خواكين سورويا… حارسُ الضوء في إسبانا
[wpcc-script type=”5ab44c555602564fe479af74-text/javascript”]

ما إن أُعلن عن فتح الفضاءات الثقافية الفرنسية للعموم حتى سارع مركز الفن التشكيلي بنزل كومونت الواقع في مدينة أكس-أون-بروفانس بفرنسا إلى إقامة معرض استعاديّ للفنان الإسباني خواكين سُورُويَا (1863-1923) خلال الفترة الممتدّة من 10 يوليو وحتى بداية تشرين الثاني 2020. ويُعدُّ خواكين سُورُويَا أحدَ أكبر الأسماء التشكيلية الإسبانية في القرن العشرين، ونحن مدينون له، على حدِّ ما جاء في دعوة المعرِض، بأكثر التمثّلات المدهشة والرائعة لإسبانيا المشرقة والمتوسطية، إسبانيا المتفائلة والحديثة، وذلك بفضل لوحاته الكثيرة التي تتجلّى فيها لألأةُ طبيعة إسبانيا ببيوتها وصيّاديها وشابّاتها كأنّما الكلّ في احتفالٍ بالدّنيا بهيجٍ. ناهيك عن أنّ هذا المعرض يقدّم رسومات صغيرة ومخططات زيتية تسلط ضوءًا جديدًا على مفهوم خواكين سورويا للفن، وهي فرصة للزائر ليدخل إلى الحديقة الخلفيّة لإبداعات هذا الفنان ويقف على تفاصيلها.
فنّانُ الإشراقِ
ما يُجمع عليه كتّاب سيرة خواكين سُورُويَا باستيدا هو أنه ولد في مدينة فالنسيا على ساحل البحر المتوسط الإسباني في 27 فبراير 1863، وهو الابن الأكبر لتاجر محليّ صغير. وفي عام 1865، اندلع وباء الكوليرا في المنطقة، فتوفي والداه، وهو ما حدا به وبأخته يوجينيا إلى أن يُقيما عند خالتهما إيزابيل وزوجها اللذين كانا يمتهنان صناعة الأقفال. وفي تلك الأثناء حاول عمه أن يعلمه التجارة، ولكنّ خواكين أبدى شغفًا بالرسم وبالألوان ولم يهتمّ بالتجارة. وهو شغف شجّع خالته على أن تُدخله، وهو في سن الحادية عشرة، إلى محترفٍ لمتابعة دروس في الرسم، وابتداءً من سن السادسة عشرة انتمى خواكين إلى الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في سان كارلوس وراح يعضد شغفَه الفنيّ بالمعارف العلمية المتصلة بالفن التشكيلي حتّى قويَ عودُه فسافر إلى مدريد وتواصل مع أشهر رسّاميها واكتشف بمساعدتهم فنون رسّامي إسبانيا الشهيرين أمثال الفنان دييغو فيلاثكيث الذي تأثّر به كثيرا واعتبره معلّمه الأوّلَ، بل وقلّده في بعض لوحاته على غرار لوحة «المرأة العارية» التي تكاد تكون نسخة من لوحة فيلاثكيث الموسومة بـ«فينوس في المرآة». كما شارك في معارض جماعية وفي ورش فنية لمزيد صقل موهبته. وفي المعرض الإقليمي في فالنسيا حصلت إحدى لوحاته على ميدالية، وهو ما مثّل له اعترافا به محليا تُوِّجَ بحصوله على منحة من بلدية فالنسيا للقيام برحلة إلى روما التي يحلم بزيارتها جميع الرسامين في ذلك الوقت. وقد مكنته الإقامة القصيرة في روما عام 1884 من الاتصال بأعمال أساتذة عصر النهضة الإيطاليين العظماء. ثمّ زار باريس بدعوة من بيدرو جيل مورينو دي مورا، رجل الأعمال الإسباني الثري، وهناك اكتشف المدرسة الانطباعية التي ستؤثّر بشكل كبير في أسلوبه الفنيّ. وإثر عودته إلى بلاده تزوج من كلوتيلد جارسيا وسافرا معا إلى عواصم أوروبية كثيرة وزارا قراها ذات الطبيعة الخلاّبة، وقد رسم جواكين زوجته في لوحات عديدة منها لوحات «كلوتيلد جالسة على الأريكة»، و«كلوتيلد على الشاطئ»، و«كلوتيلد في فستانها الرمادي». وفي هذه الفترة ظلّ أسلوبه قاتمًا وفيه تردّد في التعاطي مع الألوان، وهو أمر سيتلافاه فيما بعدُ حيث أعلن انتماءه الفني إلى تيّار الواقعيّة في الرسم، وزاد اهتمامه بمعيش الناس، وبفنون الإضاءة، وتأثيراتها على اللوحة وعلى متلقّيها. وكانت هذه الواقعية الاجتماعية هي أحد جوانب عمل سورويا الذي يتوافق مع تطور الرسم الإسباني في نهاية القرن التاسع عشر. في بداية القرن العشرين حصل خواكين على وسام الشرف في معرض باريس الدولي. كما قام تاجر الفن الشهير جورج بيتي بتنظيم معرض له في عام 1906 حقق نجاحًا كبيرًا وجلب له شهرة واسعة في المدن الأوروبية والأمريكية الشمالية الكبرى. وبفضل تنامي تلك الشهرة، تنامى دخلُه الماديّ من إقامة معارضه الفردية، فاشترى قطعة أرض بمدريد وبنى فيها منزلًا ضخمًا صمّمه له صديقه المهندس المعماري الشهير إنريكي ماريا ريبوليس إي فارغاس. وفي نهاية حياته، مثّلت حديقة منزله فضاءً طبيعيا أوحى له بموضوعات فنية عديدة رسمها في لوحاته المصغَّرة على غرار لوحته «حديقة بيت سورويا». وفي عام 1920 أُصيب بسكتة دماغية سبّبت له شللا نصفيا منعه من الرسم في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته. وقد توفي في 10 أغسطس 1923 في مدريد.
من أشهر لوحات خواكين سورويا الشاطئيّة التي يُقبل عليها الجمهور في كلّ معرضٍ لجاذبيتها الفنية والمضمونية ولحُسن تدبيرها علاقة الأصباغ بالضوء نذكر لوحة «جولة على الشاطئ» حيث تتضّن مشهد فتاتيْن يتمشّيان على الشاطئ.
زبدٌ لا يذهب جفاءً
في كتاب «أرضُ الفراغ-الغرب والرغبة في الشاطئ 1750-1840» يتحدّث المؤرّخ الفرنسيّ آلان كوربان عن أنّ «اختراع الشاطئ» قد تمّ في إنجلترا في نهاية القرن الثامن عشر وذلك بإنشاء علاقة جديدة بينه وبين الإنسان، فظهرت المنتجعات الترفيهية في ويماوث وبرايتون، وأصبح الشاطئ موضوعًا للتأمل الجمالي ومساحة للترفيه ولم يعد فضاءً بئيسًا خاصّا بالصيّادين الذين دفعهم اهتمامُ الرسّامين والكتّاب بثيمة الشاطئ إلى الخروج منه تدريجيا بفضل ضربات الفرشاة وصرير الأقلام. ومتى استعنّا برأي آلان كوربان فسّرنا سرَّ اهتمام الفنان خواكين سورويا بالشاطئ واعتماده فضاء لكثير من لوحاته.
كان خواكين سورويا مأخوذًا برغوة البحر، بالزَّبد، لكأنه لتا يُريد له أن يذهب جفاءً، فدرّب فرشاته على رسم تلك الرغوة وهي تعلو موجتَها بضربة خاطفة تُضيء الماءَ، فإن لم ترسم الرغوة على الماء رسمتها على أجساد المتجوّلين على الشاطئ، فإذا ملابسهم زبديّة اللون مضاءةٌ ومضيئةٌ، هلاميةٌ وشفيفة، وإذا بالرّيح تحرّك أجساد هؤلاء المتجوِّلين تحريكَها الأمواج، فتهيج من تلك الأجساد إشراقاتٌ ثَرّةُ التخييل وعذبةُ الهدهدة. وإنّ من أشهر لوحات خواكين سورويا الشاطئيّة التي يُقبل عليها الجمهور في كلّ معرضٍ لجاذبيتها الفنية والمضمونية ولحُسن تدبيرها علاقة الأصباغ بالضوء نذكر لوحة «جولة على الشاطئ» حيث تتضّن مشهد فتاتيْن يتمشّيان على الشاطئ. لكنّ الجديد في عمل خواكين هو أنّه نقل رغوة الموج من البحر إلى الفتاتيْن، فإذا فستان كلّ واحدة منهما حفل أمواجٍ ومهرجان ضوءٍ. ومن لوحاته الشهيرة أيضا لوحة «العودة من الصيد» وفيها مشهدٌ مليء بالحركة والفاعليّة هو واحد من مشاهد المعيش الإسباني التي أُغرم بها هذا الفنان وأقبل على رسمها، ويظهر فيها أربعةُ أشخاص: صيّادان فوق ظهر القارب يرخيان حبال الشِّراع، ورجلان أحدهما مفتول العضلات يسوسان ثوريْن لجرّ القارب من البحر إلى الشاطئ أين سيفرغ حمولته من الأسماك. وبفضل مثل هذه اللوحات أصبح خواكين سورويا رسام الضوء، وحارسه على شواطئ البحر الأبيض المتوسط والأطلسي حيث كلّ شيء هناك صار خفيفا ولامعًا.
وبعد وفاة خواكين حوّلت زوجته كلوتيلد منزله بمدريد إلى متحف باسمه جمعت فيه أهم لوحاته ومراسلاته وألبومات صوره والرسومات الزيتية الصغيرة التي لم تُعرَض من قبلُ وتُسلِّط ضوءًا جديدًا على تصوره للفن من جهة اللمعان والعفوية، إضافة إلى تلك المخطّــــَطات ذات التنســـيقات الصغيرة التي تسمح له بتحديد الموضوعات التي يستكشفها، واختبار التراكيب أو مجموعات الألوان التي تصلح بكللّ مشهد تشكيليّ.
٭ كاتب تونسي
