المغربي أندريه الباز يحذرمن تأثير النزوات الخاصة على الفن المعاصر
[wpcc-script type=”043c6a92d71645b52b7bd8af-text/javascript”]

في مدينة ناربون، جنوب فرنسا، تم تنظيم «معرض استيعادي» من طرف مديرية الشؤون الثقافية، احتفاء بالفنان المغربي أندريه الباز، أحد رواد الفن التشكيلي المعاصر، وتكريما لمساره الإبداعي الذي لا يزال مستمرا منذ 65 سنة. «أعتبر نفسي فنانا لم يكتشف بعد، أنا أيضا أكتشف نفسي» هكذا حاول أندريه الباز، ابن مدينة الجديدة (1934)، أن يقدم مسار أثره الفني، حيث قام بتأثيث فضاء قاعة القناصلة، بأعمال فنية، يسافر من خلالها المشاهد عبر حقب زمنية، ليكتشف المسار الإبداعي الذي خاض غماره الفنان، بعيدا عن بلاده، متنقلا بين معارض كثيرة في الشرق والغرب.. ولأنه حلق بين مدارس شتى، فقد عكس المعرض تنوع أعماله، انطلاقا من لوحاته الأولى التي تميزت بأسلوب الكولاج، إلى غاية آخر أعماله التي تميزت بـ»المسرحة الفنية» لأسطورة أوديب، وما بينهما كانت منشأة «النجدة ليوناردو».
عند اقتحامه عالم الفن التشكيلي، ظلت رغبة ملحة تحث أندريه الباز، الذي حل في بداية ستينيات القرن الماضي في باريس، في أن يضيف شيئا للفن المعاصر، ويبرز صورة الفنان التشكيلي المغربي، المنحدر من بلد كان فيه الفن التشكيلي محصورا بين أقلية من المعمرين الفرنسيين.. ظن أندريه الباز، بعدما أبدع في «الكولاج» أنه مكتشف ذلك الأسلوب، لكنه سرعان ما سيعرف أنه كان منتشرا.. ورغم ذلك تميزت لوحاته وخلقت فارقا كبيرا، وكاد أن ينظم له أكبر معرض خاص، في أحد أهم دار للعرض في الولايات المتحدة الأمريكية، لو كان زارها سنة1964.
قام أندريه الباز، بعد استكمال تكوينه الأكاديمي في باريس، بخلق أساليب إبداعية جديدة ستجعله يتبوأ مكانة في عالم الفن المعاصر.. فقد عمل على إدخال مادة الألياف النباتية، لأول مرة في تاريخ الفن، كسند للوحاته بعد أن هيأها بيديه.. واستعملها أيضا ممزوجة، في انسجام تام، مع الورق الياباني الذي اكتشف سحره الفني مبكرا.

الكتاب/اللوحة
أبدع أندريه الباز أيضا، عندما جعل بعض لوحاته مشكّلة من كتب قام بتقطيع أوراقها بواسطة آلة تمزيق الورق، حيث وقع اختياره على كتابين شكّلا وعيه الثقافي «مدام بوفاري» للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير و»الدون كيشوت» للأديب الإسباني ميغيل دي ثيرفانتس. ويرى الفنان المغربي، أن أعماله الفنية تشكل كتبا، لذلك لم يفته التأكيد على أنه «في حالة إحراق المكتبات يمكن أن أعيد بناء دون كيشوت بواسطة أعمالي».
العلاج الفني
يعتبر أندريه الباز مؤسسا لنظرية «العلاج الفني» أو التداوي بالفن، التي لاقت نجاحا كبيرا في مجموعة من الجامعات الأوروبية. كما سبق له أن اشتغل لفترة معالجا فنيا عندما أخضع نفسه لاستراحة من أجل تقييم تجربته الفنية.
تغيير الشكل الفني للوحة
انتبهت، آن دي ستايل الناقدة الفنية، إلى أن الفنان المغربي كان أول من قام بتغيير الشكل الفني للوحة الفنية أثناء عرضها، بعد أن قام بتمزيق لوحاته وعرضها في قوارير زجاجية.. وأكدت الناقدة الفرنسية في تقديمها لعمله، الموسوم بـ»التدمير أو العمل»، قائلة إن «رسما مسطحا على الحائط هنا، يدور حول العالم، يصبه في أسطوانة، يمزقه بحيث لم يعد له شكله وألوانه».
التدمير الخلاق
على خلاف الفنان لوسيو فونتانا، الذي تبنى عملية البناء ثم التدمير، حيث كان ذلك إحدى العلامات الدالة على نهاية أفقه الفني بعد تألقه.. فقد كان الفنان المغربي أندريه الباز سباقا إلى اجتراح أسلوب خاص به، وهو ما يمكن تسميته بأسلوب «التدمير الخلاق»، أي تدمير العمل الإبداعي من أجل خلق منجز فني جديد مستقل بذاته، بعدما تخلص من آثار العنف الناتجة عن قيامه بتمزيق لوحاته، التي اختارها بدقة، ليعلن عن ولادتها مرة أخرى داخل قوارير زجاجية.. وحسب أن دي ستايل «أندريه الباز يمنح التركيبة إمكانية وجود آخر مستقل بذاته، عبر فعل التدمير. وهذا يربك، يقول بأن التدمير سوف يجعله يتكلم عن رسمه هنالك.. سوف يمنحه بعدا أكثر عمقا».
«النجدة ليوناردو»
في منشأته التي اختار لها «النجدة ليوناردو» صدم أندريه الباز جمهوره عندما عرض إطارا زجاجيا يضم هيكلا لمرحاض عصري وضعه، بعناية فائقة، فوق مجلد ضخم يحمل عنوان: ليوناردو دافينشي.. وهو ما استدعى عدة تفسيرات متباينة تهم مساءلة تاريخ الفن الحديث ومسار الإرث الفني، الذي تعاقبت عليه الأجيال، والذي عرف انعطافة كبرى بعد عمل المبولة لمارسيل دوشامب سنة 1917.
ويمكن اعتبار»النجدة ليوناردو» صرخة فنية يوجهها الفنان، نيابة عن باقي الفنانين، عن التهميش الذي لحق الفنانين من قبل المؤسسات الثقافية والفنية، التي من شأنها أن تدعم الفنانين عوض ترك الفنان يواجه مصيره لوحده، أمام أخطبوطات تفرض ذوقها، وتقوم بتشجيع ما يتوافق مع نزواتها الخاصة.
«أسطورة أوديب»
يعتبر عمل «أسطورة أوديب» آخر عمل فني أنجزه الفنان المغربي، الذي يهتم بالأسطورة الإغريقية بشكل عام، حيث يشتغل أيضا مع فرانسواز الباز، رفيقة دربه في الحياة والكتابة، على إصدار مؤلف عن تلك الأسطورة التي شكلت أحد اهتماماته الفنية.
قام أندريه الباز بـ»مسرحة فنية» لأسطورة أوديب بعد أن قدم شخوص الأسطورة، مجسمات وتماثيل صغيرة، في مشاهد متقابلة، وفي وضعيات مختلفة، توحي بحوارات بين شخوصها. ويمكن اعتبار الخلفية المسرحية عادت لتظهر من جديد.. فقد ابتدأ الفنان مشواره الفني كمسرحي عندما كان تلميذا، قبل أن يكتشفه بالصدفة مدير ثانويته، بعد تقديمه لملصقات فرقته المسرحية، قائلا «أنت فنان أندريه»، ومنذ ذلك التاريخ صمم على أن يبحر في عالم الفن. ولأن الأسطورة مليئة بالألم فإن الفنان عمل على وضع قوارير صغيرة كعقاقير ومسكنات للتخفيف من شدة الآلام التي عرفها التاريخ.
«فنان حرب»
اشتغل أندريه الباز على المشترك الإنساني، لذلك أخذت منه الحروب والصراعات التي استنزفت تاريخ البشرية، حيث أبدع لوحات فنية تبرز الأثر العنيف الذي عانى منه الفنان كثيرا، قبل أن يدخل المعترك كفنان حرب، فلوحات مثل «رواندا» و»محاكم التفتيش» جعلت الفنان يعيد طرح سؤال الحرب والدمار الإنساني الذي تخلفه وراءها..
لوحة «الجندي المجهول»
كما قام الفنان المغربي برد الاعتبار للجندي المجهول، محرر فرنسا من النازية، الذي يعتبره الباز جنديا مغربيا قبل أن يتم الاعتراف به من طرف فرنسا وحلفائها.
حدث السنة الفني
اعتبرت مديرية الشؤون الثقافية في مدينة نربون أن المعرض الاستيعادي، الذي نظمته احتفاء بأندريه الباز، أحد رواد الفن التشكيلي المعاصر، وتكريما لعطائه الفني ومساره الإبداعي، من أهم الأحداث الفنية التي عرفتها معارض فرنسا خلال هذه السنة، حيث وصل عدد زواره إلى 35 ألف زائر، ما شكل مصدرا مهما للسياحة الثقافية.
في مدينة نربون لا يزال الفنان المغربي أندريه الباز مستمرا في أحلامه بعد تركه للأثر، تماما كما يقول الشاعر الفرنسي رينيه شار «يجب على الفنان ترك الأثر فقط في طريقه. لا دلائل. وحده الأثر يجعلك تحلم».
