
المقــدمــة:
يعتمد الطب الشعبي على مقولة إن الله تعالى قد خلق لكل داء دواء. لذلك فالأعشاب تنبت في كل مكان. وقد اهتدى الإنسان إلى ما يشفيه منها بالعقل، واهتدى الحيوان إلى ما ينفعه منها بالغريزة. فهناك الأشجار والشجيرات وأقسامها التسعة من أزهار وثمار وأوراق وجذور وبذور وعصائر ولحاء …الخ، استخدمها الإنسان علاجا لأمراضه. فتارة يستخدم الأوراق ، وتارة أخرى يستخدم البذور، وتارة ثالثة على الجذور. كذلك فهو يعتمد عليها في حالتها الخام مرة ويستخدم منقوعها مرة أخرى ، ويجففها ويضيف إليها عناصر أخرى مرة تالية وهكذا.
وكذلك استخدم الإنسان النباتات الطبية التي تنبت في الأماكن الرطبة وفي الظلال وفي المياه الراكدة والأنهار والبحيرات والمروج والشعاب. كما اعتمد على لحوم الحيوانات وأجزائها المختلفة من جلود وعظام ، وإفرازات وغدد وريش، واستخدم كافة أنواع الحشرات ومخلفاتها التي اهتدى لتجربتها في العلاج، واستخدم أجزاء من جسم الحيوان ومخلفاته في الاستشفاء ومنها (مرارة) الأغنام كغلاف لجروح الأعصاب، والجبن الطري لمنع تورم الجراحات والجبن القديم للقروح الرديئة وللمريض بعد العمليات الجراحية. كذلك احرق السلحفاة كاملة لتتكلس مع الفلفل لإزالة الربو المزمن والسل والقرحة، وعلاج القروح والسرطانات الخبيثة (1).
لقد تضافرت العديد من العوامل الطبيعية والبيئية والمناخية لمجتمع الدراسة حتى صار موطنا لآلاف النباتات العلاجية يصعب حصرها بداية من الغابات والأشجار الضخمة، حتى الشجيرات والحشائش الصغيرة التي لا يتعدى عمرها الشهر والشهرين (2). وحينئذ أضحى مجتمع الدراسة مكانا يعتبر نموذجا لتغطية نباتية ومناخية شاملة. ولذلك فقد تعامل مجتمع الدراسة مع هذا الغطاء النباتي ، لاسيما النباتات والأعشاب العلاجية. فعرف خواصها ومزاياها وفوائدها الصحية، وأكثر من هذا فقد تخصصت عائلات بأكملها في العلاج بالأعشاب، يرثون المعرفة والخبرة من الآباء والأجداد، ويرثها منهم الأبناء والأحفاد. فإذا عجزت النباتات المحلية جلب الأفراد من الخارج ما يكفيهم لحاجاتهم العلاجية.
من جهة أخرى فقد لعب الموقع الجغرافي لمجتمع الدراسة دوره في ازدهار العلاج الشعبي بشتى صوره. سواء طب الأعشاب، العلاج بالكي، أو التجبير، أو العلاج بالقرآن الكريم العلاج بالحجامة، أو التوليد … الخ. وقد أكدت الدراسة أن هذه الممارسات لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، بالرغم من انتشار الخدمات الصحية الرسمية.
وقد منحتنا الدراسة الميدانية فرصة التعرف على كنوز التراث الشعبي ولاسيما ابرز صور الطب الشعبي وعوامل انتشاره.
وفي ضوء ذلك حاولنا أن نحدد محاور الدراسة على الشكل التالي :
1- موضوع الدراسة.
2- منهجية الدراسة.
3- الإطار التصويري للدراسة.
4- دراسة حالة لأشهر المعالجين الشعبيين.
5- مناقشة النتائج.
1- موضوع الدراسة:
وفي ضوء نقص الدراسات الانتروبولوجيا العلاجية عن المجتمع الجزائري ، وان استأثر باهتمامات الباحثين (1). وازدياد الصراع بين الحداثة والتقليد ، التزمنا بإجراء هذه الدراسة الميدانية على ممارسة العلاج الشعبي في مجتمع الدراسة الجزائري ، وذلك بغرض التعرف على صورته الواقعية ، واستشراف مستقبله.
فمجال العلاج الشعبي أضحى متعدد الجوانب والممارسات والاعتقادات ، بتشعب موضوعاته وتخصصاته. وحتى نقف على حقيقة الممارسة الفعلية لهذا العلاج الشعبي، اقتصرنا دراستنا على ثلاثة أنماط من الممارسات الأكثر انتشارا ومجتمعا، وهي : (العطار) أو (المعالج بالأعشاب)، و(الجبار)، (تجبير الكسور والفلتات المفصلية) و (الطالب أو الفقيه) أي (المعالج بالقرآن الكريم). وفي هذه الحالة فإننا سوف نلقي الأضواء على الممارسة العلاجية الشعبية وأغراضها والأمراض التي تخص بعلاجها، وكذلك نوعية المجتمع المستفيد منه وخصائصه ومكان الممارسة، إضافة إلى مميزات المعالج المتخصص نفسه (السن، المهنة، الخبرة، مستوى التعليم، النوع) ثم الختام بوجهة نظره في تفسير المرض.
2- منهجية الدراسة:
نحاول في هذه الدراسة الميدانية الاجتماعية التعرف على بداية على صورة العلاج الشعبي في مجتمع الدراسة (الجزائري) في ضوء التراث الإعتقادي الشعبي حول ظاهرتي الصحة والمرض ، ثراء الممارسات الشعبية العلاجية منها والوقائية. وحتى ندرك مبتغانا في تحقيق نتائج الدراسة الميدانية فقد اعتمدنا على الطرائق والمناهج التالية:
1- دراسة الحالة:
طريقة منهجية تقدم لنا بيانات مفصلة عن موضوع الدراسة وتطوره، ثم تحديد المراحل التي يقطعها في سبيل التغير، وأهم العوامل التي تؤدي إلى حدوثه، وتلك التي تعرقله. وقد أفادتنا دراسة الحالة كثيرا في التعرف على العلاج الشعبي في مجتمعه (الجزائري)، وأنماطه وأشهرها وأكثرها انتشارا، كما استطاعت هذه المنهجية أن تزودنا بمعلومات ميدانية متعددة حول الممارسين للعلاج الشعبي لاسيما المتخصصون منهم، وتخصصاتهم ومصادر خبراتهم وطرائقهم العلاجية ومكان تقديم الخدمات العلاجية. كما أفادتنا الدراسة الميدانية كذلك بمجتمع الدراسة (الجزائري) خاصة المستفيد من العلاج الشعبي، والأمراض التي توجه إلى المعالج الشعبي، وأساليب العلاج المتبعة، من خلال دراسة الحالة. زيادة على ذلك أنها قدمت لنا معلومات هامة حددت ملامح النسق العلاجي الشعبي، وطبيعة تفاعله وتأثيره.
2- المنهج الانتروبولوجي:
هو منهج هام وأساسي في التعرف على واقع العلاج الشعبي في مجتمع ذي أصول حضارية وتاريخية عريقة، واتصال ثقافي متعدد وواسع، ولعل مرونة هذا المنهج وشموليته جعلته أكثر لياقة مع موضوع الدراسة ومجتمع البحث، وذلك من خلال ما يتضمنه من طرائق وأدوات تساعد على جمع المادة الاثنوغرافيا الغريزة حول ممارسة الطب الشعبي، ومنها:
أ– المستجوبون:
وهم جماعة من الأفراد متمركزون في مجتمع الدراسة الميدانية ، من كبار ومتوسطي السن ذكورا وإناثا منهم المتعلمون وغير المتعلمون ، موظفون وتجار ، فلاحون وعجائز ، ممارسون وغير ممارسين ، حيث يقدمون صورة ناصعة عن العلاج الشعبي ، والأمراض التي يتصدى لها ومجتمعه الذي يقصده ، كما يقدمون كذلك معلومات عن الطب الحديث وعلاقته بالعلاج الشعبي.
ب– الملاحظة المشاركة:
وسيلة منهجية أتاحت لنا فرصة معرفة السلوك الفعلي لمجتمع الدراسة عن قرب ، دون زيف أو تحيز ، ولاسيما في مجال ألتداوي والقرار الطبي وسلوك المرض. كما هيأت لنا هذه المنهجية فرصة المشاركة في الممارسة العلاجية للصرع ، ومعايشة المعالج بالأعشاب ، إضافة إلى الاقتراب الوثيق من (الجبار) تجبير الكسور والفلتات المفصلية. وقد ساعدنا في ذلك بعض أفراد مجتمع الدراسة المستجوبون في الاقتراب أكثر من مجتمع الدراسة ، والملاحظة الدقيقة والتركيز على المواقف التي تجسد الاتجاه نحو الطب الشعبي. وبالتالي فقد سهلت لنا هذه الطريقة الحصول على المادة الاثنوغرافيا الغريزة والواقعية وهي عملية نتجت عن تفاعل وثيق بيننا وبين الممارسين للعلاج الشعبي وكذا مجتمع الدراسة المستفيد وموضوع الدراسة الميدانية نفسه.
ج- الملاحظة:
عملية تساعد كثير على فهم موضوع الدراسة الميدانية ، وتأويل السلوك الواقعي حول المرض والصحة. وقد أفادتنا هذه الطريقة في مشاهدة الأسلوب العلاجي الشعبي الذي يمارسه (الجبّار) أو (الحجام) أو (العشاب)، وكيف يلاقي هذا الأسلوب هويّ في نفس مجتمع طالب الخدمة ، زيادة على ملاحظة التفاعل الودي الوثيق بين المعالج (الممارس) وبين مجتمع الدراسة.
د- دليل العمل الميداني:
أداة منهجية أخرى تتضمن تفصيلات دقيقة عن موضوع الدراسة، بكل زواياه وعناصره المتنوعة، وتراعي طبيعة المجتمع محل الدراسة، كذلك يعتبر الدليل أداة تنظيمية ضابطة فهو يتضمن أفكار وعناصر الموضوع بشيء من الترتيب، مما يتيح الفرصة للجمع الميداني المنظم – وفقا لها- والتحليل والتفسير بنفس الطريقة المنظمة. وقد اعتمدنا في دراستنا الميدانية على دليل دراسة العلاج الشعبي الذي أعده المختصون في هذا المجال (3).
3- المقابلة والحوار:
إجراء يلتقي فيه الباحث مع المستجوبين فيوجه إليهم مجموعة من الأسئلة ليعرف اتجاهاتهم وسلوكاتهم الفعلية نحو هذا النوع من الممارسة. والمقابلة تتيح الفرصة للاتصال المباشر، وجمع المعلومات الواقعية بقدر الأماكن من المستجوبين، زيادة على كونها تتيح للدارس فرصة متابعة المستجوبين أثناء استجابتهم وقراءة ملامح وجوههم، وحركاتهم اللفظية والأدائية. وقد استندنا أثناء المقابلة على جمع المعلومات الميدانية حول الممارسين للعلاج الشعبي وأسلوبهم العلاجي وأدواتهم العلاجية. كذلك أفادتنا المقابلة كثير في التعرف على مميزات المجتمع المعالج، والأمراض التي تدفعه لالتماس الشفاء غير الرسمي، وسلوك المرض. وقد ساعدنا في ترتيب هذه المقابلة جمع متواضع من مجتمع الدراسة شمل الممارسين للعلاج الشعبي وأفراد من المقبلين على العلاج سواء من الرجال أو النساء، المسنين والمحدثين، المرضى والمرافقين لهم.