياته، وبالنسبة للعائلة فهذه الزراعة ترسخ الحب ذاته.
يقول إيفان: على العائلة أن تكون حاضرة في زراعة التبغ في كل المراحل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وعليها أن تكون على دراية بالمزروعات، والعائلة هي العنصر الأساسي والأهم على الإطلاق.
يستيقظ إيفان في الصباح لتسوية المشكلات والصعوبات التي تبرز خلال العمل، ويوزع الأعمال على العاملين، ويرى أن على الجميع التمتع بالثقافة بمستوى معين مع التنظيم والذكاء فلا مكان للعشوائية في زراعة التبغ، لذا يجب أن يكون الجميع مستعدين، لأن التبغ -على حد قوله- يستحق الاهتمام وتجب معاملته باحترام وتهذيب.
مرحلة التكويم.. طفولة التبغ القاسية
إن بذور التبغ أصغر من أن تدفن في الأرض مباشرة، لذا يجب تجهيز حوض للنباتات لإنتاج الشتول الصغيرة، ومن ثم تأخذ الشتول للحقول وتغرس هناك، وبالتزامن مع الزراعة تجري عملية التسميد، وبعد سبعة أيام تكوّم التربة حول الشتلات بالتزامن مع التسميد الثاني والتخلص من الأعشاب غير المرغوب فيها أثناء عملية التكويم الأولى.
ويعد التكويم أهم المراحل في زراعة التبغ، وهي عملية تحمي السيقان، حيث تنمو جذور النباتات فيما بعد وتعزز تبادل المواد الغذائية، كما تعمل كمرشد لعملية الري وتساعد على إبقاء النباتات قاسية.
بعد عشرين يوما تبدأ عملية التكويم الثانية والحقيقية، والتكويم هو وضع كمية كبيرة من التربة حول الجزء السفلي من ساق النبتة، وكلما زادت كمية التربة حول السيقان تحسنت نوعية المحصول، فالجذور الأفضل هي التي توفر منطقة تبادل أفضل، وتسمح منطقة التبادل بإشباع التربة بالأوكسجين، وهي عملية يتوقف عليها كل شيء.
لكن ربما تبرز بعض المفاجآت غير السارة في موسم الحصاد، وذلك نتيجة للتغيرات المناخية التي تحدث، وقد تتغير الأحوال الجوية خلال بضع ساعات.
إزالة البراعم.. ميلاد النكهة الكوبية المميزة
“جيراردو ميدينا” منتج تبغ تجاوز الثانية والثمانين من عمره، وقد انخرط في زراعة التبغ بسبب تقاليد العائلة، إذ كان والده مزارع تبغ وبعد وفاته أكمل مسيرته، ويقول إن أولاده كانوا يدرسون، لكن عند عودتهم كانوا يذهبون إلى الحقول، وقد واصلوا تقاليد زراعة التبغ.
بعد نمو المحاصيل تأتي مرحلة إزالة البراعم العلوية بغية الحصول على السُّمك اللازم للأوراق، لضمان توفر الخصائص المذاقية التي تميز التبغ الكوبي الأسود، وهي المرحلة الحاسمة والأكثر تقنية بفضل إزالة البراعم.
واتباعا لمبدأ استمرارية الأصناف، تزهر الفروع الإبطية لأنها تبحث عن طريق كي تزدهر، ولتستمر بالنمو يجب التخلص من هذا الجزء أيضا، لأنه يمتص الأوراق على حد قول المزارعين، الأمر الذي يجعل أوراق التبغ تذوي تماما.
موسم الحصاد.. عملية التخمير الأولى
تجري عملية إزالة البراعم عندما يصل طولها إلى خمسة سنتيمترات كحد أعلى في هذه العملية، وتسمى إزالة الجذيرات السرطانية، وهي عملية مهمة بعدها يحين موعد الحصاد. يقول “إيفان”: في بعض الأحيان يكون الطقس سيئا وتتراجع كمية المحصول، لكن عند القيام بالمسؤوليات تكون الحصيلة النهائية جيدة بغض النظر عن الكمية.
بعد جمع الأوراق تؤخذ إلى موقع المعالجة، وهناك تعلق بخيوط أو على عيدان خشبية، وتبقى على تلك الحال حتى تجف تماما، وهذه عملية أساسية للتحكم بالجودة. يقول الباحث المختص بالسيجار “أميليو إيسبينو”: إن ميزة المراقبة وحماية الأوراق من التغيرات البيئية تتيح التحكم بكافة العوامل، وهذا شيء أساسي لجفاف الأوراق بشكل مثالي.
وحين تنتهي تلك المرحلة التي تستغرق من 45 إلى 60 يوما، تبدأ عملية تحرير الأوراق أي إزالتها عن العصي، ثم تجميعها ضمن حزم، وبعد أن تصبح على شكل مجموعات تبدأ عملية التخمير الأولى التي يجريها المزارع في موقع المعالجة الخاص به، وتستمر عملية التخمير الأولى مدة ثلاثين يوما، وبعدها تباع الأوراق للدولة الكوبية.
مرحلة التعتيق.. اكتساب المذاق المميز
بعد بيع الأوراق للدولة فإنها تخضع لعملية الفرز، وتوزع حسب فئاتها إلى أوراق مستخدمة للحشو وأخرى مستخدمة في الربط، وتنقل إلى قسم التقشير، وخلال تلك العملية يخضع التبغ لعملية تخمير ثانية ثم ثالثة وأخيرة تعتمد في مدتها على نوعية الأوراق.
بعد ذلك تنتقل إلى قسم التجفيف حيث يكتسب التبغ درجة رطوبته النهائية وإزالة غاز الأمونيا منه الذي ينتج عن عملية التخمير، ويوضع التبغ في حزم تبقى في المخزن لفترة تعتيق تتراوح مدتها من سنة ونصف إلى ثلاث سنوات، وهي عملية تعتيق بطيئة يكتسب التبغ خلالها خصائصه المذاقية من رائحة ومذاق وقدرة على الاحتراق وقوة.
تتعزز هذه الخصائص خلال مرحلة التعتيق وتصبح أوراق الحشو جاهزة، وعندما تفكك رزم التبغ في موقع المعالجة تعبأ بأغلفة من الورق المقوى وينتقل إلى عملية تخمير تحت المراقبة، ويفرز التبغ حسب فئته، وتصبح الأغلفة جاهزة للذهاب إلى المصنع لتعبأ ضمن حزم تلف بما يسمى لحاء النخيل أي أوراق النخيل.
جيل المزارعين الرواد.. مزيج الخبرة والمعرفة
المزارعون الرواد ومنهم “إيفان وإميليو وجيرارد” هم أولئك الذين حققوا إنجازات تاريخية، لذا يكن لهم المزارعون الآخرون الاحترام والتقدير، والرواد هم الذين يقومون بإجراء دراسات تخدم الإنتاج في زراعة التبغ، وبالتالي فهم المرجعية.
يقول “بيريز”: يجدر بالمزارع أن يكون عنيدا وصاحب إرادة قوية ولا يستسلم، لأن زراعة التبغ معقدة للغاية، وهي ذات مطالب تقنية عالية وحساسية مفرطة، وتتطلب الكثير من الجهد، وهناك ميزة أخرى يجب توفرها بالمزارع، وهي معرفته بالعلوم لظروف الطقس التي تصبح عدوانية كل سنة، لذا فإن الإلمام بالعلوم ضروري لتفادي ارتكاب الأخطاء.
أما “إميليو إيسبينو” فيرى أن المزارع الرائد له دور أساسي في نشر التقنيات الجديدة التي تدخل في مجال زراعة التبغ لتغدو أكثر كفاءة.
تحسين التبغ جينيا.. السعي إلى المنتج الأفضل
يُنفذ التحسين الجيني للتبغ التقليدي في كوبا باستخدام الأساليب التقليدية القائمة على المزج بين الأصناف واختيار الأنواع، والغرض الأساسي من هذا التحسين هو تطوير أنواع جديدة تتمتع بنفس الخصائص المذاقية التي تتمتع بها الأنواع التقليدية، لكن مع درجات مقاومة أعلى للأمراض التي تطال التبغ في كوبا.
وكما يعد التبغ تقليدا فهناك اهتمامات وهوايات أخرى لمزارعي التبغ، منها مصارعة الديوك حيث يهواها الكثير من المزارعين هناك، إذ يربون ديوك المصارعة التي تقام بينها المصارعات عادة في ميادين خاصة تمتلكها الدولة الكوبية، ويقيّم الديك لمعرفة جودته من خلال قيامه بمناوشات ومصارعة ديك آخر.
كما أن المزارعين يحبون اقتناء أحصنة قوية تماما مثلما يحب أهل المدن اقتناء السيارات الجيدة، وهم يفخرون بامتلاكهم أقوى الأحصنة، ويقومون بتحسين نوعية نسل الخيول.
لجنة التذوق.. محافظة التبغ الكوبي على الريادة
أما لجنة التذوق فهي التي تحدد النوع التجاري، وتكون عملية التذوق صارمة في العادة، وقد تكون نوعية التبغ هي الأفضل في العالم من حيث القدرة على المقاومة والأداء الزراعي العام، لكنها لا تستوفي معايير الجودة التي تميز التبغ الأسود في العالم، لذا فإنها لن تقبل كمجموعة تجارية.
وهذا الإجراء الصارم هو ما جعل الأنواع الكوبية مزدهرة ونقية جينيا ومحافظة على خصائصها، سواء من حيث الشكل أو النوعية والنكهة والرائحة التي تميز التبغ الكوبي.
يقول “إيفان بيريز”: إننا اليوم نتعامل مع ثلاث محاصيل نطبق عليها البرامج العلمية وهي ناجحة بشكل كبير، حيث تضاعفت النتائج من حيث الكم والنوع، والأهم هو طريقة تطبيق العلوم والتكنولوجيا، وفقا لما يمليه الباحثون من توجيهات، وعندها ستكون النتائج بأيدينا.
شريط العلامة التجارية.. طريق السيجار لغزو العالم
عندما يصل التبغ إلى المصنع، تخضع أوراق التغليف لعملية ترطيب خاصة لتتم معالجتها وتقشيرها. وبالنسبة لأوراق التغليف يقوم التقشير على إزالة الجذيرات والعروق، ومن ثم تصنف بحسب اللون والحجم، وعندها تصبح جاهزة لعملية اللف.
أما أوراق الحشو فتستخدم في التوليفة حسب طول السيجار المصنع، ويتلقى المصنع أنواعا مختلفة من حشو وتغليف، وهكذا يصبح كل شيء بحوزة المصنع لإنتاج السيجار، ويبقى في غرفة تبريد خاصة لتستقر رطوبته.
وبعدها يلف بشريط العلامة التجارية، ويوضع في علب وصناديق فاخرة وفقا للعلامة التجارية، ثم يرسل إلى شركة “هابانوس”، ومن هناك ينطلق سيجار “هابانو” سفير كوبا الأسود والأكثر جودة عبر ميناء هافانا غازيا العالم.