خيول العراقي عباس الزهاوي… حيوية الرمز والأسطورة

عباس الزهاوي فنان ينتمي إلى المكون الذاتي والموضوعي بتوازن وثراء مستمرين؛ الانتماء الذي من أهم خصائصه التنوع والحرفية والحساسية الفنية في استخدام اللون، ثم قدرته على توظيف الرموز، بما يواكب نظرته الجدلية للواقع. كذلك تعامله مع ما يرى بمنظور وجهة النظر والانطباع الذاتي. فهو غير معني بنقل المشهد، بقدر ما ينقل المشهد ذاته الذي يراه […]

خيول العراقي عباس الزهاوي… حيوية الرمز والأسطورة

[wpcc-script type=”8a77e4e55affffcca9a8d302-text/javascript”]

عباس الزهاوي فنان ينتمي إلى المكون الذاتي والموضوعي بتوازن وثراء مستمرين؛ الانتماء الذي من أهم خصائصه التنوع والحرفية والحساسية الفنية في استخدام اللون، ثم قدرته على توظيف الرموز، بما يواكب نظرته الجدلية للواقع. كذلك تعامله مع ما يرى بمنظور وجهة النظر والانطباع الذاتي. فهو غير معني بنقل المشهد، بقدر ما ينقل المشهد ذاته الذي يراه الفنان بعين ثالثة، خالقاً عالماً آخر يُثير جدلية التلقي.. فهو إنما يحاور (الطبيعة، الرموز، والصراعات الدائرة وفن التجريد) من منطلق ذاتي. بمعنى يؤسس لهويته الفنية، التي تتطلب رؤى قارة تنتمي إلى الفكر، وتعمل على صياغة الجمال لما هو مطروح على سطح اللوحة. فالرائي الفاحص والمتأثر بمحتواها يُدرك بحسية عالية مدارات اشتغال الفنان، فلا يُفرط بالصغيرة من السمات لحساب الكبيرة. فاللوحة لديه وحدة متكاملة ومتناسقة، تتضافر على سطحها الأجزاء مع ما هو مركزي. لذا فمنهج قراءتنا يكون ضمن الآفاق التي أنتجت المعنى العام لفنه، الذي دفعنا إلى استحداث تقسيمات نقدية أساساً، لأنها تُعطي لخاصيات كل منحى فني قدرته الفنية على توصيل الرؤى الفكرية واستقلاليته، بتوظيف الفكر لصالح الفن.
فليس نقل سمات الطبيعة لوحده يُحدث وينتج فناً، بل ثمة وحدة محركة، ونعني به الفكر الجدلي. فالفنان الانطباعي مثلاً، ليس ناقلاً لما يرى ويُشاهد، بل يُخضع كل هذه لرؤية يُديرها مختبر ذاتي موضوعي. والزهاوي كما نراه خلال اللوحة، يمتلك مختبراً فنياً واسع المساحة، مما أعانه على هذا الإثراء الدال على تنوع وتخصيب الرؤى الفنية والموضوعية. إن التقسيمات التي ستحكم مسار دراستنا هي محاور (الخيول، الطبيعة، الرموز، الصراع والتجريد).


خيول الزهاوي
حين يدور الحديث عن الخيول كرمز قار، يُذكر الفنان فائق حسن، فنقول (خيول فائق حسن). وهو قول تحكم فيه الزمان والمكان بأصالة شكلت حيزه النقدي على مرّ الأزمنة. وهي خاصية جمالية شديدة الارتباط بزمنها العابر خلال فكر الفنان. وهنا يمكنني عبر نظراته المتوالية للخيول التي احتوتها لوحات الزهاوي، أقول (خيول الزهاوي). منطلقاً لا من اعتبارات مباشرة أحدثها الانطباع لسريع، بقدر ما خلقتها النظرة الفاحصة لمتعدد متحرك. بمعنى أن الخيول في اللوحات امتلكت حراكاً معبراً عن ظواهر تتعلق بالفكر حصراً، مزيجاً بالفكر الفلسفي الذي يمكن خلق أيقونة كلامية تقول (أنا متحرك إذن أنا موجود). فخيول اللوحات لا تستقر على حال، بقدر ما تثابر وتواكب المبنى الفكري، لخلق وسائل وعلامات تعبير عن ما يجري. فالقوة التي يمتلكها الجسد هنا قابلة على ترصين التعبير، فالحصان رمز راسخ في المخيلة الفردية والجمعية، لذا يجري التعامل معه على أساس قدرته على خلق المعاني. فهو يدعو إلى استعارات متعددة، وتلك هي حيوية الرمز وأُسطورته، من أنه غير مستقر ومنتج لمعان متعددة.
تبدو خيول الفنان على تماس بالظواهر، فهي بديل تعبيري ألفه النتاج الإنساني عبر أزمنة سحيقة. وقد تبلور في الأزمنة القديمة بالمبالغة في رسم الجسد، وأقرب مثل على هذا ضخامة المدارات في المنحوتات القديمة، وهو تأكيد رمزي عن الأُمومة والعطاء والتخصيب التي تمتلكها الأُنثى في الحضارات القديمة. والفنان المعاصر يعمل على خلق رموزه أيضاً عبر ابتكار أشكال من التعبير لرمز واحد قار. والزهاوي يوظف الحصان من منطلق تعدد الأشكال من الحركة. وبهذا أنتج مجموعة أساليب تعبير قادرة على الإحالة إلى ظواهر. بمعنى أضفى حيوية على رمز هو أساساً حيوي ومتحرك الدلالة.
إن بنية الفنان الفكرية تلعب الدور في تطوير دلالة الرمز خلال اختيارات متعددة خاضعة لرؤى فكرية. وهذا الذي خلقه الفنان أعطانا حالات مختلفة ضمن منظومة تُشير إلى دوافع فكرية. فالفنان ومنتج النص ينظر بفحص إلى ما يجري في زمانه ومكانه، لكن الذي يميزه هو خلق علاماته التي تُميزه عن أقرانه من جهة، ومن جهة أُخرى، يمنحنا عطاء زمانه ومكانه.

الفنان يتعامل مع الوجود الحيواني، كما لو أنه عالم قريب وإنساني. وهذا ما يتأسس من بؤر متعددة، تقرب العالمين، وتزيدهما ثراء، والذي يلعب دوراً في هذا زهو الألوان، وتوازنها، وقدرتها على الكشف عن خفايا الأجساد، سواء كانت تستقر أو تجري في كل الاتجاهات.

وتلك هي خاصية حركة الأزمنة التي تخلق أجيالاً ضمن مقولة (أنت لا تدخل النهر مرتين) أي هي تعامل بديالكتيك مستمر ومتواصل مع مستجدات الأزمنة. والخيول واحدة من الرموز التي وظفها الفنان لصالح فكره، وكان حراك محتويات اللوحات كالتالي:
ــ التطلع بشموخ نحو الأمام، أي باتجاه المستقبل. وهي سمة تنفي الخضوع والضعف والانكسار. ولعل طبيعة الألوان المستخدمة لتجسيد هذا المنحى ساهم في خلق المعنى المقصود، إذ لا يمكن فصل البنية الموضوعية عن الفنية، فهما في تضافر مستمر. فالتطلع لخيول اللوحة عمقته الصياغات اللونية، وزادت من حراك الخيول.
ــ الجري على سرعة، وهي سمة دالة على الإصرار للوصول، أو تفادي خطر ملاحِق. وهي سمة لحركة تطلبت تركيز الإمكانيات الفنية والموضوعية لصالح إنتاج معنى أكثر شمولية للحركة. كما أن تشكيل أجساد الخيول فنياً، أظهر الحراك على قوة، ساهمت ريشة الفنان على ترك اللون على فعالية موضوعية وجمالية سامية.
ــ لعل التوثب من أجل اجتياز العقبة، واحدة من علامات قوة الجسد. فقد كانت خيول الفنان في هذا الضرب من التعبير أكثر قوة بما تمتلكه من بلاغة التعبير عن سياقات الواقع. وتضمر دعوة إلى عدم الخضوع والضعف أمام معوقات الوجود، مهما تعددت وسائله. فالرمز هنا على حيوية واضحة في التعبير عن ظواهر إنسانية.
ــ مثلما للإنسان عواطف، فالخيول مثلها، باعتبارها كائنات تمتلك حساً مرهفاً. من هذا المنطلق عكس لنا الفنان أُلفة الثنائية (الحصان + الفرس) وهما في خلوة. وقد تعامل من أجل ذلك بالألوان الدالة على عاطفة ورومانسية فائقة. نرى أن هذه الالتفاتة لم تكن عفوية فحسب، بل إنها تحققت عبر رؤى فكرية جمالية خالصة.
ــ الجسد الذي عليه الخيول، هي الرشاقة وعلامات القوة، فهي خيول تنتمي إلى الطبيعة، أي غير مدجنة، تتعامل مع الطبيعة بعفوية بيئية. اكتسبت رشاقتها من الطبيعة، وسعة الحرية. الفنان عمل على تجسيد ما يلغي تدجينها. فهي خيول بأبهة جسدية، وقوام متراص، أي غير مترهل.
ــ خيول تنطلق إلى الأمام ـ تتوازن مع الطبيعة في لون أجسادها، الرمادي يطغي على كل مكونات اللوحة. تنسحب الخيول بقوتها بانطلاقة نحو مكان لا يؤشر سوى إلى المكان اللاحق أو الآتي.
ــ خيول كما هي النساء في جمالها وغنجها واعتزازها بالوجود. تلتصق بالطبيعة، لأنها المنطلق الأساس لوجودها. تمارس كل فعاليات الأنسنة، ومنها الغزل والتحبب، حيث يُظهرها الفنان على حراك يدل على أُلفة الفرس والحصان، بأُبهة إنسانية، وغزل إنساني. ثنائية مثيرة ومؤثرة.
ــ الفنان يتعامل مع الوجود الحيواني، كما لو أنه عالم قريب وإنساني. وهذا ما يتأسس من بؤر متعددة، تقرب العالمين، وتزيدهما ثراء، والذي يلعب دوراً في هذا زهو الألوان، وتوازنها، وقدرتها على الكشف عن خفايا الأجساد، سواء كانت تستقر أو تجري في كل الاتجاهات. إن نعت الخيول في (خيول الزهاوي) ينطلق من الاهتمام المتميز لهذا العالم الرحب الذي شكل ولعاً فنياً.

٭ ناقد عراقي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *