بوضياف.. حكاية رئيس أحبه الشعب وقُتل غدرا

تقلد رئاسة الجزائر ستة أشهر فقط، وقد كانت فيما يبدو كافية لتحوِّل الرجل إلى رمز كبير يحنّ الناس إلى أيامه، ويشعرون بالحزن الشديد كلما جاءت ذكرى رحيله.

 

محمد علال

والدك لم يكن من رجال النظام الطاغي، هو رجل ثوري ونظيف، غير أن موافقته على تطبيق كل القرارات المتخذة قبل عودته هو السبب الذي دفعني للقيام بعملية اغتياله.. وقدّر الله وما شاء فعل”. بهذه الكلمات قرّر الملازم السابق في قوات التدخل السريع بالجيش الوطني الشعبي الجزائري مبارك بومعرافي مُخاطبة عائلة الرئيس الجزائري الراحل محمد بوضياف، وذلك بعد ارتكابه للجريمة يوم 29 يونيو/حزيران 2019 بمدينة عنابة شرقي الجزائر.

تعيش عائلة الرئيس الراحل ومنهم نجله الأكبر ناصر وبين يديه تفاصيل كاشفة لأكوام من الشهادات والأدلة المشوّهة، وذلك حول الدوافع الكامنة التي جعلت “بومعرافي” يتحول من ملازم مهمته حماية رئيس الدولة إلى قاتل يخطّ بيده هذه الرسالة التي نشرها ناصر على صفحته الخاصة على فيسبوك بتاريخ 9 يوليو/تموز 2018، وذلك ليشارك الشعب الجزائري جزءا من الوجع الذي لا يزال يعيشه.

رسالة غامضة كوقائع جريمتها

الرسالة التي كتبها “بومعرافي” لا يزال يشوبها العديد من الجوانب الغامضة تماما كوقائع الجريمة، إضافة إلى أسئلة كثيرة تدور حول ماهيتها، فهل هي تعزية واعتراف، أم محاولة للتعتيم على الدوافع الحقيقية التي جعلته يرتكب جريمة موثقة بالصوت والصورة؟

 

لقد جاءت الرسالة مبتورة من الأدلة والتفاصيل التي يبحث عنها الجميع، وقد حيّرت العدالة والتحقيقات التي تعثرت عند سؤال “ما الذي دفع بومعرافي لارتكاب الجريمة؟”.

حسب شهادة قاضي التحقيق الهادي لخضر في قضية الاغتيال فإن بومعرافي تحرك بدوافع شخصية، كما سبق وأن كرر ذلك في عدة تصريحات صحفية، منها حوار للقاضي نشر بتاريخ 20 أكتوبر/تشرين الأول 2014 في صحيفة “الخبر” الجزائرية، والذي كشف فيه عن بعض كواليس المحاكمة التي لم تصل حتى الساعة إلى نتائج نهائية، ويتذكر قاضي التحقيق تفاصيل الجلسات الأولى وكيف رد بومعرافي على أسئلته قائلا “قتلت الرئيس حتى لا يلطخوه”.

هل يمكن أن تكون تلك الرسالة عنوانا للندم ضمن عشرات الرسائل التي كتبها بومعرافي إلى محاميه الأستاذ بشير مشري؟ هذا الأخير وصف أطوار محاكمة الجاني بالمسرحية السخيفة والمملة، وهو ما دفعه وغيره من محامي الجزائر للانسحاب من القضية، بينما يرى الحقوقي بوجمعة غشير أن اعتبار قتل بوضياف مجرد “فعل إجرامي معزول ارتكبه شخص بدوافع ذاتية يستحق عقوبة الإعدام”؛ هو أمر غير منطقي.

الحراك الشعبي.. بوضياف على الأكتاف

لقد مضى زمن طويل على الحادثة، ولا تزال القضية كأنها لغز كبير في تاريخ الجزائر، ويتذكر الشعب الجزائري الرئيس المغدور في كل مناسبة أو محطة هامة، فحتى الحراك الشعبي الذي تعيشه الجزائر منذ 22 فبراير/شباط لم ينسه، وقد جاءت صورته محمولة على الأكتاف ضمن عشرات اللافتات في الميادين والساحات والشوارع التي خرج إليها الناس للمطالبة بتحقيق الديمقراطية والعدالة ورفض “العهدة الخامسة” لعبد العزيز بوتفليقة.

شاب يحمل صورة بوضياف في الحراك الشعبي بالجزائر العاصمة

 

شباب لم يتجاوز سن الخامسة والعشرين لم يعرفوا في حياتهم حاكما آخر غير بوتفليقة، ولم يشاهدوا في حياتهم صورة لرئيس غيره معلقة في المكاتب الرسمية والساحات العمومية، وتتصدر أخباره نشرات التلفزيون الرسمي طيلة الأعوام العشرين الماضية.

عدد كبير من الشباب الذين شاركوا في الحراك حاملين صورة بوضياف لم يعيشوا يوما واحدا تحت حكمه، والذي يُعتبر الحكم الأقصر بين كل رؤساء الجزائر، فلم يعرفه الشعب رئيسا إلا لمدة ستة أشهر (من 16 يناير/كانون الثاني إلى 29 يونيو/حزيران 1992) بصفته رابع رئيس للجمهورية الجزائرية، وقد كانت فيما يبدو كافية لتحوِّل الرجل إلى رمز كبير يحنّ الناس إلى أيامه، ويشعرون بالحزن الشديد كلما جاءت ذكرى رحيله.

بين حكاية بوتفليقة رئيسا حَكَمَ الجزائر 20 عاما، وبين حكاية محمد بوضياف الذي لم يجلس على كرسي قصر المرادية إلا أشهرا قليلة؛ يمكننا أن نقرأ أيضا معاني أخرى في علاقة الحاكم بالمحكوم، وذلك عندما نفتح كتاب الحكام ونجدهم في صفين متوازيين لا يلتقيان أبدا، نصادف أسماء زعماء خرجوا من الباب الضيق بعد عقود من الحكم، بينما يدخل البعض الآخر التاريخ من بابه الواسع كما هو حال بوضياف.

الإسلام.. آخر كلمة على لسان المغدور

29 يونيو/حزيران 1992 هو تاريخ لا يُمكن أن ينساه أيّ جزائري بسهولة، خاصة سكان مدينة عنابة (شرقي الجزائر)، وتحديدا الذين كانوا بين الحضور داخل قاعة قصر الثقافة، حيث ألقى بوضياف خطابه الأخير وكانت كلماته عن “الإسلام”.

لقد جاء صوت الرصاص ليقلب الموازين، فتعكرّت الأجواء وتغيرت ملامح الناس والابتسامات التي كان قد رسمها بوضياف على مُحيّا الحاضرين في القاعة، ولم يبق في المدينة إلا صوت التلفزيون الجزائري يتلو آيات بينات من القرآن الكريم، وتحولت الزغايد إلى بكاء، وصوت البارود إلى صفارات إنذار تعمّ المكان، لقد تم تأجيل الفرحة إلى أجل غير مسمى، وتوقف نبض الحياة في المدينة الصاخبة ليفسح المجال لروح الرئيس المغدور به كي تصعد إلى بارئها.

الرئيس بوضياف جاء إلى الحكم بعد “وعكة” مرّت بها الجزائر تحولت إلى مرض استمر عشر سنوات

 

لقد جاء الرئيس بوضياف إلى الحكم بعد “وعكة” مرّت بها الجزائر تحولت إلى مرض استمر عشر سنوات، فقد تم إلغاء المسار الانتخابي الذي فازت فيه “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” عام 1991، واستقال رئيس الدولة الراحل الشاذلي بن جديد . كل تلك الأمور شكلت معادلة سياسية صعبة جدا رافقت وصول بوضياف إلى الجزائر بتاريخ 16 يناير/كانون الثاني 1992 ليترأس المجلس الأعلى للدولة بصلاحيات رئيس الجمهورية.

تسارعت الأحداث في الجزائر، وطفت على السطح بوادر أزمة سياسية وأمنية حادة، وقد اختارت الجزائر فيما يبدو طواعية أن تدخل في نفق مظلم ساده مناخ عدم الثقة والشك، وعاد بوضياف إلى الوطن بعد 27 عاما من الغياب. هكذا نقلت شاشة التلفزيون يوم 16 يناير/كانون الثاني صور استقباله بالتمر والحليب من طرف رموز النظام، وذلك في محاولة لتقديم طاقة من الأمل للشعب الجزائري.

في الأثناء أطلّ شبح العشرية السوداء، وتشكلت تدريجيا سحابات وأعاصير سياسية أخرى، وقد كانت أولى القرارات التي وقعها بوضياف هي مرسوم حالة الطوارئ، بينما شنت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات واسعة شملت توقيف حوالي 20 ألف شخص (معظمهم ينتمون إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ)، لتخرج مسيرات الجبهة رافعة شعار “لا إله إلا الله محمد رسول الله عليها نحيا وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقى الله”؛ التي هزت كل المدن الجزائرية، وتحولت الصورة إلى معارك محتدمة وساخنة وغضب شديد بين النظام والجبهة.

لقد كان بوضياف واضحا جدا في كلامه وخطاباته، فكان يشير في كل مرة إلى أن مشكلة الشعب تكمن أساسا في محاولات البعض التشويش على سماحة الإسلام، وفي كلمته الأخيرة قال “ما الذي يحقق للدول تقدمها؟ إنه العلم”، قبل أن يضيف “.. والدين الإسلامي”، لتسود بعدها حالة من الصمت المريب، وتسقط الكاميرا على الأرض لتنقل واحدة من أبشع الصور في تاريخها.

قاتل معروف ولغز لم يُحلّ

لم يحسب القادم من بعيد عواقب جرأته في وقت حساس جدا ومرعب، لقد كان قبوله لمنصب الرئاسة خطوة نحو الانتحار طواعية، ولم يستطع أحد إقناع بوضياف بقبول العرض إلا صديقه المناضل علي هارون، ليقرر بوضياف العودة إلى الجزائر بعد 27 عاما اختار فيها العزلة والمنفى.

تميز بوضياف بفصاحة اللسان، وقد كان متحدثا جيدا باللهجة الجزائرية، وعندما وصل إلى البلاد أشار إلى أنه جاء من أجل إنقاذ الجزائر والقضاء على الفساد ومحاربة الرشوة والمحسوبية، وقال “سرّ وجودي بينكم اليوم وغايتي التي تمنيتها دائما هو أن أحقق العدالة”.

ناصر بوضياف نجل الرئيس الجزائري الراحل محمد بوضياف (أصوات المغرب)

 

لقد حلم بوضياف بأن يبني دولة جزائرية ديمقراطية تكون فيها الفرصة للجميع بعيدا عن الأفكار المتعصبة والإقصاء حتى لمن كان النظام يعتبرهم أشد أعداءه؛ “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”، وهو ما نلمسه في حوار أجراه معه الإعلامي عرفان نظام الدين عام 1992 لصالح قناة “أم بي سي” قال فيه “لن أقوم بـحلّ الجبهة، بشرط أن تقبل اللعبة الديمقراطية”.

اليوم يعرف الجميع اسم قاتل بوضياف، بينما طوت المحاكم أوراق القضية في وقت مبكر جدا، ليبقى السؤال اللغز “من دفع بومعرافي لارتكاب الجريمة”؛ غصّة في حلق كل من أحب بوضياف، منهم نجله الأكبر ناصر بوضياف الذي عاد هذه السنة لمطالبة الدولة بإعادة فتح التحقيق، موجها رسالة إلى وزير العدل بالجزائر قال فيها إنه يملك معلومات جديدة تورط الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران في الجريمة.

سجن ومنفى ثم اغتيال

نشأ الراحل في عائلة صغيرة، واشتغل في بداية حياته بمصالح تحصيل الضرائب بمدينة جيجل، وتُعتبر التفاصيل الأخيرة في حياة ابن مدينة المسيلة (من مواليد 23 يونيو/حزيران 1919) جزءا بسيطا من محطات شاقة وطويلة توقف عندها الرجل في حب الجزائر، وقد أفنى عمره في خدمة البلاد منذ أن انضم إلى صفوف حزب الشعب الجزائري بزعامة مصالي الحاج، وقام بتأسيس “المنظمة الخاصة” عام 1947، والتي تُعتبر الجناح العسكري لمنظمة “من أجل انتصار الحريات الديمقراطي”، وقد أصدرت سلطات المستعمر الفرنسي على إثر ذلك ضده مرتين حكما غيابيا بالسجن لمدة ثماني سنوات.

الرئيس الراحل محمد بوضياف بعد عودته للجزائر في 16 يناير/كانون الثاني 1992

 

في مارس/آذار عام 1954 عاد بوضياف إلى الجزائر لوضع الرتوش الأخيرة لاندلاع ثورة أول نوفمبر/تشرين الثاني رفقة مجموعة الـ22 التاريخية الذين اقتنعوا في الأخير بأنه “لا حلّ للقضية الجزائرية غير الكفاح المسلح”، وفي عام 1956 خلال أشغال مؤتمر الصومال الشهير  تم انتخاب بوضياف عضوا في المجلس الثوري للثورة الجزائرية ليواصل النضال، إلى أن وقع في قبضة قوات المستعمر الفرنسي في 22 أكتوبر/تشرين الأول 1956، عندما قامت أجهزة المخابرات الفرنسية باعتراض طائرة كان على متنها بوضياف رفقة كل من أحمد بن بلة ومحمد خيضر وحسين آيت أحمد ومصطفى الأشرف.

بعد الاستقلال أسس بوضياف حزب “الثورة الاشتراكية”، وعاش مُتنقلا بين المغرب وفرنسا، وفي إطار نشاطه السياسي وبعد وفاة الرئيس السابق هواري بومدين عام 1979؛ قرر حلّ الحزب والتفرغ للحياة المدنية، وعمل في المنفى على تطوير مصنع صغير بمدينة القنيطرة بالمغرب، وأصدر كتابا بعنوان “إلى أين تمضي الجزائر؟”، والذي تضمن العديد من المقترحات، إضافة إلى قراءة سياسية واقتصادية لواقع البلاد بعد الاستقلال.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *