بواعث الإشراق وبنية التجريد في لوحات العراقي غالب المنصوري
[wpcc-script type=”176ef984d54b26f37555e58a-text/javascript”]

■ يعد التجريد قدرة اختلاف المنتج والمخلق في التصور والتبصر والرؤية للأشياء وكيفية تجسيدها ومقاربتها شكليا، ومن ثم كيفية تلقيها وتناغمها مع المديات الحسية والشعورية عند الآخر، فلا يمكننا الفصل بين فلسفة العمل وبنيته التجريد في أعمال غالب المنصوري.
توظيف سمات التعبير الصوفية بالفن التجريدي من إشارات ورموز ورقوش مختلفة، فمنها الشائع ومنها المبتكر تعطي للوحة فسيفساء لونية تعبيرية، عن ثيم روحية بقصدانية محضة، لأجل تثوير مكامن وبواطن الروح الجمالية وآلية الكشف عن المجهول اليقيني وفق خيال الفنان وفكره واللحظة الصوفية المتجلية في ذاته لتحقق الدهشة في الشكل التصويري المشكل بألوان متعددة وامتداداتها وامتزاجها واشتقاقاتها لتصبح مزيج من الصبغة والشكل ويصبح اللون هو الشكل والشكل لونا لتناغم بصر وفكر وروح المتلقي بفعالية سحرية فيقول الفنان غالب المنصوري، معبرا عن رؤيته بهذا المعنى: «التجريد هو التسطيح في أبسط شكل من أشكاله ويعني إلغاء المنظور أو العمق الفراغي وإلغاء فكرة التلاشي أو التدرج اللوني ليحل محلها التجاور اللوني والتكرار في الوحدات الزخرفية وإلغاء فكرة السيادة ليعبر عن فكرة السيادة لله الذي (ليس كمثله شيء) لذا فالتجريد يعني اللاأبدية واللانهاية أي – السرمدية – من خلال تقديم المنجزات الزخرفية التي تمثل الاتجاه الفكري العميق عند الإنسان الصوفي والعرفاني، وهو وفق هذه الرؤية يحمل رموزا كثيرة وهادفة، تمس صميم العقيدة في وعي الإنسان وليس القشور العابرة كما في الفنون التشخيصية الوثنية».
بنية التجريد في لوحات (غالب) قيم روحية وقيم فنية تتسق مع بواعث الإشراق في اللون والجسم والفكرة تتجلى قيمها الجمالية التعبيرية لتزين الذائقة وتبعث الفرح والأمل في روح المشاهد. ويؤكد الفنان الروسي كاندينسكي في هذا السياق وهو من مؤسسي مدرسة التجريد والمنظرين لها في كتابه «الروحانية في الفن» أو «حول ما هو روحي في الفن»: الذي يشبه الذكر في الإسلام وتكرار للفظ الجلالة، حيث أن الإيقاع الناشئ عن تكرار لفظة بعينها، عبر مسافات زمنية محددة، ليس مجرد تنظيم شكلي محض، بل يتفلت منه ما يمكن وصفه بالروحانية، إن كل ما يستطيعه الفنان ليس إيقاظ شيء في ذاكرة المتلقي، بل في خلق نظام إيقاعي وإيحائي يتجاوز به حدود المعنى المباشر، إلى منطقة يمكن أن نطلق عليها منطقة مخاطبة الأرواح .
مجاهدات ومكابدات التشكيلي غالب المنصوري الحرفية واللونية، الغرض منها تأسيس خطاب معرفي لغوي ولوني في آن، بناء على رؤيته واعتقاده، ونظرته لاعتقاداته وقناعاته ومتبنياته الروحية، بدءا من يقينية الفكرة، إلى انجذابه إلى المنتج الفني الإسلامي من رقوش وزخارف والخط العربي، والنقوش التي تعج بها المزارات الإسلامية والمساجد، بدءا من فناءاتها ومحرمها وإيواناتها حتى أضرحتها ومنابرها، وقببها وسطوحها وأقواسها وأهلتها، وطرزها المعماري فولّدت لديه هالة من الذوق والدراسة والكشف عن مضامين جماليات هذه الفنون فعمل على توظيفها في جل أعماله التشكيلية، فأبدع في التصوير اللوني والفكري والحسي.

يتخذ المنصوري من السكون، دلالة لملء فراغات السطح التصويري بحركة صوفية للحرف العربي، واللون الدال التعبيري بأسلوب تجريدي، فالسكون في لوحاته هو تعبير عن تأمل الأفكار في مخيلته التي تنم عن قلق ولااستقرار فتخلق بعدئذ طاقة ثورية عنيفة لديه بالتعبير اللوني والتكويني، والحروف تجدها محلقة محتدمة قلقة، وهي بمثابة عالمنا اليوم الذي يعيش الاغتراب والمجهول، ما يستدعي الحالة الصوفية للتحليق والرقص على أوجاع اللغة، ووهج اللون متيقنا من فلسفة (الحلاج) الصوفية، في مقاربة الحرف وهالته القدسية، كما يراها ورؤيته في عقيدته (الحلولية)، لا يخرج المنصوري عن مدرسة شاكر آل سعيد الصوفية، كما الآخرين، وهذا ما نلمسه في حوار أجراه الباحث شربل داغر عام 1989 مع الفنان شاكر حسن آل سعيد، وهو المنظّر لتوظيف الحرف في التشكيل «أعتقد أن هذه الفترة (من عام 1958 حتى عام 1966) كانت فترة انتقائية. يظهر الحرف مجرَّدًا مرة، وطبيعيًّا مرة أخرى، حتى ظهور «البيان التأملي» في عام 1966، حيث أصبحت للحرف هوية تجريدية بحتة في اللوحة. منذ هذا التاريخ بدأتُ بمعاملة الحرف كعنصر من عناصر وصفي الشهودي للعالم. حاولتُ أن أرسم وقتئذ العالم، لا كما أراه رؤيةً عينية وحسب، بل كما أحس به، وأنا في اتجاهي نحو المطلق. وكنت أيضًا وقتئذ قد أوغلت في دراساتي الصوفية… بدأتُ، بعد ذلك، أعامل الحرف كمجرد سمة لا شكلية، فتذوب هويته اللغوية في موقع الشهودي كمتأمل. ولم تكن قد ظهرتْ بعد أهمية الجدار في رسومي، فظل الحرف بعيدًا عن معناه حتى عام 1973».
مقامات الحروف توازي مقامات اللون التثويرية، فتجد في لوحته (مقامات حرف) وأعماله العديدة الأخرى تشكلات الحروف، وفي أولها حرف (الألف والجيم والعين والسين وغيرها) ومدلولاتها التشكيلية من جهة، ودلالاتها المعرفية الروحية من الجهة الأخرى
اللوحة لديه صاخبة باللون وزاخرة بالمعرفة، وتشي أن تكون منظومة لغوية ومنظومة وجودية، وتجربة شخصية يمتزج فيها الروحي والمعرفي الشخصي الكوني، وهو الفنان المتجلي بألوانه وأشكاله والمتخفي وراءها المتبني والمؤمن بالرؤية (الحلاجية) للحرف في بعديها الكوني والتصويري، على حد سواء، فيرى ماهر نعمان الناصري أثر التصوف على الفن «إن هناك علاقة بين التصوف والفن، أي بين التجربة الصوفية والتجربة الفنية، وهذا ما جعل الفنان من خلال اشتغالاته على السطح التصويري، أن يعمل على تحريف وتشويه أشكال العالم الخارجي، بعيدا عن التشبيه والتشخيص، والاتجاه نحو التجريد».
مقامات الحروف لدى غالب توازي مقامات اللون التثويرية، فتجد في لوحته (مقامات حرف) وأعماله العديدة الأخرى تشكلات الحروف، وفي أولها حرف (الألف والجيم والعين والسين وغيرها) ومدلولاتها التشكيلية من جهة، ودلالاتها المعرفية الروحية من الجهة الأخرى، كما يراها الفنان ويعتقد. ونضف إلى ذلك البسملة والصلاة وأسماء الله الحسنى، وأسماء النبي والأوصياء والأولياء، في كثير من لوحاته وتكاد تزخر بها، وكثيرا ما نجد بعض المقولات الصوفية فيها أيضا مثل، سر الأسرار، والشهود، وسور قرآنية وفق رؤية الشيخ بن العربي في كتابه الشهير (الفتوحات المكية) «إن الحروف أمة من الأمم، مخاطبون ومكلفون وفيهم رسلُ من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقتنا» للحروف ووفق رؤية الحسين بن منصور الحلاج، للحب والعشق للذات الإلهية، كما يقول في إحدى قصائده «إذا دهمَتـْك خيول البعـــاد ونادى الإياس بقطع الرجـا .. فخُذْ في شمالك ترس الخضوع .. وشـُدّ اليمين بسيف البكـا» وهذا ما ترجمه الفنان المنصوري في إحدى لوحاته.
المتأمل لوحات غالب المنصوري، يكتشف ثمة علاقات خفية تربط مجسمات السطح التصويري فيها، رغم تباعد الأشكال والعناصر الهندسية فيها والتي تشكلها كتل هندسية مختلفة، تبدأ من قاع اللوحة، وتنتهي في أعاليها وتشظياتها في كل جهات اللوحة، بفواصل ضوئية بيضاء، وهي تعبر عن هذا الزخم الروحي، الذي يكتنفه والثورة في أعماق وجدانه وإيمانه في إطلاقه لتعبر عن شخصية الفنان الفنية، والإنسانية، محاولة منه أن لا يفصل بين لحظة المشاهدة للمتلقي وروح العمل لتتسق الشخصيتان وتنصهرا معا، خاصة من خلال تسخير ألوانه السماوية ذات الأفق الرحب الواسع للدلالة على عظمة الخالق ورحمته وجلالته وهذا ما نلمسه في لوحاته (السرمدية وتمجيد الخالق وليس كمثله شيء) .
٭ كاتب من العراق
