جاذبية سحر الطبيعة في لوحات العراقي صباح محيي الدين
[wpcc-script type=”0c0ae08afa43324a870e457e-text/javascript”]

لعل قراءة اللوحة التشكيلية للفنانين الكرد، تمتلك خصائص ذاتية، لعل أهمها الظروف الموضوعية التي أنتجتها، وبكل تعقيداتها وحمولاتها السلبية والإيجابية، التي قادت إلى تباين النظرات من جهة، وظهور التوجهات الخاصة من جهة أخرى.
يضاف إلى هذا ظهور التباين بين الفنانين الكرد لأسباب موضوعية أيضا، بسبب الاتصال مع توجهات الفن في العالم، وعمق تجربتهم في الداخل، وحصراً في مجال استثناءات البيئة، وما تعرضت له من قسوة وتسلط جائرين. ولكن بشكل عام نجد أن في كلا التوجهين ارتباطا بالتاريخ ـ المكان والزمان ـ واضحا في نتاج الفنانين. ونعني الارتباط بالتاريخ الأنثروبولوجي.
والفنان صباح محيي الدين هنا ملتزم بقضية وطنية، على الرغم من اختلاف زوايا النظر، واختلاف آليات التعبير، وسعة الرؤية والتعامل مع المتداول والمخفي، الظاهر والباطن، المرئي واللامرئي. وإزاء كل هذا بقي الفنان أمينا لشعبه وأمكنته، حريصا على فنه.
ويمكن رصد ذلك خلال حالات التجريب في تنفيذ اللوحة، واستكناه الغائر في الظاهرة بدون الخضوع للمباشر. وهذا واضح من ظهور الكثير من خصائص هذا الفن، سواء كان في الرسم أو النحت، فإنه يصب في الهدف ذاته، وهذه مجموعة قراءات لها وكالآتي:
في المحتوى؛ نرى أن عوامل الخصب تتوفر عليها اللوحة، متمثلة في ثنائية الرجل والمرأة. فالفنانون الكرد امتازوا بسعة المعرفة بالموروث، لاسيما الموروث القديم. وفي هذا نرى توجهين اثنين؛ الأول كما ذكرنا مسعى معرفي، والثاني قدرة هذه المعرفة على توظيف مثل هذه المفردات المستدعاة من الماضي، للبحث عن دلالاتها في الحاضر. لذا يمكن عد هذا التوجه علامة من مجموع علامات الفن التشكيلي، لأنه مرتبط أساسا بالوعي والوعي الفطري ـ الجيني ـ أي أن الفنان عبر بيئة مسكونة بالسحر والجمال، لا بد أن يبحث عن وسائل لتوظيف مفرداتها. ولعل المعرفة بالشيء أهم ما امتاز به الفنان، لذا أرى من الطبيعي أن يكون توجهه في توظيف الموروث القديم، ليس بدوافع سد الثغرات والفراغات، بقدر ما كان ضرورة تعبيرية فنية خالصة، أملتها الضرورة الفنية أصلا، واستعادتها الذاكرة، باعتبارها بنيات أساسية تكمن فيها قوة التحريك، وخلق الوشائج التي من شأنها إزاحة ما تراكم بفعل الخطأ السياسي والاجتماعي.
ثاني هذه الخصائص؛ هو الاهتمام بالطبيعة وسحرها وأساطيرها، من ذلك أسطورة الماء والشجر والعلـيات والشمس والقمر، وما إلى ذلك من الرموز التي شكـلت شَعيراتها وطقوسها عبر التاريخ القديم، مركزا معرفيا وثقافيا، استطاع الفنان من استلالها وتجسيدها في اللوحة، لتعبر عن دلالات معنية بواقع حاضر. ومن الرموز التي شكـلت ظاهرة بارزة ومتميزة في لوحات الفنانين الكرد هي رموز الأبواب والشبابيك، باعتبارها مواطن استشراف وإطلالة معوضة عما هو مصادَر من الأسس الدالة على بهجة الحياة. ومن خصائص الحركة التشكيلية، فن التجريد الذي يؤول إلى التعبير بعيدا عن التفاصيل.

فالتجريد عند صباح محيي وجه من الرؤية الموضوعية للواقع، التي تعمد إلى الإشارة والعلامة، وتجريب الأشكال الهندسية للوصول إلى مدلولاتها. وهي أشكال كان لها حضورها في الفن الرافديني القديم. وقد شمل التجريد بعض المنحوتات التي كانت تشير إلى صلابة المادة للوصول إلى صلابة الفكر، من اعتبار اتصالها بالمحتوى الذي يعتمده الفنان وهو يوظف المادة كالطين والحجر والخشب. هذه البنيات الفنية تقود بالدلالة إلى دلالة البنية التي يرتكز عليها الفنان، وهو يعبـّر عن مكنونات الذاتي والذهن الجمعي. وهنا يبرز التأثر واضحا في الفن القديم، لاسيما في تماثل محتوى بعض اللوحات مع محتوى الأختام الأسطوانية، كذلك تماثلها مع أشكالها وطبيعة الحراك والتداخل في بنيتها الداخلية. لقد اغترف الفنان هنا من معظم فنون العالم قديماً وحديثاً. ولعل التكعيبية مثلا كان لها تأثير واضح على لوحات بعض الفنانين، ولكن كانت كذلك توجهات ذاتية خالصة، بمعنى الانزياح في البنية والتوظيف.
تظهر علاقة الفنان بالواقع عبر التخاطر والتعامل مع المفردة اليومية وتمثلها، ويجري ذلك خلال المعرفي الذي يحدد المنحى والخطوات والتوجهات، وبالتالي يطلق الإمكانيات الذاتية التي هي البديل المحدد للرؤية، أي رؤية الزمان والمكان، لأن العلاقة تقام على أساس تشكيل وحدة من وحدات. هذه الوحدات مشروطة باللون والخط ثم الضوء والظِل، وبالتالي رؤية الأشياء ببصيرة الفنان. فإعادة صياغة الواقع غير مشروطة بالحرفية بقدر ما هي مشروطة بحرية وسعة الرؤية وممكناتها المعرفية الخاصة والعامة. لذا نرى تعامل الفنان إسماعيل الخياط مثلاً، تتشكل من ممكنات متعددة، وتعامله بآليات متباينة، غير أنها جميعا ً تعطينا ً خاصية الفنان في تعامله مع الظواهر والأشكال في الطبيعة، وضمن العلاقات اليومية التي يتداول معها كوجود مكاني وزماني. إن تعامل الفنانين مع المرأة، يبرز خلال النظرة الفاحصة والمبدئية التي يتحكم فيها مفهوم الثنائية التي تعاملت فيها الحضارات القديمة.
واهتمامه بالأزقة والمحلات الشعبية نابع من البراءة وانسيابية الحياة، وليس صرامتها الخاضعة والمتأثرة بعوامل قاهرة. هذه الأمكنة تتميز بحضورها الذاتي، وليس من إضفاء تطور العمارة والتصميم، فهي خاضعة لمخيلة شعبية صممت عمارة بيوتها والتواء أزقتها وشوارعها الرئيسية. إنها نتاج مخيال شعبي ثري وشديد الحساسية، ثم خالق للاُلفة والتقارب الأُسري والاجتماعي. وهذا يشمل الأزقة والشوارع في الريف. تبدو الأزقة مزينة بفن العمارة، كما هي الشناشيل والشرفات المطلة على فضائها: كالدكاكين.
لقد جسد الفنان صباح محيي المشهد عبر تأكيد عمقه، خلال إبراز المدخل والعمق. هو دليل ينحو لوضع اللقاءات الاجتماعية موضع الصدارة، بمعنى أن هذه الأمكنة تعيش باطمئنان، مكتفية بجمالية تصميم عمارتها وموجوداتها. وفي لوحة أُخرى يظهر المسجد كواحد من نواظم الذات الإنسانية. فالمسجد وسط المحلة، وضمن زقاقها الضيق نسبياً، ما هو إلا إشارات ذات دلالات، وإن ظهرت كمشاهد طبيعية ومألوفة. لكن القراءة تنحو بها للدلالة. كذلك يشمل هذا القول أزقة الريف الحافلة بصف الأشجار والأرض المفروشة بنتف الثلج. إن الاهتمام بالجمال الفطري والبسيط، يُضفي على المكان جمالية خاصة، لاسيما تجسيد شرفات البيوت وعلياتها كالشناشيل.
٭ كاتب عراقي
