الأهواز-خاص احتفل أتباع الديانة المندائية في مدينة الأهواز جنوب غربي إيران، أول أمس الاثنين 18 يوليو/تموز 2022، بحلول عيد رأس السنة في التقويم الصابئي المندائي الذي يسمّى كذلك التقويم اليحياوي.
ويُعدّ “عيد الخليقة” أو “دهوا ربا” أول الأعياد وأكبرها ورأسَ السنة المندائية وفق التقويم اليحياوي، إلى جانب أعياد أخرى مثل “عيد الازدهار” المعروف بالعيد الصغير، و”عيد البنية” أو “دهوا البرونايا”، وأخيرا يوم التعميد الذهبي الذي يسمى “دهوا ديمانا”.
مراسم التعميد
يسبق العيد طقوس مراسم التعميد في مياه نهر كارون تمهيدا للاحتفال بالعيد، فتبدأ الطقوس صبيحة ميلاد النبي آدم وزوجته حواء (وفق معتقدهم)، فيقوم رجال الدين من الصابئة المندائيين “بالدعاء والابتهال إلى الحي الأزلي” قبل نصب راية “الدرابشة” أو علم الطائفة المندائية قرب مياه كارون، إيذانا ببدء مراسم التعميد وسط النهر الذي أضحت مياهه شحيحة جدا خلال السنوات الأخيرة.
بعدها يبدأ المندائيون الموزعون على عدد من المدن المشاطئة للأنهر في إيران مراسم الاعتكاف المعروفة بـ”الكرصة”، والتي تستمر 36 ساعة يقضونها في الدعاء وقراءة كتبهم الدينية و”عبادة الحي العظيم” داخل البيوت حصرا، وعدم مغادرتها مطلقا، وفق السيد ساهي، رجل الدين “الترميذا” (وهو لقب ديني مندائي).
ويوضح الترميذا ساهي، للجزيرة نت، أن فلسفة الاعتكاف لفترة 36 ساعة تعود إلى اعتقاد المندائية بأنه “بعد خلق آدم وحواء تم نفخ الروح في جسمهما بعد 36 ساعة، وذلك بواسطة الملك جبريل الرسول الذي أتى بها من عالم النور”.
وشدد الترميذا ساهي على أن الحكومة الإيرانية لم تمنع يوما الطقوس المندائية، مؤكدا أنهم يمارسون طقوسهم وتقاليدهم بحرية مطلقة داخل المنادي (معابد خاصة بالصابئة) وفي نهر كارون.
واستدرك بقوله إن الدستور الإيراني لا يعترف بالمندائية بذريعة عدم تطرق الفقه الشيعي إليها، رغم أن المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي قد سبق أن تحدث عن الديانة المندائية في كتابه “أجوبة الاستفتاءات” و”رسالة التقريب”، معربا عن أسفه لعدم اعتراف الدستور الإيراني بالديانة المندائية بعد إقرار المرشد الإيراني بأنها من الديانات السماوية.
هجرة المندائيين
وكشف الترميذا ساهي -للجزيرة نت- عن ارتفاع وتيرة هجرة المندائيين للخارج خلال العقدين الماضيين، عازيا السبب إلى شح المياه في الأنهار “والتهميش والبطالة وعدم التوظيف في الدوائر الحكومية والاضطهاد الاجتماعي”، على حد وصفه.
ويعتبر المندائيون التعميد ركيزة أساسية لديانتهم، حيث ينزل كل شخص منهم برفقة الشيخ (الترميذا) إلى المياه الجارية ليقرأ عليه آيات من كتابهم المقدس المعروف باسم “الكنزا ربا”، ويشترط أن يرتدي أبناء الصابئة في التعميد الملابس القطنية البيضاء الخاصة بالمراسم وتسمى “الرستة”.
وقال الترميذا ساهي، إن المندائيين دأبوا خلال السنوات الماضية على معالجة مشكلة شح المياه الجارية في الأنهار عبر إنشاء أحواض في المنادي ودور العبادة وجعلها جارية من خلال تزويدها بمياه الشبكة المنزلية.
وتابع أن شريحة من المجتمع الإيراني “لا تحترم المندائيين وتصفهم بأوصاف غير لائقة”، ما أدى إلى تسريع وتيرة الهجرة إلى الدول الأجنبية ومنها أستراليا، حيث تعيش جالية كبيرة من مندائيي الأهواز بمدينة سيدني في الوقت الراهن، مستدركا أن نظرة الشعب الأهوازي إلى المندائيين تغيرت كثيرا خلال السنوات الأخيرة وأن العلاقة بين المسلم والمندائي تحسنت كثيرا في الوقت الراهن.
وعقب إطلاق حملات تثقيفية وترويجية للتعريف بالديانة المندائية، حرص الأهوازيون خلال العقد الأخير على مشاركة الصابئة المندائيين احتفالاتهم والحضور في بيوتهم لتقديم التهاني بالمناسبات والأعياد.
نزيف متواصل
وأشار ساهي إلى هجرة أكثر من نصف المجتمع المندائي من الأهواز خلال الـ15 عاما الماضية، مؤكدا أن الإحصاءات المتوفرة لديه تشير إلى هجرة أكثر من 15 ألف مندائي من أصل 30 ألف نسمة کانوا موزعين على مدن محافظة خوزستان الواقعة جنوب غربي إيران.
واعتبر الشيخ ساهي بأن نزيف هجرة المندائيين من الأهواز متواصل، داعيا الجهات المعنية إلى تدارك الوضع والحيلولة دون إفراغ البلاد من هذه الديانة العريقة التي يعد أتباعها أول من استوطن في بلاد الرافدين والأهواز قبل نحو ألفي عام، مؤكدا أن معاملة المندائيين باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية سوف تقضي على وجودهم في المنطقة.
وجاء في دراسة للمؤرخ والباحث الإيراني بهادر قيم، تحت عنوان “الصابئة المندائیون فی التاریخ.. من فلسطین إلی إیران” نشرها في مجلة العلوم الإنسانية الدولية بجامعة “تربيت مدرس”، أن “التعسفات التي مارستها بعض الحكومات ومضايقات بعض البسطاء في حق هذه الطائفة الدينية تعد عاملا أساسيا لتنقل أتباعها داخل الإقليم وخارجه”.
ويتبع المندائيون تعاليم الكتاب المقدس “كنزا ربا” الذي يعني “الكنز الكبير” باللغة الآرامية، ويحتوي على ما يسمونه صحف النبي آدم، مشتملا على جزأين رئيسيين، الأول يتضمن سفر التكوين وتعاليم الحي الأزلي والصراع الدائر بين الخير والشر، في حين يتناول الجزء الثاني شؤون النفس بعد وفاتها ورحلتها من الجسد الفاني إلى عالم النور وما يلحقها من عقاب وثواب.
منطلق المندائية
من جانبه، اعتبر رئيس مجلس الصابئة المندائيين في الأهواز حبيب عابدي أن فلسطين ونهر الأردن كانتا المنطلق الرئيسي الأول للمندائية قبل ألفي عام، حيث بدأ أتباع الديانة بالهجرة جراء الصراع والأذى الذي لحق بهم من الأمم الأخرى هناك.
وأوضح عابدي للجزيرة نت، أن المندائية كانت قد نزحت من فلسطين باتجاه بلاد ما بين النهرين دجلة والفرات في العراق وسهل ميسان بالأهواز جنوب غربي إيران، إذ كانت هذه الأراضي تعرف بكثرة الأنهار فيها ووفرة المياه التي يعتبرها المندائيون أهم وسيلة للتعميد.
وأضاف عابدي، أن المندائية أو الصابئة ديانة موحدة، تتبع النبي يحيى وعددا من الأنبياء الآخرين، وهم آدم وشيث ونوح وسام، وأنه “قد جاء ذكر هذه الديانة في القرآن الكريم في الآية 62 من سورة البقرة (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، بالإضافة للآية 69 من سورة المائدة، والآية 17 من سورة الحج”.
المندائية بالأهواز
وتعد مدينة الأهواز، المركز المعنوي للمندائية في إيران حيث تحتضن أعلى معبد للطائفة (المندائية) على مستوى العالم، وكانت أيضا المقام المعنوي للمندائي الشيخ جبار طاووس الكحيلي الملقب بـ”كنزورا الكبير” الزعيم الروحي للصابئة المندائيين في العالم، فقد اختار المدينة للعيش فيها حتى وافته المنية عام 2015 ودفن فيها في تشييع شارك فيه المسلمون الأهوازيون إلى جانب المندائيين.
وكان الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، من أبرز الشخصيات الإيرانية التي بعثت برسائل تعزية بمناسبة رحيل الكنزورا الكبير الشيخ جبار طاووس الكحيلي.
ويتمتع مندائيو الأهواز بمجلس لحل الخلافات ومكتب للزواج بترخيص حكومي، ولديهم جمعية أخرى تدعى “جمعية الصابئة المندائيين” للإشراف على التعاليم الدينية لأبنائهم، وفق جريدة “بيت مندا” الناطقة باسم المندائية في الأهواز، والتي تُنشر بترخيص من وزارة الثقافة والإرشاد الإيرانية.