بالكوشوك والمشاعل والبناشر.. قصة قرية بيتا الفلسطينية في مقارعة الاحتلال والمستوطنين

منذ نهاية الثمانينيات وحتى الآن لم تتوقف قرية بيتا جنوب نابلس بالضفة الغربية، عن مقارعة الاحتلال ورفض الاستيطان على أرضها. حيث يروي أبناؤها المقاومون الجدد والقدامى قصصا من نضالهم المستمر.
أحد مقاومي بلدة بيتا يشارك في إضرام النار بالإطارات كي يتصاعد دخانها ويتجه صوب البؤرة الاستيطانية في جبل صبيح (الجزيرة)

بيتا (نابلس)- من بعيد، يرقب الرائي أعمدة دخان سوداء تتصاعد في السماء وتتجه مع الريح لتخيّم فوق البؤرة الاستيطانية الإسرائيلية المقامة أعلى جبل صبيح، وفي قاعدته تعج شوارع بلدة بيتا، قرب مدينة نابلس (شمال الضفة الغربية)، بحركة مركبات نشطة تُقل “شبابا ثائرين” كما يطلق عليهم، يعرف كلّ دوره.

هذه مشاهد يومية من حكاية سطَّرها “البيتاويون” في الدفاع عن أرضهم ورفضا للاستيطان عليها، حيث يتجنَّد الكل في خندقه منذ ما يزيد على 3 أشهر ولسان حالهم “لا صفو للعيش وجبل صبيح يحتله المستوطنون”.

“أبو أحمد” كما عرَّف نفسه للجزيرة نت، مقاوم يقارع كغيره جنود الاحتلال ومستوطنيه، ويعرف تضاريس الجبل أكثر من تفاصيل أخرى في بلدته وحتى منزله الذي لا يمكث فيه إلا ساعات قليلة.

كان علينا أن نوجز بالحديث معه فالوقت يضيق ورفاقه في “وحدة الكوشوك” (إطارات المركبات) يعدّون لاستقبال سيارة جديدة تقل كمًّا كبيرًا من الإطارات لإشعالها “وخنق” المستوطنين وإجبارهم على الرحيل.

أهالي بيتا نجحوا قبل عامين في منع اقامة بؤرة استيطانية بأراضيهم مثلما تصدوا عام 1988 لهجمات المستوطنين (الجزيرة نت)

تنوّع الأدوات

وتميزت بيتا في مقاومتها بتشكيلها وحدات مقاومة تفوقت بها على قرى فلسطينية أخرى تخوض المقاومة الشعبية منذ سنوات، كمجموعات “الكوشوك”، و”المشاعل”، و”البناشر” المتخصصة بإعطاب الآليات العسكرية الإسرائيلية، إضافة إلى “وحدة الأبواق والليزر والرصد والمراقبة”، وكلها تسعى إلى إرباك الاحتلال واستفزازه.

ولحساسية الوضع وخشية الاعتقال، طلب أبو أحمد عدم تصوير المقاومين الذين انهمكوا في التحضير لفعاليات المساء المعروفة بـ”الإرباك الليلي”، ويقول إن الكل يُسهم من مكانه وبطريقته في إزالة البؤرة الاستيطانية.

وبينما يواصل الشبان ورجال القرية انتفاضتهم في الجبل، تعمل النساء لإعداد وجبات الطعام لهم، وقد أطلقن ذلك بمبادرات شخصية من بعضهن حتى عمت الفكرة وتعددت أشكالها.

وفي القرية أيضا، تجنّد بعض الناشطين لتوثيق الأحداث وبثها وتفعيلها إعلاميا، وحشد الرأي العام الوطني لصالحها.

وفقدت بيتا 6 من أبنائها شهداء في المواجهات مع الاحتلال بمحيط جبل صبيح، وسابعهم من قرية يتما المجاور، وتحت الضغط أُجبر الاحتلال على إخلاء مجزوء ومؤقت أواخر يونيو/حزيران الماضي للمستوطنين الذين احتلوا قمة الجبل، مع الإبقاء على بيوتهم المتنقلة لخدمة جنود الاحتلال الذين حولوا البؤرة إلى نقطة عسكرية.

تيسير خريوش أحد مناضلي جبل العرمة أصيب في معركة بيتا مع المستوطنين عام 1988(الجزيرة نت)

التاريخ يتجدد

واستعادت بيتا بوحدتها ومقاومتها الحالية، ما عاشته عام 1988 حينما تصدت لقطعان المستوطنين في جبل العُرمة شرقا واستشهد 3 شبان وجُرح العشرات من أبنائها.

يذكر ابن القرية تيسير خريوش (أبو زيد) “معركة بيتا” آنذاك، والتي كان أحد المصابين فيها، ويقول إن الأحداث تتشابه لحد كبير و”هذا قدر بيتا على مر التاريخ”.

كان خريوش حاضرا في عزاء الشهيد شادي الشرفا، ابن القرية الذي قتله الاحتلال نهاية يوليو/تموز الماضي، واحتجز جثمانه لأسبوعين قبل أن يسلمه لعائلته.

واتخذ أبو زيد من أحد الجدران متكأً، فعكازه الحديدي لم يسعفه في الوقوف طويلا ومهمته باستقبال المعزين والقيام بواجبهم، لم تنته.

يسترجع شريط ذاكرته ويسرد أبو زيد للجزيرة نت حكاية السادس من أبريل/نيسان عام 1988 عندما هاجم مئات المستوطنين المنطقة الشرقية للقرية، فشرعت مآذن المساجد تدعو الأهالي للتصدي لهم وكان ممن لبوا النداء.

يذكر أبو زيد: “دارت معركة استمرت لـ4 ساعات بين مدنيين عُزل تسلَّحوا بالحجارة وبحقهم في أرضهم، وبين مستوطنين يحملون بنادق رشاشة تجهزوا للقتل”.

آنذاك استشهد الشابان موسى داود وحاتم خبيصة ثم تبعهم عصام داود، واشتدت المواجهات بين الأهالي والمستوطنين الذين تسلل أحدهم إلى نقطة عسكرية قريبة وطلب مساندة جنود الاحتلال الذين انقضوا بعدتهم وعتادهم على القرية خاصة بعد إصابة مستوطن بحجر ضربته به شقيقة أحد الشهداء الثلاثة وشلّت حركته، وبعد مقتل مستوطنة “برصاص مستوطن آخر”.

العقاب الجماعي

كان إسحاق رابين حينها رئيسا لحكومة الاحتلال، وقرر فرض حصار على القرية بأكثر من 40 آلية عسكرية ثقيلة ومئات الجنود، وشاركت 5 طائرات في مطاردة الشبان الفارين بالجبال.

في تلك المعركة، اعتقل الاحتلال 250 من أبناء بيتا، وأصدر بحق عددهم منهم قرارات إبعاد، بينما استخدم جنوده سياسة “تكسير العظام” عند اعتقال بعض الشبان، وهدموا 17 منزلا بالكامل، “وما تزال بيتا صامدة وتلفظ الاستيطان” كما قال أبو زيد.

ويذكر الرجل الستيني من تلك المعركة، إصابته برصاصة أطلقها مستوطن عليه من مسافة قريبة، وانفجرت شظايا في جسده، لتجبره أن يطوف البلدان العربية والأجنبية بحثا عن علاج ما يزال يتلقاه حتى الآن.

ورغم جرحه الذي لم يبرأ لـ3 عقود، يرفض أبو زيد النزول عن الجبل دون إزالة البؤرة الاستيطانية بالكامل، ويشحذ همم المقاومين ويحرضهم على الصمود حتى آخر رمق.

ويذكِّر بتاريخ “قلعة الثوار بيتا” كما تسمى في المنطقة، كواحدة من عدة قرى فلسطينية أرَّقت الاحتلال الإسرائيلي، “حتى تمنى رابين لو أنه استيقظ من نومه ولم يجدها”.

سائد الشرفا يحمل صورة شقيقه الشهيد شادي الذي قتله جنود الاحتلال قبل أكثر من شهر (الجزيرة)

استشهاد الساقي

وتسجّل بيتا مرور أكثر من 100 يوم على مقاومتها في جبل صبيح، قدمت فيها 6 شهداء قضوا على أرضها، وتحضر صورهم على جدران المنازل وفي نصب حجرية شُيدت تخليدا لذكراهم.

كان شادي الشرفا أو “ساقي بيتا” كما أطلق عليه رفاق المقاومة، أحد أولئك الشهداء الذي قتل في 27 يوليو/تموز الماضي بالرصاص الإسرائيلي، أثناء محاولته فتح أنابيب المياه التي أغلقها الاحتلال عن القرية عقابا.

ولم يفارق الدمع مقلتي شقيقه سائد الشرفا، وهو يقول للجزيرة نت: كان بإمكان جنود الاحتلال اعتقاله أو إصابته وليس “قتله بدم بارد”، خاصة أنه لم يكن بمنطقة محظورة عسكريا، “لكنهم اختاروا أن يُيتموا أطفاله الأربعة”.

شهداء سقطوا بالرصاص الإسرائيلي أثناء انتفاضة بيتا (الجزيرة نت)

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *