العلم والفلسفة والفن

فالهدف الأساسي للعقل البشري هو تحديد وتعيين معاني التأثيرات الأوضاع التي يتعرض لها الإنسان أي فهمها , وذلك من أجل التصرف بفاعلية عن طريق استجابات مناسبة تؤمن حمايته واستمراره ونموه , وكذلك من أجل تحديد وتعيين نتائجها المستقبلية المتوقعة , والتعامل معها بناء على المعنى الذي أعطي لها.

فبناء المعنى لشيء ما أو وضع ما هو تحديد وتعيين قيمته أي مقدار فائدته أو ضرره ( ومقدار لذّته أوألمه ) , في الحاضر أو المستقبل ( أي يفهمه ) , وبناءً على الفهم يجري التصرف , ونتيجة الفهم للأمور تقرر الأهداف والغايات .
ففهم الأمور يتضمن معرفة البدايات والأسس والأسباب , وهذا أساس سعي العقل لفهم أسس وبدايات وجوده و وجود هذا الكون , ومعنى وغايات هذا الوجود . وهذا في الواقع ما يقوم به الإنسان عندما يتفلسف .
فهدف الفلسفة السعي لمعرفة المسائل جوهرية في حياة الإنسان ومنها الموت والحياة و الواقع و المعاني و الحقيقة . فالأساطير والأديان والعقائد هم فلسفة .
لقد كانت الفلسفة في بادئ عهدها ( وما زالت ) تبحث عن اصل الوجود ، والصانع ، والمادة التي اوجد منها ، أو بالاحرى العناصر الأساسية التي تكون منها . والتفكير في الكون و موجوداته وعناصر تكوينة , والبحث في ذات الإنسان
ما الحقيقة؟ كيف أَو لِماذا نميّز بين ما هو صحيح أَو خاطئ ، وكَيفَ نفكّر ونقيم ونقرر؟ وما هي الأشياء التي يُمْكِنُ أَنْ تُوْصَفَ بأنها حقيقية؟
ما الحكمة؟
هل المعرفة ممكنة؟ كَيفَ نعرف ما نعرف؟
هل هناك اختلاف بين ما هو عمل صحيح وما هو عمل خاطئ أخلاقياً ( بين القيم ، أو بين التنظيمات )؟ إذا كان الأمر كذلك، ما ذلك الإختلاف؟
أَيّ الأعمال صحيحة ، وأَيّها خاطئ؟ هَلْ هناك قِيَمِ عامة مطلقة ؟
كيف يَجِب أَنْ نعيش؟
ما طبيعةالأشياءِ؟ هَلْ بَعْض الأشياءِ تَجِدُ بشكل مستقل عن فهمنا؟
ما طبيعة الفضاء والوقت؟
ما طبيعة الفكرِ والمعتقدات؟
ما هو الشيء جميل؟ هل الجمال حقيقية موجودة ؟ كيف تختلف أشياء جميلة عن القبيحة؟
ما الفن؟
 
الفلسفة اليوم وبالنظر إلى ما هو متوفر من المعارف هائلة , والتقدم الذي حققه الفكر البشري في مختلف المجالات , وعلى ما تراكم من أسئلة وقضايا مطروحة في العديد من المجالات ، لم يعد دور الفيلسوف فقط حب الحكمة وتحلياته الموضوعية لم تعد كما كانت عليه ، إن الفيلسوف الآن بات مقيداً بالكثير من المناهج و القوانين المنطقية وبالمعطيات اليقينية في إطار من التراكمات المعرفية وتطبيقاتها التكنولوجية . ولم يعد تعريف الفلسفة متوافقاً مع الدور الذي يمكن أن يقوم به الفيلسوف المعاصر والذي يختلف كثير الإختلاف عن دور سلفه من العصور القديمة .
الفلسفة الآن أصبحت تعتمد تعدد الأفكار والمذاهب وعلى مستوى واحد تقريباً , الفيلسوف كذا قال كذا ومنهجه كذا , والمدرسة كذا اعتمدت كذا وكذا , والمذهب كذا أهتم بكذا وكذا . . . , وهذا هو منهج وأسلوب التدريس في الجامعات الذي يطرح ويشرح غالبية الأفكار عن الأمر المدروس , ويجري مقارنتها وتقييمها مع بعضها , إنها طريقة تصعب الأمور من أجل فهم شامل لأبعاد المادة المدروسة .
هذه الطريقة في اكتساب المعارف لها ميزاتها , ولكن محازيرها أنها تجمع المعارف المتضاربة أو المتناقضة مع بعضها وتخلطها , فتصعب الأمور على الدارس للوصول إلى المعارف الأدق , نتيجة إمكانية بناء أحكام كثيرة متناقضة أو متضاربة , هذا إن لم تضيعه وتجعله بلا رأي .
وهذا بعكس الوضع في المجال العلمي وفي مجال الرياضيات , فليس هناك مدارس أو مذاهب أو معارف ( نظريات أو قوانين ) متناقضة أو مزدوجة , بل هناك نفس المعارف والمعتمدة من جميع العلماء وفي كافة البلاد دون استثناء .
هل يمكن أن يجادل رياضيان في صحة نظرية رياضية أو حل معادلة رياضية , وهل يمكن أن يجادل عالمان فيزياء في صحة قانون فيزيائي , وهل يمكن أن يجادل عالمان في الكيمياء في صحة القوانين الكيميائية , طبعا لا . وعندما يتم التكلم عن ازدواج المعارف أو الأحكام , عندها نصبح خارج العلم الدقيق وفي مجال الفروض والنظريات التي لم يثبت دقتها ( أي في مجال الفلسفي)
وفي المجال العلوم الدقيقة , لا يحدث تعديل أو نقض للمعارف العلمي , إلا إذا عدلت الأسس والمنطلقات والمراجع الأساسية , فعندها يجري التعديل والتصحيح لكافة سلسلة المعارف العلمية .
أما في مجال الفلسفة والعقائد فهناك دوماً مجال للمجادلة والنقاش والنقد , وهذا حسب التحكم في أسس المنطلقات والمراجع , ومراجع القياس والتقييم والأحكام للأمور , أهي أحكام قيمة أم أحكام واقع .
ففي مجال العلوم الإنسانية , وبالذات قضية النفس والذات والإرادة والحرية لا زلنا في مجال الفروض والأفكار الفلسفية . ولا زال الكثيرون يرفضون قدرت العلوم الفيزيائية والفزيولوجية والعصبية على الوصول لتفسير كافة أمور العفل والنفس والروح والإرادة وبدقة موضوعية دقيقة .
 
كما أنه هناك فلسفة الحياة , هناك أيضاً فلسفة العلم , وفلسفة الفن , وفلسفة السياسة , وفلسفة الاقتصاد . .
أي المبادئ والتفييمات والأحكام العامة لعذه الأمور .
علاقة الفلسفة بالعلم , فهي التي مهدت وحضرت لنشوئه , المنطق والسببية والرياضيات . .
 
العلم
أهم خصائص المعارف وهي :
1-      المعرفة هي تنبؤ ( والاستقراء, والاستنتاج, والاستنباط, والاستدلال, و التركيب, والتحليل, والتفسير, والسببية ) يتضمنون التنبؤ, والحكم هو تنبؤ معتمد . و لها درجة صحة أو درجة دقة ولا توجد معارف مطلقة الصحة . والمعرفة الدقيقة هي بمثابة مفاتيح تسمح لنا بفتح الزمن واستباق الواقع , ومعرفة مراكز التوازن أو الاستقرار لدارات تفاعل البنيات ونتائج صيرورتها, وبالتالي تسمح لنا بتحقيق الأهداف بأسرع وأسهل طريقة , دون استعمال التصحيح بالتغذية العكسية أو التجربة والخطأ , لأنها تسمح لنا بتحديد المطلوب الصحيح فوراً. فهي بمثابة المفاتيح التي تفتح الأقفال أو الأبواب المطلوبة من المرة الأولى .
2-      نسبية المعرفة وتبعيتها للعارف وارتباطها به , لذلك لا توجد معارف مطلقة
3-      ارتباط المعرفة وتبعيتها لخصائص وقدرات الحواس البشرية . أشكال تأثرها بالوجود و خصائصها , وقدرات وخصائص العقل البشري . لذا فإن المعرفة البشرية مختصرة ولا تشمل إلا جزءاً ضئيلاً من وقائع الواقع اللا متناهية . وترتبط المعرفة بزمان ومكان وقدرات وخصائص الإنسان العارف الذي هو مرجع هذه المعارف, لذلك تختلف المعارف باختلاف الأشخاص واختلاف الأزمان
4-      المعارف يجب أن تكون عامة و توحيدها لا بد منه , عند تعامل الناس بها.
5-      هي نتيجة التواصل الفكري بين البشر.
إن العلم يسعى للوصول للمعارف الدقيقة , للحوادث وكيفية حدوثها , وكيف تتشكل البنيات والأشياء , ومعرفة كيفية التحكم بهم . وهو يسمح لنا ببناء التكنولوجيا بكافة أشكالها . ويمكن للعلم أن يوصلنا إلى فهم عالي الدقة الوجود ( بالنسبة لنا ) , تاريخه الماضي , وتوقع الاحتمالات المستقبلة لتطوره بدقة لا بأس بها .
أي يستطيع العلم أن ينافس الفلسفة في قدرته على التوصل للمعرفة الدقيقة للأصول الأولية الأساسية للوجود ( بالنسبة لنا ) وبدقة عالية جداً .
لقد كان رأي غاليليه و فرنسيس بيكون , أن تحسين ظروف الحياة لا يتم إلا عن طريق المعارف الدقيقة , أي العلم , فالهدف هو معرفة الدقيقة للأسباب , ومعرفة الحركات الخفية للأشياء , والعمل على إطلاق القدرات البشرية إلى أقصى الحدود .
ويقول بوبر:
إن إحدى المهام الأساسية للعقل البشري هي أن يجعل الكون الذي نحيا فيه مفهوماً وتلك هي مهمة العلم . وإن إيجابيات المنهج العلمي هي : المحاولة والخطأ , وطرح الفروض الجريئة وتعريضها لأعنف نقد ممكن , ومحاولة حل المشكلات والحل الأقدر والرأي الأرجح يفوز .
وإن النظريات مهمة ولا غناء عنها لأننا من دونها لن نستطيع أن نيمم جهودنا شطر العالم , لن نستطيع أن نعيش . وحتى ملاحظاتنا يتم تأويلها بمعونة النظريات . فالنظريات والقوانين ليست شيئاً غير سلاسل من القواعد تربط سلسلة من الظواهر القابلة للملاحظة بأخرى .إن احتياجنا للنظريات ملح , فالنظريات العلمية لا تقتصر على مجرد وصف الواقع , بل أنها تكشف المجهول بقدرتها على التنبؤ.
فالمعارف العلمية تقدم لنا صورة عن الواقع المتغير باستمرار , فلا يوجد ما هو مستقر , ما هو دائم , في تأكيدات العلم , فالمعارف العلمية دوماً قابلة للتطور والتجديد نحو الأدق والأصح . “
فمهمة العلم هي صياغة النظريات والقوانين صياغة رياضية منظمة تسهل علينا التعامل مع الواقع , وتمكننا من التنبؤ المستقبلي للحوادث , وذلك بوضع الفرضيات واختبارها واستبعاد الفرضيات التي لا يمكن اختبارها , واستقراء الواقع وبناء التعميمات التي هي نظريات وقوانين .
ويقول آلان شالمرز
“. . . فالقوانين والنظريات بوصفها أجهزة تنبؤية وتفسيرية , وإحدى سمات العلم الكبرى هي قدرته على التفسير والتنبؤ , فالعلم لا يهتم بمعرفة جوهر أو ماهية الأشياء بل بكيفية تكون الأشياء وكيفية حدوث الوقائع وصياغة النظريات و القوانين لها .
فهدف العلم هو إنتاج نظريات وقوانين تكون أجهزة أو أدوات صالحة وميسرة للربط بين سلسلة من الوضعيات القابلة للملاحظة بسلسلة أخرى مماثلة , من أجل وصف العالم بصورة دقيقة وقابلة للفهم . “
من أين تأتي دقة المعارف العلمية
إن كافة معارفنا يتم بناؤها بالاعتماد على الاستقراء والتعميم . فالاستنتاج والتنبؤ انطلاقاً من عدد من الحالات التي تم رصدها أو مشاهدتها يكون نتيجة الاستقراء للواقع . والميزة الأساسية للمعارف العلمية هي أنها تعتمد استقراء واسع جداً في بناء التعميم . وهذا التعميم يكون على شكل قوانين أو نظريات . فالاستقراءات التي يعتمدها العلم تشمل ملايين أو مليارات من الحالات التي يتم رصدها وبناء الاستقراء بالاعتماد عليها . وهذا لا يحدث في باقي المعارف , فأغلب المعارف غير العلمية تعتمد كمرجع بضعة حالات في تعميماتها , وبعضها يطلق التعميم بالاعتماد على استقراء حادثة واحدة أحياناً , أو من قصة مروية , ويبنى التعميم عليها , فيكون هذا التعميم ضعيف الدقة .
هناك تساؤلات عما إذا كانت الاستدلالات الاستقرائية مبررة أو يمكن تبريرها وفق أية شروط , أي ما يعرف بمشكلة الاستقراء . ويمكن صياغة المشكلة في السؤال القائل :
كيف يمكن تأسيس صدق القضايا الكلية المستندة إلى الخبرة كالفروض والأنساق النظرية للعلوم الامبريقية , وهل هناك استدلالات استقرائية يمكن تبريرها منطقياً , وكيف نبرر تعميمنا المعتمد على رصد عدد من الحالات مهما كان هذا كبيراً
في الواقع لا يمكن أن يكون تعميمنا مطلق الصحة , وليس ضرورياً تبرير الاستقراء منطقياً , فيكفي أن نصل إلى معارف ذات نتائج عملية نسبة دقتها عالية جداً.
وكان هيوم يرى أنه لا يمكن تبرير الاستقراء بالمنطق أو التجربة , وأن العلم لا يقبل التبرير العقلي دون الاعتماد على الواقع والتجربة .
ويقول رشنباخ :
لقد وصفنا مبدأ الاستقراء بأنه الوسيلة التي يمكن بها للعلم أن يقرر الصدق , ولتوخي الدقة أكثر ينبغي القول أن هذا المبدأ يخدمنا في تقرير الاحتمال , لأنه ليس من مهام العلم أن يصل للصدق أو الكذب . . . ولكن القضايا العلمية وحدها هي ما يمكن أن يصل لدرجات من الاحتمال والتي تصبح في حدودها العليا والدنيا هي الصدق أو الكذب , فالاستدلال الاستقرائي يمكن أن يصل لدرجة عالية من الموثوقية أو الاحتمال وهذا ما نحن بحاجة إليه في حياتنا العملية .”
خصائص المعارف العلمية
العلم في مفهومه الحالي يتمثٌل بالمعارف العالية الدقة , والمتوضعة في الكتب والوثائق وغيرها . فالعلم هو كمية هائلة من المعارف المترابطة في سلاسل وأنساق , ومنتظمة في بنية واحدة تقريباً . وهذه المعارف عالية الدقة وتنطبق بدرجة عالية على الواقع الذي نعيشه , وهي خاضعة للاختبار والتأكد من دقتها دوماٌ .
والذي يميز المعارف العلمية عن باقي المعارف , مثل المعارف العادية , كالأمثال والمعارف الشعبية والعقائدية والفنية والفلسفية وغيرها هو :
أولاً : المعارف العلمية تعتمد النظريات والقوانين الدقيقة التي تبنى بالقياس الكمي الدقيق , والرياضيات هي أداتها
ثانياً : درجة دقة تنبؤاتها العالية وانطباقها على الواقع بشكل كبير . فقد تم اعتمادها بعد اختبار وتجريب واسع جداً .
ثالثاً : تترابط هذه المعارف مع بعضها في سلاسل وأنساق , فهي مترابطة بشكل كبير في بنية واحدة متماسكة ولا يوجد تناقض بينها .
رابعاً: اعتمادها من قبل أغلبيةً كبيرة أي عموميتها وتوحيدها , وهذا يجعل تداولها بين الشعوب المختلفة سهلاً . هذا إذا لم تصطدم وتتعارض مع المعارف العقائدية أو المقدسات المعتمدة . وهي بعكس المعارف الشعبية والعقائدية وباقي المعارف التي يصعب تداولها بين الجماعات التي تتبنى كل واحدة منها معارف خاصة بها , فالمعارف غير العلمية هائلة جداً وهي في كل المجالات ولقد تنوعت وتعددت مصادرها وأصولها , وهذا ما جعلها متواضعة الدقة وغير منسقة ومتناقضة مع بعضها في أغلب الأحيان .
خامساً: المعارف العلمية لا تحمل قيمة إلا مقدار درجة دقة انطباقها على الواقع , فهذا الذي يعطيها قيمتها , مثال ” كل المعادن تتمدد بالحرارة ” هذه معلومة علمية , وليس المهم أن يكون هناك فائدة أو ضرراً لهذا التمدد , فالمهم هو أن كافة المعادن تتمدد بالحرارة باحتمال شبه مطلق . فقيمة المعارف العلمية تأتي من دقة تنبؤها العالية وانطباقها على الواقع .
سادساً: هذه المعارف متسلسلة في درجة دقتها , فالمعارف الرياضية الهندسة والحساب والجبر والتفاضل.. تأتي في القمة ودقتها تامة أي مطلقة . تليها المعارف الفيزيائية ودرجة دقتها تتجاوز 10 قوة 12 . تليها المعارف الكيميائية , ثم المعارف البيولوجية , ثم المعارف الاجتماعية . . . , والمعارف العلمية تنمو وتتوسع وتزداد دقة باستمرار .
إن المعارف العلمية تتميز عن باقي المعارف بقابليتها للتكذيب والصمود أمام كافة التكذيبات . فنحن نستطيع أن نختبر أي قانون أو نظرية علمية , وإذا كذبه اختبار واحد , عندها سوف نسعى لتغييره أو تعديله . والنظريات العلمية ذات المحتوى الإخباري الكبير وذات التأملات الأكثر جرأة مفضلة شرط أن تكون قابلة للتكذيب وتصمد أمامه .
وكذلك إذا تناقض قانون في مجال معين مع قانون آخر , عندها نسعى لإزالة هذا التناقض , إما بإلغاء أحدهم أو كلاهم , أو تعديل أحدهم أوكلاهم .
 يجب أن لا تتناقض القوانين والنظريات العلمية مع بعضها . ويجب إلغاء النظريات التي لا تستطيع مواجهة اختبارات الملاحظة أو التجربة , وتعويضها بنظريات أخرى أدق منها .
ولن نسمح لأنفسنا بالقول بأن نظرية ما صحيحة , بل سننحو إلى التأكيد بأنها أفضل ما هو متوفر وأنها تتجاوز كل النظريات التي جاءت قبلها , أي ليس هناك معارف علمية مقدسة معصومة من التعديل أو التطوير .
إن الوسائل المختلفة التي نستخدمها لإنتاج النظريات حول العالم , تجرنا وتقودنا إلى عملية اكتشاف لا تنقطع , ولا نستطيع أن نعرف قبلياً ما ستكون عليه هذه العملية في المستقبل , وليس في إمكان أي محاجة فلسفية أن تمكننا من ذلك .
لقد اكتشف غاليلي أن من الممكن إدراك بعض مظاهر العالم الفيزيائي بواسطة نظرية رياضية للحركة , ثم ابتعدت نظريات نيوتن عن هذه الفكرة في بعض النقاط الجوهرية , والميكانيكا الكوانطية تدرك العالم بطرق تختلف اختلافاً جوهرياً وأساسياً عن طرق ومسلك الفيزياء الكلاسيكية , ومن يدري ما سوف تشبه النظريات الآتية .
لقد اعتمد العلماء في تشكيل المعارف العلمية على التجريب والاختبار والاستقراء الواسع وقاموا بوضع النظريات والقوانين , وكانت العلوم الفيزيائية والكيميائية هي المجال المناسب لتطبيق منهجهم والوصول لمعارف عالية الدقة بشكل كبير . واعتمدت العلوم الفيزيائية كأساس تبنى عليه باقي العلوم , فيتم تشكيل القوانين والنظريات والمعارف الكيميائية الدقيقة بالانطلاق من القوانين والنظريات الفيزيائية , ثم تبنى العلوم الفزيولوجية والبيولوجية وباقي العلوم .
صحيح أن المنهج العلمي الآن يواجه صعوبات كثيرة للوصول للمعارف الدقيقة في كافة المجالات , نتيجة اتساع هذه المجالات التي نتعامل معها , بالإضافة لتعقيدها الكبير , وخاصة المجال النفسي والاجتماعي والاقتصادي . ولكن يظل الكثيرون يؤمنون أن اعتماد المنهج العلمي والمعارف الفيزيائية الدقيقة التي تم التوصل لها , هو الأفضل للوصول إلى معارف عالية الدقة في تلك المجالات .
يقول ” جون بروكمان ” في مقال عن ” الإنسانيين الجدد ” :
تتمثل المستحدثات في ظهور بيولوجيا جديدة عن العقل وتحقيق تطورات مهمة تعتبر بمنزلة طفرة واسعة في ميادين البيولوجيا العصبية والذكاء الصناعي والشبكات العصبية وغيرها من الإنجازات العلمية التي تؤلف تحدياً للافتراضات القديمة عن الطبيعة البشرية وعن معنى الإنسانية .
لقد أصبح مركز الفعل العقلي – حسب تعبيره – في أيدي العلماء والمفكرين ذوي الميول العلمية , وهؤلاء هم الذين يؤلفون ( الإنسانيين الجدد)
فالعلم الطبيعي الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا … “هو إذاً مركز الثقل في الثقافة الجديدة على عكس ما كان عليه الوضع في الماضي غير البعيد , فلم تعد معرفة الشخص لآراء مفكرين كبار من أمثال فرويد وماركس أو الإحاطة باتجاهات الحداثة مؤهلاً أو مسوغاً كافياً لاعتبار ذلك الشخص مثقفاً لأن هذه الثقافة (لا أمبيريقية) تغفل العلم , بل إنها على أفضل الأحوال مجرد شروح على شروح أو تعليقات على تعليقات سابقة , ولا تأخذ في اعتبارها عالم الواقع بشكل دقيق , فهي ثقافة تعتمد معلومات متواضعة الدقة .
الفرق بين العلم والفلسفة
تعتمد المعارف والأفكار والتنبؤات العلمية على ثبات الأسس والمنطلقات والمراجع , ووحدتها , فهي جميعها في سلسلة مترابطة واحدة , وأحكامه لا تعتمد هلى أي تقييم سوى تقييم درجة دقة أو صحة مطابقتها مع الواقع , أما القيم البشرية الأخلاقية والذرائعية . . فلا تعتمد عليها .
أما الأفكار والمعارف الفلسفية فهي تتعدد لتعدد منطلقاتها وأهدافها وغاياتها , فهي متعدد المناهج والطرق والغايات , وتختلف في تقييمها للأمور حسب مناهجها وغاياتها .
إن التفكير الفلسفي هو شطحات فكرية , فهو لعب فكري متطور وراقي هدفه السعي لفهم مجمل أبعاد الوجود من أجل فهم حياة الإنسان , معانيها , وأسبابها , وغاياتها .
والتفكير الفلسفي يمكن اعتباره بمثابة فروض أو نظريات تحتاج لختبار ودراسة وتأكيد أو نفي لتصبح علماً دقته عالية إذا تم اختبارها على مجال واسع وثبتة صحتها .  
الفن  
الفن نشأ أولاً , ثم الفلسفة , ثم العلم .
فالفن موجود لدى الكثير من الكائنات الأخرى , مثل رقصات التزاوج , وبناء الأعشاش والمسكن , والغناء أو إصدار الأصوات , والتباهي بالجمال . . . فالفن نشأ أولاً لأنه مرتبط بشكل مباشر بالحياة والأحاسيس وباللذة والألم , وبالجميل والقبيح , وبالتناسق , وبالمحبوب والمكروه . . .
فالفن لدينا يسعى تذوق مجالات الوجود والحياة , وإلى تصويرها وتمثيلها , وإظهار أبعادها ومعانيها .
وبمساعدة العلوم والتكنولوجيا يستطيغ الفن بناء أو خلق تذوقات جديدة لأبعاد الحياة والوجود .
ومثلما هناك فن الحياة , هناك فن الحب , وفن الطبخ , وفن العمارة , وفن العلاقات العامة . . . وهذه الفنون تشمل تذوق الأحاسيس والمعاني لهذه المجالات .
إن هدف الفنون هو قرع الأحاسيس والانفعالات, والناس يطلبون من الفنانين منحهم أحاسيس وانفعالات الحب والحنان والعطف والمواساة والسلوى والمرح والضحك والفخر والاعتزاز والإخاء والانتماء والتشويق والهدوء والجمال واللذة والمفاجأة…., وأحاسيس الخوف والرعب المسيطر عليه, كما يطلبون التمتع بالألحان والنغمات والإيقاعات الموسيقية المرغوبة والممتعة, ويطلبون الروائح والأطعمة وكافة الأحاسيس والانفعالات الممتعة…. , فهدف ودور الفن الأساسي هو الممتع, ولا يهتم كثيراً بالمفيد أو الواجب, لذلك يمكن أن يلتقي الدين والسياسة والعلم مع الفن عند تعرضهم للأحاسيس والانفعالات.
أنواع الفنون وتدرج ظهورها
1-      فنون تذوق الحب
2-      فنون تذوق الطعام
3-      فنون تذوق الأصوات والألحان والإيقاعات
4-      فنون الرقص
5-      فنون, الرسم
6-      القصص والأساطير والشعر والملاحم, بعد نشوء اللغة, ثم نشوء المسرح
7-      القصة والرواية والمسرحية الحديثة والمقروءة وباقي الفنون الحديثة الكثيرة .
8-       السينما والتلفزيون
9-      الواقع الافتراضي
 
ما هو الفن؟ لماذا يمارسه الإنسان بهذه الرغبة وهذا الشغف؟ 
الفن هو كل الأعمال البشرية التي تحدث الأحاسيس والانفعالات المرغوبة أي كل جميل وممتع أومرغوب , وينشئه الإنسان بدافع ممارسة وتذوق الأحاسيس والمشاعر أوالأفكار, وذلك نتيجة دوافع فكرية ومادية ذاتية واجتماعية . وهدف الفن في المحصلة هو إحداث الأحاسيس المرغوبة للذات أو للآخرين , والفن بذلك ينمي و يوسع الأحاسيس والمشاعر والوعي والإدراك للذات والوجود .
إن الإنسان الفنان يستخدم كافة العناصر والإمكانيات المتاحة له ليشكل إنتاجه الفني فهو يستخدم إما الأصوات والنغمات والإيقاعات أو الخطوط والأشكال والألوان أو المأكولات أو الكلمات والمعانيأو المنشآت والمباني … وكل ما ينتج أحاسيس الممتعة لديه ولدى الآخرين , وأي انتاج فني لا يمكن الإحساس به و تذوقه من قبل الآخرين إلا إذا كانوا قادرين على تلقي رموزه وإشاراته وتأثيراته ويستطيعون الاستجابة لها وتمثل ما تحدثه من أحاسيس, فهناك ما يشبه الإرسال والاستقبال في عملية تلقي الفن وتذوقه, فيجب ن تراعى خصائص المستقبل وقدراته .
كان لتنوع وتطور الأحاسيس دوراً كبيراً في تنوع الفنون البشرية فتذوق كافة أنواع الفنون يشمل كافة مناحي وجودنا الواعي- الشعور والإحساس- وغير الواعي , بالإضافة إلى مجمل حاجات جسمنا .
إن الفنان يبدع أو يحضر ويصنع فنه بدافع ذاتي وأيضاً من أجل الآخرين الذين يعيشون لإطلاعهم على ( ما يرى عمله هذا ) يحدث أحاسيس جميلة أو لذيذة أو مدهشة أو عجيبة , أي مرغوبة . وهو يستهدف غالباً عند صنع أوإبداع عمله الفني , الأحاسيس والأفكار والدوافع المشتركة بينه وبين هؤلاء الذين يقدم لهم إنتاجه الفني .
فبواسطة فكره و قدراته , والعناصر والآليات التي يستعملها , يقوم بإنتاج عمله الفني , فإذا أحدثت التأثيرات المطلوبة أوأي تأثيرات مرغوبة لدى الذين تلقوها وتناولوها وتذوقوها, يكون عندها نجح في إنتاج فنه , بالإضافة إلى أنه يكون حقق دوافعه الذاتية التي كانت سبباً ودافعاً لإنتاج هذا الفن.
والفنان المبدع المتمكن من فنه وصنعته- بوعي وإدراك وعلم , أو بدون ذلك- هو المتمكن من معرفة أو حدس خصائص الأحاسيس لديه ولدى الآخرين , بالإضافة لتمكنه من العناصر والآليات التي يستعملها في فنه ويوظفها بفاعلية جيدة, فهو متمكن من قرع- أوعزف- الأحاسيس المطلوبة والمرغوبة في عقول الذين يستهدفهم بفنه . ويمكن أن يفشل الفنان في جعل الآخرين يتأثرون ويتذوقون فنه مع أنه أنتج فناً يمكن أن يحدث الأحاسيس الجميلة واللذيذة, وذلك لأنه لم يقدم إنتاجه للذين يستطيعون فهمه والقدرة على تذوقه , أو لأن الذين يستطيعون تذوق فنه قلائل جداً, وهذا يجعل إنتاجه غير صالح للانتشار, وبالتالي يهمل .
الفن والأدب
إن الأدب بشكل خاص يمتاز عن باقي الفنون في قدرته على تنويع وتوسيع الأحاسيس التي يستطيع أن يقدمها , فالأحاسيس التي يستطيع الأدب أن يحدثها لدى متلقيه هائلة التنوع والاتساع وعالية التطور, فحتى السينما وقدراتها الهائلة لا تستطيع أن تنافس الأدب في مجالات كثيرة, وهي لابد أن تستعين بالأدب .
فللأدب قدرة على كشف وتمثيل- ترميز- أعقد الأحاسيس والمشاعر والأفكار الإنسانية ونقلها إلى الآخرين, وقد بلغت قدرات الأدب الآن مستويات عالية جداً في إحداث الأحاسيس والمشاعر المتطورة والمعقدة, إن المشاعر والأحاسيس والانفعالات التي يخلقها الأدب لا يمكن أن تبزها أية مشاعر أخرى, فحتى الواقع الافتراضي – الآن- لا يمكنه أن يتفوق على الأدب, إلا إذا استعان بالأدب نفسه .
إن قراءة رواية أو مسرحية… هو بمثابة أن نعيش ونشعر أحداثها وحياة شخصياتها, أما قراءة نقد أدبي متطور فهو بمثابة أن نعيش ونشعر ونعي وندرك حياة البشر والعلاقات في هذا الوجود.
إن الفن وكذلك الأدب ليس هدفه الأساسي المعرفة أوالإصلاح والإرشاد فهو يتجاهل الكثير من المعارف الأساسية في أحيان كثيرة, وذلك في سبيل عزف الأحاسيس والانفعالات المطلوبة لدى متلقيه.
إن الدين من أهدافه أيضاً عزف الأحاسيس الجميلة والسعيدة ولكن ليس هذا هدفه الأساسي فهدف الدين الأساسي هو الخير والمفيد للفرد وللمجتمع , وهذا يجعل الدين يتفوق على الأدب في إقبال الناس عليه وهذا ما نلاحظه بوضوح .
هناك فن بدأ يتشكل وينمو بسرعة إن هذا الفن سوف يمكننا مستقبلاً- وهذا ليس ببعيد- من تذوق وعي وأحاسيس تماثل ما نعيشه أثناء الأحلام ولكن في المجالات التي نريد ونرغب بها وبالخصائص والمقدار والشدة التي نريد , فالأحاسيس التي يتم تذوقها من قراءة أو سماع قصص ألف ليلة وليلة أو غيرها من القصص والملاحم والأساطير.. وكذلك ما يمكن تذوقه من أحاسيس ومشاعر وانفعالات من ممارسة كافة هذه الأنواع   بالإضافة إلى أحاسيس الأحلام كل هذا سوف يكون متاحاً مثله وأكثر بواسطة فن الواقع الافتراضي .
فهذا الفن سوف يمكننا من عزف الأحاسيس والمشاعر والانفعالات التي نريد لدى أي إنسان, فالجهاز العصبي للإنسان والقدرات الهائلة على الإحساس والوعي التي يملكها تمكننا من ذلك , إذا كنا نملك القدرات اللازمة للتحكم بالمداخل الحسية الذاهبة إلى دماغه.
إن الأحاسيس والانفعالات التي يتذوقها المتصوف أو المتعمق في الدين والإيمان ,أوالفيلسوف , أوالفنان , أوالعالم …., سوف لن تكون مستحيلة التناول في الواقع الافتراضي , صحيح أن الأدب والسينما استطاعا عزف كمية هائلة من أنواع الأحاسيس والانفعالات لدى المتلقين, ولكن الآتي أعظم بكثير . وبالإضافة إلى كل ذلك فسوف يتم توسيع و تنويع جديد لأحاسيسنا وانفعالاتنا التي نملكها الآن بواسطة التقدم الذي سوف يحصل في العلوم الفسيولوجية والتكنولوجية, فسوف يخفف الألم وتتم السيطرة عليه وتلغى أشكاله القوية, وسوف تصنع أو تشكل أحاسيس جديدة بواسطة التحكم الفسيولوجي والعصبي – في المستقبل – .
كما ذكرت أننا , الآن نتذوق الفنون من طبخ وحب وموسيقى وأدب وسينما….الخ بالإضافة إلى تذوقنا للعلاقات الاجتماعية من صداقة وتعاطف وانتماء وحب تملك وحب سيطرة…. و الكثير منا يحصر مجال تذوقه في وجبات معينة ويدمن عليها, فهناك من يجمع المال أو أي نوع من جمع الممتلكات ويتذوق لذة الجمع هذه وهو على الأغلب سوف يعاني ألم الخسارة التي لا بد من حصولها غالباً , وهناك من يسعى لتذوق أحاسيس السيطرة والتحكم والفوز بالصراعات والتنافسات فهو دوماً بين قطبي اللذة والألم الربح والخسارة وحياته الحسية مبنية على ذلك.
ولكن تذوق الأدب و الفنون يكون غالباً في مجال اللذة والسعادة بكميات غير محدودة ولا تقيدها آلية الشحن والتفريغ , كما في حالة إرواء الدوافع والغرائز الأساسية – مثل لذة الطعام المحدودة بالجوع والشبع-, و ليست خاضعة لضرورة الارتفاع المستمر في المستوى أو الشدة للاستمرار في الحصول على اللذة والسعادة , فالفنون بتنوعها وكثرة مجالاتها تسمح بتجاوز الإشباع والتحديد للأحاسيس .
 
 بالنسبة للفن , لقد نسيت أول الفنون وأهمها , وهي التي تتعلق بشكل الإنسان , كتزيين الوجه والجسم بطرق ومواد وأشياء متنوعة كثيرة , وكذلك التي تتعلق بوضع وشكل ملبسه ومسكنه . . . .
لقد كان أساس الفن لدى الإنسان ( وكذلك لدى الكثير من الكائنات الحية ) السعي للنظافة والترتيب والانسجام والتناسق ) في غالبية أمور حياتها , وبشكل خاص اهتمامه بشكله ومسكنه وطعامه , وبالأصوات والأشكال والألوان المتناسقة والمنسجمة مع بعضها , وبعلاقته مع الآخرين .
 

المصدر: موقع نبيل الحاجي

Source: Annajah.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *