بطرس المعري في باريس: حكواتي التفاصيل الدمشقية

في قاعة عرض Galerie Claude Lemand العريقة، في العاصمة الفرنسية باريس، أقام الفنان التشكيلي بطرس المعري معرضه الأخير. وكعادته دائما يُغْرق زواره، ومشاهدي أعماله في أحلام، وسفر عبر الأفكار التي تحملها ريشته وألوانه. سفر ما بين الماضي، والحاضر، والواقع وعوالم الخيال، وقصص التراث الشعبي. والحلم بزمن غير بعيد، شكل عوالم طفولة كثيرين منا. ورؤية خاصة […]

بطرس المعري في باريس: حكواتي التفاصيل الدمشقية

[wpcc-script type=”d65e124fbdecd2615ae90ba5-text/javascript”]

في قاعة عرض Galerie Claude Lemand العريقة، في العاصمة الفرنسية باريس، أقام الفنان التشكيلي بطرس المعري معرضه الأخير. وكعادته دائما يُغْرق زواره، ومشاهدي أعماله في أحلام، وسفر عبر الأفكار التي تحملها ريشته وألوانه. سفر ما بين الماضي، والحاضر، والواقع وعوالم الخيال، وقصص التراث الشعبي. والحلم بزمن غير بعيد، شكل عوالم طفولة كثيرين منا. ورؤية خاصة لتفاصيل كثيرة، ذات بعد حميمي. في ريشة ذات حساسية فائقة، رسمت على صفحات الفكر، وقرعت أبواب القلب، مع كل لمسة وانحناءة تركتها على اللوحة.
قدّم المعري لزوار معرضه، عشر لوحات بمقاسات كبيرة، غطت جدران المعرض كوشم على جسد الوطن، وقلب المواطن المحب لوطنه، ومدنه، وتفاصيلها، بحلوها ومرها. فنثر الشخوص والمواضيع في لوحاته، كأم تخيط ثوب فرح لابنتها. فتغرس في أرجائه الورود والزهور بعناية. واضعة كل مشاعرها مع كل لمسة وقُطبة في القماش. رمزيات في كل حركة من حركات ريشته، وأبعاد يصعب أحيانا حصرها، ولكن العين لا تخطئها، فتسيل معها المشاعر كعروس تذوب بين يدي حبيبها. يترك المبدع بطرس المعري هذه المرة أشعار محمود درويش، ونزار قباني والماغوط، التي طالما زينت لوحاته، ليدخل من بوابة التراث الشعبي المحكي، مختارا منه فقرات، تضفي على رمزيات لوحاته أبعادا أخرى، وتحكي بالتوازي، ما لم تقله ريشته، فتؤدي رسالة مشفرة لمن يهمه الأمر، مرتبا شخوصه التي تخفي وراءها أسرارا وحكايات، كأحجار رقعة الشطرنج، لكل دور يلعبه، هجوما ودفاعا ومكانا في التكتيك، إنها لوحة بطرس المعري..


تجربة جديدة في سياق رحلته الفنية، إن كان من ناحية الألوان، حيث ابتعد على غير عادته عن ألوان الباستيل الهادئة، ومع ذلك بقيت لوحاته وألوانه مبعث فرح، لما تخفيه في طياتها من روح دمشقية مبتسمة، تقوم على الدعابة، واختلاق المواقف الضاحكة. كأنها في تحد للواقع المؤلم، وللمعاش اليومي المحزن. وتسير عكس التيار في زمن تلفنا فيه المآسي. ليأتي الضوء مؤكدا على حالة الفرح المعششة في اللوحات. جاعلا منه خلفية أساس للأعمال، ناثرا عليه نجومه، أي رسوماته، حتى غدا كل ما حوته لوحاته نابعا من الضوء. مرتبا المواضيع الصغيرة في اللوحة كباقة ورد مختلف ألوانها، تسر الناظرين، بل كأنه يعيد ترتيب الأحداث على طريقته الخاصة، واضعا إياها في إطارها الذي يراه.
«وا حبيبتي» ليس عنوانا لفيلم سينمائي، أو لرواية، بل هي تأوهات، وصرخات كل سوري، أدمت قلبه هذه الحرب الملعونة الفجة وأنهكته. ونداء لدمشق الحب، والياسمين، ولكل سوريا. بأسلوب يتماهى مع عبارات ذلك الدمشقي الخالد الذكر، الذي ما زال الصدى يردد كلماته وهمساته:
هنا قلبي.. هنا لغتي..
كيف أوضح هل في العشق إيضاح؟
وعندما تسأل المعري عن غوصه في التفاصيل الدمشقية، المغتسلة بالعروبة، التي تتكرر في كثير من رسوماته الحالية، والسابقة. يردد مبتسما: «سوسة!». فلا تملك إلا الابتسام معه، والإقرار بأنها فعلا سوسة الحب والعشق، التي ابتلي بها شرفاء الأوطان. فغدو كالأسماك. لا يرون لهم حياة بلا محيطات أزقتها، وحواريها، وشوارعها، وكل عوالمها. وحيثما ذهبوا حملوها معهم، مستريحة في دواخلهم.
يتحول بطرس المعري في معرضه هذا إلى حكواتي، يحكي للزائرين بريشته وألوانه، وتفاصيل خطوطه، حكايات لا تبدأ كالعادة بقوله: « يا سادة يا كرام…». وتنتهي بـ«سكت الراوي». لأن هذه اللوحات لا تعرف السكوت. كونها تحكي وتحكي، بدون توقف. ولا يمكن أن يَسْلم مشاهدها من حالة الغرق في النوستالجيا والماضي الجميل، بأبعاده المختلفة، فمن أبي زيد الهلالي، إلى عنترة بن شداد، إلى ظهور المسيح عليه السلام، وخروجه كما تقول الروايات من مئذنة المسجد الأموي… فيحبس المشاهد أنفاسه في لحظة أمامها مبهوتا، من عمق الرمز والتعبير. المسيح عليه السلام يحمل بين يديه طفلا شهيدا، وطنا مذبوحا! إنه قدر كثيرين هذه الأيام أن يحملوا أبناءهم، وأطفالهم الرضع، بشجاعة وشموخ، إلى مقابرهم. لتخرج من وسط اللوحة كلمة «وا حبيبتي…». أي دمشق بكل تكاوينها، وتوليفتها الإنسانية والبشرية، وفسيفساء تعددها، وتنوعها، وتاريخها المتداخل ببعضه كنسيج متشابك… ليحملنا في لوحة أخرى إلى أحد أحياء المحروسة دمشق وهو «باب توما»، أو باب الحب والأسرار كما يحلو له أن يسميه، فيكشف لنا كثيرا من الحكايا التي تستريح خلفه، ملخصا همسات تلك الديار وأهلها. كل لوحة في هذا المعرض تحكي كمًا من الحكايات، وتحوي كثيرا من الإشارات التي تناثرت حول المركز. وعندما يمعن المشاهد النظر في اللوحات التي أمامه، يلاحظ أن الفنان بطرس المعري لم يهمل أدق التفاصيل. إن كان في سرج الحصان، أو في وجه عنترة وشاربيه، أو في ثوب ابنة عمه عبلة إلخ، بالإضافة إلى الشخوص الكاريكاتيرية التي ازدانت بها اللوحات، والتقطتها عدسة عينيه من داخل المجتمع الدمشقي وعمقه، التي نمر عليها ولا نتنبه لها، ولكن عيني الفنان لا تخطئها، ولا تهملها. فتنقلها لنا، فتثير في الدواخل أشجانا، وتبعث في النظر ألفة، وتهب الروح فرحا.

٭ كاتب وباحث لبناني

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *