لندن – واشنطن: كانت القاعدة الجوية البريطانية “فيرفورد” على موعد مع وصول ضيف من نوع خاص، ويتعلق الأمر بقاذفات أميركية إستراتيجية من طراز “بي 52” وهي طائرات قادرة على إطلاق صواريخ نووية.
وصول هذه الطائرة الخاصة جاء في سياق التوتر بين الغرب وموسكو، ويسلط الضوء على حجم التنسيق العسكري بين لندن وواشنطن اللتين يظهر أنهما تتحملان العبء الأكبر في مواجهة روسيا، أمام جنوح فرنسي وألماني للتهدئة.
وتعتبر بريطانيا ثاني دولة بعد الولايات المتحدة، من حيث تحريك الجنود في دول أوروبا الشرقية، وتزويد الجيش الأوكراني بالسلاح، كما أنها تتطابق مع خطاب واشنطن في تحذير موسكو من عواقب وخيمة في حال الغزو.
وتظهر الأزمة الأوكرانية من جديد حجم التعاون العسكري البريطاني الأميركي، الذي ظهر في أكثر من مناسبة لعل أشهرها في العقود الماضية: غزو أفغانستان والعراق. ومنذ ترك لندن للاتحاد الأوروبي في 31 يناير/كانون الثاني 2020، تضاعفت أهمية واشنطن بالنسبة للمملكة المتحدة، وتتطلع الأخيرة للتوصل لاتفاق تجارة حرة طموح بين البلدين، لتدعيم الجانب التجاري من هذه العلاقات.
ما خصوصية العلاقات البريطانية الأميركية؟
يذكر موقع الخارجية الأميركية أنه لا يوجد “شريك أوثق” من المملكة المتحدة. وظهر مصطلح “العلاقة الخاصة” التي تجمع البلدين علنا وللمرة الأولى بخطاب ألقاه رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل عام 1946.
واستخدم هذا المصطلح بعد ذلك لوصف التحالف الفريد المفترض بين واشنطن ولندن. وخلال العقود السبعة التالية، صمدت هذه العلاقة التي يدعمها اللغة والتاريخ والقيم المشتركة، لتصبح علاقة خاصة فريدة لا تتأثر بحزب أو أيديولوجية ساكني البيت الأبيض أو “10 داوننغ ستريت”.
وتهيمن العلاقات الدفاعية والاستخباراتية على جوهر الشراكة الثنائية البريطانية الأميركية، وتبرز أهميتها خلال أي أزمة تتعلق بالأمن الأوروبي، كما هو الحال في أزمة أوكرانيا الحالية. وتنشط الدولتان فيما يطلق عليه “العيون الخمس” وهو تحالف من 5 بلدان ناطقة باللغة الإنجليزية: أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، بدأ عام 1943 لغرض وحيد هو تبادل المعلومات الاستخباراتية.
وكانت علاقة لندن الخاصة مع واشنطن حجر الزاوية في السياسة الخارجية لبريطانيا. وساعد وضع الأخيرة كحليف وثيق للولايات المتحدة على تعزيز نفوذها العالمي. وفي المقابل، ساعد الدعم البريطاني في كثير من الأحيان على إضافة المصداقية والوزن الدوليين إلى السياسات والمبادرات الأميركية، وقد خدمت الشراكة الوثيقة بين البلدين المصالح المشتركة بينهما في هيئات مثل الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) والمؤسسات المتعددة الأطراف الأخرى.
وفي أول زيارة لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى البيت الأبيض للقاء الرئيس جو بايدن، صرح للصحفيين بأن “مهمة أي رئيس وزراء بريطاني أن يحافظ على علاقات استثنائية مع الولايات المتحدة” وهي عبارة يمكن وصفها بالعقيدة التي تحرك السلوك السياسي والعسكري البريطاني نحو الولايات المتحدة.
ويمكن فهم هذه العقيدة بالعودة لتقرير للجنة الدفاع في برلمان بريطانيا صدر سنة 2018 حول العلاقات العسكرية، والذي يظهر حجم استفادة جيشها من موقع مميز في علاقته مع نظيره الأميركي، حيث توفر عليه هذه العلاقة ما مجموعه 38 مليار دولار سنويا.
ذلك أن بريطانيا يكون لها السبق في الكثير من المشاريع العسكرية والآليات المتطورة، والمشاركة في أحدث البرامج العسكرية. ويتحدث التقرير البرلماني البريطاني عن ضرورة رفع النفقات العسكرية حتى تستجيب للمطالب الأميركية، بضرورة تطوير الجيش ومعداته.
لماذا تريد أميركا زيادة الإنفاق العسكري البريطاني؟
كثيرا ما اعتبر مخططو الدفاع الأميركيون المملكةَ المتحدة واحدة من أكثر الحلفاء الأوروبيين قوة، إن لم تكن أكثرهم، من الناحية العسكرية والقدرة على نشر قوات حول العالم.
ومنذ بداية الألفية الجديدة انتهجت لندن سياسة تقليص النفقات العسكرية، وهو أمر لم يرق للأميركيين، بداية من الرئيس باراك أوباما الذي طالب صراحة من البريطانيين زيادة إنفاقهم العسكري، وصولا لوزير الدفاع الأسبق جيمس ماتيس الذي أكد أنه على بريطانيا الرفع من نفقاتها العسكرية لتصل إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي.
وبالفعل سوف تستجيب لندن للمطالب الأميركية المتكررة، لتعلن عن أضخم خطة للإنفاق العسكري بزيادة تبلغ 23 مليار دولار بحلول سنة 2023، لتصبح بريطانيا بحلول 2025 أكثر دول أوروبا إنفاقا على الدفاع.
أما سبب إصرار واشنطن على رفع لندن إنفاقها العسكري، فهو الرغبة الأميركية في جعل حليفه قادرا على مواجهة روسيا مقابل تفرغ الولايات المتحدة للصراع الأهم مع الصين.
وبالفعل أقدمت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا في 15 سبتمبر/أيلول 2021 عن تدشين تحالف “أواكوس” (AUKUS) وهو شراكة أمنية جديدة بالمحيطين الهندي والهادي، بهدف تعميق التعاون، ومساعدة أستراليا على بناء غواصة جديدة تعمل بالطاقة النووية لمواجهة الصين.
كيف تخطط لندن وواشنطن لمواجهة موسكو؟
تتفق التقديرات العسكرية السنوية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على جعل روسيا في قائمة التهديدات التي تواجه الدولتين.
وتتفق التقديرات الاستخباراتية الأميركية والبريطانية على أن الغزو الروسي لا يزال ممكنا، ولا تعرف لندن الاختلاف الذي يكرره بعض حلفاء واشنطن -مثل فرنسا وألمانيا والنرويج- أن روسيا يمكنها غزو أوكرانيا، إلا أن هذه الدول تجهل التوقيت، ولا تجزم بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد حسم قراره، وربما سيقبل نوعا من التسوية الدبلوماسية التي يمكن أن تجنبه غزو أوكرانيا.
ولمواجهة هذا التهديد تم الاتفاق على خطة عسكرية من 5 محاور، أولها وضع خطة لإعادة الانتشار السريع لقوات الناتو بأوروبا الشرقية، وثانيها تعزيز التحركات البحرية بالبحر الأسود والمحيط الهادي.
أما المحور الثالث فهو الرفع من جاهزية القوات الخاصة، وتم وضع خطة لتحريك المئات من قوات النخبة البريطانية لعمليات إنزال بأوكرانيا، في حال غزو روسيا للبلاد، أما المحور الرابع فهو تعزيز أسطول الغواصات النووية خصوصا بمنطقة المحيط الهادي، وأخيرا محاصرة النشاط العسكري الروسي شمال الأطلسي.