
إن تاريخ الجراحة العصبية، مزدحم بأسماء جراحين عظام، حملوا على عاتقهم، مشاعل التنوير، وتحديات كبيرة اجتازوها، وصولاً لما حُقق من انجازات كبيرة اليوم.
على مر العصور، ومع اختلاف الحضارات، تطورت الجراحة العصبية، بدأت مثل كرة ثلج صغيرة، ومع اندفاعها ومرور الزمن وصلت لحجمها العملاق الذي نراه، ولا يعلم أحد هل ومتى تستقر.
ظلت الجراحة العصبية عدة قرون، طريقاً وعراً تحيط به المخاطر، إذ كانت نتائجه أسوأ من عواقب ترك المريض بلا تدخل جراحي. واقتصرت في البداية على عمليات، ثقب الجمجمة، والتي دارت حولها التفسيرات والنظريات كثيراً، ما بين تأويلها على أنها كانت طقساً من طقوس دينية وقبلية كثيرة، وبين كونها طريقة علاجية من الطرق الموروثة. كانت هذه الثقوب تُستخدم منذ العصور الحجرية، وحتى في نهاية القرن التاسع عشر، استطاع الأنثروبولوجيون، أن يتأكدوا من وجود مثل هذه الجماجم، بقارات مختلفة، وأنها ثقافة انتشرت وعبرت الحدود.
ويميل الكثير من المفسرين حالياً، إلى التفسير الطبي لتلك الثقوب، وهو أنها كانت بغرض تخفيف الضغط الواقع على الرأس، واليوم في هذا العالم المتسابق في التقنيات والعلم، هناك من يمارسون على خطى الأجداد، ثقب الجمجمة، في العديد من القبائل الأفريقية، وكذلك أمريكا الجنوبية، كما في بيرو على سبيل المثال، جماعة الإنكا، في هذا المقال، سنتجول عبر التاريخ، ونرى في كل حضارة وحقبة من الزمن، ما وصلت إليه الجراحة العصبية.
المصريون القدماء والجراحة العصبية
دوّن الفراعنة كل شيء على جدران معابدهم، وفي أوراق البردي. في عام 1862 وجد شخص يدعى (مصطفى اغا) أوراق بردي، اشتراه منه أحد علماء الآثار الأمريكان، وبعد وفاة دكتور إدوين سميث، تبرعت عائلته بالمخطوطة إلى جمعية نيويورك التاريخية.
الاعتقاد السائد حول هذه المخطوطة، أن من كتبها امنحوتب أحد أعظم الأطباء القدماء، والأكثر شهرة في التاريخ.
المثير في هذه المخطوطة، أن ما دُوّن فيها من حالات مرضية، يعطي تشخيصها في تلك الفترة دلالة على تقدم المصريين في الجراحة العصبية، يوجد بالمخطوطة، ثلاثة وثلاثين حالة مثل:
- جروح في أنسجة الفروة واختراق للجمجمة.
- تكسير في الفقرات العنقية وإصابة الحبل الشوكي.
- إصابة في الفص الصدغي من المخ.
الحالة الثالثة، لا يُمكن تشخيصها، إلا إذا كانوا، قد وصلوا لمرتبة عالية من التشريح والجراحة العصبية، كذلك فإن ما تحمله مخطوطة إيدوين سميث، من تعليمات وطرق علاج، واستخدام الأدوات الجراحية، لا يدع مجالاً للشك في أن الفراعنة سبقوا العالم في الجراحة العصبية.
اليونان والجراحة العصبية
إن أطباء العالم، يقسمون قسمهم حتى اليوم، باسم ذلك العظيم، (أبوقراط)، والذي كان فذاً للدرجة التي مكنتّه من تطوير الجراحة العصبية. حتى أن البعض يؤمنون أن أبوقراط انحدر أساساً من اسكلابيوس، إله الطب عند اليونانيين. ترك أبوقراط إرثاً كبيراً، من الكتابات الطبية، من بين هذه الجواهر، كتابه “إصابات الرأس”، والذي يقدم فيه، حلولاً عملية لمعظم الإصابات التي تلحق بالرأس.
قدم في كتاباته، وصفاً دقيقاً لحالات الشلل، واتصال العمود الفقري بباقي الجسم، أي أنه تعرّف على الأعصاب وأماكن اتصالها.
الرومان والجراحة العصبية
فارس من فرسان هذا العصر، هو الطبيب (جالينوس)، والذي ولد في روما، وعاش فترة طويلة في الإسكندرية، يشهد سجل عمله بمعرفته بوظائف الأعصاب، وأنه أول من أوجد علاقة بين الدماغ والمشاعر والأحاسيس، وأن الجهاز العصبي يتحكم في كل شيء، أول من كتب عن الالتهابات السحائية، واستطاع أن يجري جراحة في الحبل الشوكي، وعلى أثرها ربط علاقة الحبل الشوكي بالحركة.
للمزيد: ما يجب أن تعرفه عن الالتهاب السحائي
ترك جالينوس وصفاً أدق مما تركه أسلافه، ومنهم أبوقراط، وعُرف عنه مهارته في الجراحة، واستخدام خيوط جراحية متعددة إن الدوائر الطبية، تضع جالينوس ضمن أعظم من أسسوا تاريخاً للطب عامة، والجراحة العصبية على الأخص.
عصر النهضة والجراحة العصبية
كان من الأسباب التي أُطلق فيها على هذه الفترة اسم النهضة، هو التقدم الملحوظ في كل نواحي الحياة. الطب والجراحة من ضمن هذه النهضة بلا شك. وبزغ اسم من الأسماء التي لا يمكن نسيانها وهو (إمبراوز باري). استطاع باري إجراء العديد من الجراحات الصعبة في المخ والحبل الشوكي، كذلك كان من أسباب اعتبار باري طبيب استثنائي أنه كان دائماً يبتكر أدوات مساعدة، دوّن العديد منها في كتاباته التي تركها.
على الرغم من بداية باري الفقيرة، وعدم شهرته، إلا أنه أصبح الجراح الخاص لأربعة من ملوك فرنسا لاحقاً، ومن عباراته الشهيرة، “أنا أتعامل مع المرضى، ولكن الشفاء من الله”. باري بكل ما ابتكره في جراحات الأعصاب حفر لنفسه اسماً كأحد الذين طوروا الجراحة العصبية في التاريخ.
القرن الثامن عشر والجراحة العصبية
في هذا القرن والذي يسبقه حدث تطور كبير في الجراحة العصبية، ولأول مرة رُبط بين علاقة جراحة المخ والأعصاب وأمراض أخرى في الجسم.
ظهر جراح آخر وهو (برسيفال بوت)، وهو يشبه لحد كبير الجراح باري، في المستوى التعليمي المتواضع نسبياً، إذ كانت بدايته ولفترة طويلة جراحاً مساعداً، وأطلق على بوت فيما بعد، جراح الأعصاب السابق عصره، لما ساهم فيه من تطوير جراحة المخ والأعصاب، له مجلد ويعتبر مرجعاً كبيراً في الأمراض التي تلحق بالعمود الفقري والأعصاب المرتبطة به، وما ينتج عن ذلك من شلل للأطراف. كذلك وصف مرض السل وعلاقته بحدوث ضغط على الحبل الشوكي، وسمي هذا الوصف باسمه، مرض بوت.
القرن التاسع عشر والجراحة العصبية
مع التطور الكبير في استخدام الكلوروفورم، حدثت نقلة نوعية في جراحة الأعصاب، حيث أنه صار من الممكن أن يخضع المريض لعدد ساعات أطول في إجراء جراحي دون قلق، قام كذلك أحد الجراحين الإنجليز، (جوزيف ليستر) باستخدام حمض الكربوليك للتطهير، وقلل نسب التلوث والعدوى التي كانت تطارد العمليات الجراحية.
على الرغم من تطور الأدوات التي ساعدت الجراحة العامة، ظلت الجراحة العصبية في بدايات القرن التاسع عشر بطيئة، لكن التاريخ كان على موعد لجراح اسكتلندي، يطلق عليه حالياً، أبو الجراحة العصبية، وهو (وليلم ماكيوين). كان ماكيوين أول من طور تشخيص وعلاج أورام المخ، وأزال لأول مرة ورماً في الدماغ لفتاة كانت في الرابعة عشر من عمرها.
اقرأ أيضاً: علامات خطيرة قد يكون سببها ورم دماغي- ورم الرأس
ومن الذين شاركوا في هذا العصر، الطبيب الإنجليزي (فيكتور هورسلي) والذي أدخل فكرة وضع الشمع على حافة العظم، لمنع حدوث نزيف، وهي التقنية التي تُستخدم حتى الآن. كذلك أزال ورماً في الحبل الشوكي في عملية ناجحة ورائدة في عام 1888.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، كان الجراح (ويليامز كين) يقفز قفزات كبيرة في الجراحة العصبية، وكان من إنجازاته العلمية الكتاب الشهير في الجراحة، “كتاب الجراحة الأمريكي”.
القرن العشرين والجراحة العصبية
رائد هذا القرن، الجراح الكبير(هارفي كوشينج)، استطاع أن يُجري جراحات في المخ والأعصاب، تُجرى حتى اليوم. ابتكر طريقة تعتمد على ضغط الهواء، لحل مشكلة النزيف في المخ أثناء الجراحة، وعمل على الغدة النخامية، وتعديل بعض التشوهات التي تلحق بها. الكثير من الإنجازات والنجاحات التي قام بها هارفي، جعلته في الصفوف الأولى مع الجراحين العظام تاريخياً، كما أن هناك منظمة لجراحة الأعصاب في الولايات المتحدة الأمريكية تسمى، جمعية هارفي كوشينج.
{article}
أدوات أثرت على تاريخ الجراحة العصبية
حدث تطور كبير، وانتقال من حقبة إلى أخرى، ومن نجاح إلى نجاح، ولكن كان العامل الرئيسي في كل هذا هو التطور الكبير في مجالات مساعدة في الجراحة العصبية. التطور في التخدير، والتعقيم، كان له الأثر الأكبر على نجاح وتطور الجراحة العصبية.
الجراح باري على سبيل المثال، استبدل الطريقة التقليدية للتعقيم، وهي وضع الزيت المغلي، بمواد أخرى، كان كذلك لاكتشاف فصائل الدم، عن طريق (كارل لاندشتاينر) المساهمة الفعالة في منع حدوث التجلط عند انتقال الدم في الجراحات العصبية.
يعد تطور طرق التخدير، من الطفرات في هذا المجال، وبدلاً من استخدام المواد المخدرة مثل الأفيون، استخدم عدد من المخدرات الأفضل مثل أكسيد النيتروز، والإيثرات، وصولاً إلى الكلوروفورم.