“داخل بيلاروسيا”.. آخر المستبدين الأوروبيين يصبح دمية بيد القيصر

يوصف رئيس بيلاروسيا “ألكسندر لوكاشينكو” بأنه “آخر الديكتاتوريين الأوروبيين”، وأنه يتوافق فكريا مع “بوتين”، ويتقاسم معه نفس الرؤية السياسية للعالم، ويخضع بالكامل لإرادته. فكيف أصبح دمية بيد القيصر؟

قيس قاسم

قبل أن يشن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” حربه على أوكرانيا بأسابيع قليلة، ويبرز خلالها اسم بيلاروسيا كدولة حليفة له في الحرب، يقرر صحفيان فرنسيان الدخول إليها سرا متنكرين بصفة سياح، وذلك لغرض التحقق من حقيقة كونها دولة شمولية بوليسية يصف الغرب رئيسها “ألكسندر لوكاشينكو” بأنه “آخر الديكتاتوريين الأوروبيين”، وأنه يتوافق فكريا مع “بوتين”، ويتقاسم معه نفس الرؤية السياسية للعالم، ويخضع بالكامل لإرادته.

ولحاجته للحماية الروسية التي تضمن له البقاء في الحكم، فقد تحوّل إلى دمية بيد “بوتين”، يقف معه في حربه، ويقبل بتنفيذ كل ما يطلبه منه، بما في ذلك فتح أبواب بلاده أمام جيشه لمهاجمة أوكرانيا منها، والسماح له بنصب صواريخ روسية بعيدة المدى على ترابها.

مينسك.. سائحان فرنسيان يتسللان إلى قلعة الاستبداد

ميدانيا من داخل بيلاروسيا يعمل المخرجان والصحفيان الفرنسيان “بيير شابير” و”إميلي لوب” في وثائقيهما “داخل بيلاروسيا.. نظام دمية بوتين” (Inside Belarus: Putin’s Puppet Regime)، ويستقصيان الحقائق المتعلقة بالنظام السياسي الذي كرسه الرئيس خلال فترة حكمه للبلد بقمع وحشي للمعارضة، وإسكات لكل صوت ينادي بالتغيير.

 

لإنجاز فيلمهما يدخل الصحفيان العاصمة مينسك متنكرين بصفة سيّاح، تجنبا لمراقبة أجهزة الأمن لهما، وخوفا على حياة من يقبل بمقابلتهما من المعارضين والرافضين لسلطة “لوكاشينكو”.

في العاصمة وخلال الأسبوعين اللذين أمضياهما فيها قابلا معارضين سياسيين، ووثقا بالكاميرا الخفية الممارسات القمعية للأجهزة الأمنية ضد كُل مَنْ يرفع صوته احتجاجا على نظام يكرس الديكتاتورية، ويرفض فكرة الديمقراطية، ويتهم المنادين بها بالخيانة والولاء للغرب.

“رومان بروتاسيفيتش”.. طائرة مقاتلة تعتقل صحفيا معارضا في الأجواء

رغم حذرهما الشديد بدت زيارتهما إلى مينسك مثيرة للاستغراب، وذلك لقلة السياح القادمين إليها من الخارج، وبشكل خاص بعد مقاطعة الدول الغربية لنظامها السياسي، وفرضها قيودا على الرحلات الجوية المباشرة إليها بعد حادثة اختطاف الصحفي المعارض للنظام “رومان بروتاسيفيتش”، وذلك أثناء وجوده على متن طائرة مدنية كانت متجهة من مينسك إلى إسطنبول.

في مايو/أيار من عام 2021، وأثناء طيرانها فوق الأجواء البيلاروسية، حلقت طائرة مقاتلة بالقرب منها، وأجبرت قائدها على الهبوط بحجة وجود قنبلة موقوتة على متنها. وبعد أيام ظهر الصحفي وهو يدلي بشهادة عبر شاشة التلفزيون يُعلن فيها تورطه في إثارة الاضطرابات وتهديد الاستقرار.

الصحفي المعارض رومان بروتاسيفيتش في غياهب السجون

 

إجبار الطائرة المدنية على الهبوط واعتقال الصحفي المعارض، وإجباره على الإدلاء بشهادة ضد نفسه تحت ضغط التهديد؛ تشكل خرقا وتجاوزا فاضحا للقوانين الدولية ومبادئ حقوق الإنسان. رغم كل ذلك لم يعبأ الرئيس بتلك القوانين، وظل يمارس سياسته القمعية في الداخل.

“آخر الديكتاتوريين الأوروبيين”.. نشأة سياسية في أكناف الحزب الشيوعي

للبحث عن أسباب سطوته وعدم مراعاته للقوانين الدولية رغم وصف الغرب له بأنه “آخر الديكتاتوريين الأوروبيين”، يراجع الوثائقي الاستقصائي تاريخه الشخصي والسياسي.

ولد “لوكاشينكو” عام 1954 من عائلة فقيرة في جمهورية روسيا البيضاء (اسم بيلاروسيا في العهد السوفياتي)، وبعد انضمامه للجيش وتشخيص قادة الحزب الشيوعي السوفياتي لطموحه ورغبته في الصعود السريع، فقد أوكلوا إليه مهمة الإشراف على أكبر مصنع لإنتاج مواد البناء، لقد أظهر صرامة في إدارته، وظل في مركزه حتى سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي أواخر ثمانينيات القرن المنصرم.

استغل “لوكاشينكو” التغير السياسي الجديد، ورشّح نفسه لعضوية البرلمان البيلاروسي، وفي ربيعه الـ37 أصبح نائبا في البرلمان، وبعدها وجد في نفسه موهبة الحديث أمام الصحفيين والإجابة السريعة على أسئلتهم، واكتشف المقربون منه أيضا حبه للزعامة والسيطرة المطلقة، ومن بين هؤلاء صديقه القديم “أنتاولي ليبيدكو”.

استقلال الجمهورية.. نظام وأد أحلام الديمقراطية في مهدها

كان “أنتاولي ليبيدكو” من أقرب أصدقاء “لوكاشينكو”، فقد عمل معه منذ تسعينيات القرن المنصرم في مجلس النواب، وأعلنا سوية عام 1991 وثيقة “استقلال بيلاروسيا” بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وقتها ذاق الناس طعم الحرية، وتطلعوا إلى تأسيس نظام ديمقراطي جديد لا مكان فيه للديكتاتورية.

لوكاشينكو سياسي متشبث بالسلطة منذ شبابه

 

مَنْ أعاق تحقيق كل تلك الطموحات والأحلام -حسب حديث صديقه القديم- هو “لوكاشينكو” وطموحه في التفرد بالحكم، والإبقاء على أسس النظام السوفياتي القديم التي ظهرت بوادرها حال انتخابه عام 1994 رئيسا لبيلاروسيا.

لقد اتخذ في إدارته للحكم أسلوبا ديكتاتوريا فرديا، فهو وحده من يتخذ القرارات، ولا يطيق أي شكل من أشكال المعارضة له. تجلى ذلك الميل الديكتاتوري بشكل واضح خلال اقتراحه عام 1996 مشروعا يسمح بإضافة بنود جديدة في الدستور تتيح له تمديد فترة حكمه من 5 إلى 7 سنوات.

إنه مشروع يكرس به هيمنته المطلقة على السلطة. لم يحظ المشروع بموافقة أغلبية برلمانية، فقد عارضه 110 نواب، وكلهم تعرضوا بعد ذلك للإبعاد أو السجن عقابا على موقفهم، وكان من بينهم صديقه القديم “أنتاولي ليبيدكو”.

ست فترات رئاسية.. نمطية الأنظمة الشمولية المستبدة

يوثق “أنتاولي ليبيدكو” صديق “لوكاشينكو” القديم فترة سجنه بتخطيطات رسمها بنفسه، حيث يجسد بها أساليب التعذيب التي تعرض لها هو وبقية من عارض تمديد فترة حكمه التي أقرها رغم كل الاحتجاجات.

مواجهة المتظاهرين السلميين بالعنف والقسوة

 

خلال السنوات ما بين 1994-2020 انتخب “لوكاشينكو” 6 مرات رئيسا، وفي كل مرة كان يحصل على 80% من أصوات الناخبين. النسبة التي تذكر بنتائج كل الانتخابات التي يجريها المستبدون في العالم، وتواجه عادة بانتقادات حادة من معارضيهم.

هذا ما حدث بالضبط معه في عام 2020، عندما أخذت المعارضة تزداد قوة، وبسبب خوفه منها أخذ يقترب أكثر فأكثر من قادة الجيش وجنرالاته، ليضمن ولاءهم له. سلطة كرسها على حساب حرية الشعب التي قيّدها بممارسات قمعية من قبل أجهزة الشرطة والجيش، وبدعم من “الأخ الأكبر بوتين”.

“الأخطر في العالم”.. بلد توظف خمس الشعب في المخابرات

خلال تجوالهما في المدينة يلاحظ صانعا الوثائقي أن كثيرا من الشباب يجتمعون عندما يحل الظلام في ساحة المدينة القديمة، يدخلان مكانا تعزف فيه فرقا موسيقية مقاطع من أغنيات شعبية وألحان محلية، أكثر الحاضرين إليها كانوا حذرين ويخافون من رجال الشرطة.

إنهم يشكّون في كل غريب يدخل المكان، ويتجنبون الحديث في السياسة أمامه خشية من أن يكون عميلا للسلطة التي تجد فيهم خصوما، وذلك لاعتقادها أن أغلبيتهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى المتعلمة والمثقفة التي لا ترضى بممارساتها.

يتضح من حوارات صُنّاع الوثائقي مع زوار المكان أن الشرطة تراقب كل من يدخل إليه، ولا تتردد باعتقاله فور أن تسمع أحدا يتحدث بالسياسة، أو يعبر صراحة عن معارضته للسلطة، بعض الشباب وصفوا بلدهم بـ”الأخطر في العالم”، لأن حوالي 20% من سكان البلد يعملون في أجهزة الشرطة والمخابرات، أو يتعاونون معها، أما البقية فلها مواقف مغايرة تعبر عنها بطرق غير مباشرة تجنبا للمسائلة والمحاسبة اللتين تفضيان دوما إلى السجن ولفترات طويلة جدا.

تهمة الإساءة للرئيس.. تذكرة إلى ما وراء الشمس

يذهب الصحفيان لمقابلة شابة ألقت أجهزة المخابرات القبض على زوجها الصحفي وسجنته لمدة 15 عاما بتهمة كتابته مقالات تسيء إلى الرئيس ونظامه. بسبب سجنه تركت عملها، وأخذت تكتب هي الأخرى بحذر مقالات تنتقد فيها السياسة القمعية بطريقة مبطنة، لأنها -كما تخبر الوثائقي- على ثقة من مراقبة الأجهزة الأمنية لشبكة الإنترنت، وكل ما يكتب على وسائل التواصل الاجتماعي.

تكشف لهم كاميرا خفية وضعت لمراقبتها داخل سيارتها، وحذرت الصحفيين من الحديث بأي لغة أجنبية، لأن ذلك سيجلب انتباه رجال الشرطة السرية إليهم.

الرايات الملونة بالأحمر والأبيض رمز لمقاومة شعبية ضد الديكتاتورية

 

من المفارقات التي يسمعها صانعا الوثائقي أن السلطة تعتبر ارتداء الملابس ذات اللونين الأحمر والأبيض دليلا على تعاطف أصحابها مع المتظاهرين الذين خرجوا بالآلاف إلى الشوارع عام 2020 رافعين الرايات الملونة بتلك الألوان التي صارت رمزا لمعارضة السلطة.

طفل في المظاهرة أرعب المخابرات.. تفتيش الحضانات

ينقل الوثائقي تسجيلات مصورة للمظاهرات الشعبية العارمة التي خرجت ضد السلطة وزعيمها، وكيف واجهتها الشرطة بالقمع.

طفل ذو أربع سنوات أخاف السلطات القمعية البيلاروسية

 

من بين الناشطين المعارضة “سفيتلانا تيتشانوفسكا” التي نافست الرئيس في السباق الانتخابي، ورغم خسارتها فيها بسبب التزوير، فإنها ما زالت مستمرة على تشجيع الناس على المعارضة ورفع أصواتهم، فهذا وحده يكفي لإخافة السلطة.

يقابل الوثائقي والدة طفل أخذته معها في إحدى المظاهرات، وكان عمره حينها أربع سنوات، وقد جُنّ جنون أجهزة المخابرات، وراحوا يفتشون عن الطفل في كل الحضانات، وطلبوا من مدرائها التبليغ عنه في حالة ظهوره في إحداها، وبسبب خوف والدته عليه قررت ترك البلد والتوجه إلى دولة مجاورة، كما فعلت المرشحة الرئاسية التي انتقلت إلى جمهورية ليتوانيا، ومن هناك أعلنت نفسها رئيسة لحكومة المنفى البيلاروسية.

حلف الزعيمين.. علاقة معقدة يرسمها الفكر المشترك والمصالح

ترافقت ممارسات الرئيس البيلاروسي القمعية مع دعم وإسناد قويين من الرئيس “بوتين” الذي دافع عنه ومنع سقوطه، وذلك بعد ارتفاع المد الجماهيري المعارض له.

لمعرفة الأسباب التي تقف وراء ذلك الدعم وسر التقارب بين الرئيسين يقابل الوثائقي دبلوماسيا سابقا وخبيرا فرنسيا بالشؤون الروسية يُدعى “جان دي جلينستي”، ويصف العلاقة بينهما بالغريبة والمعقدة، فهما لا يحبان بعضهما، لكنهما يتشاركان في فكر واحد وتوجه قمعي واحد، وتربطهما مصالح شخصية وسياسية مشتركة، رغم الأعباء الثقيلة التي على روسيا تحملّها جراء حماية نظام “لوكاشينكو” من السقوط.

علاقة معقدة تجمع الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو مع الرئيس الروسي بوتين

 

الخوف من مجيء رئيس بديل له موالٍ للغرب يجبر “بوتين” على التمسك به ضعيفا خاضعا له، قادرا على تحريكه كدمية كلما احتاج إلى ذلك، كما أن سلوكه العدائي يخدم في النهاية توجهات الرئيس الروسي المعادية للغرب الذي يُخطط لإضعاف وحدتها وإثقال كاهلها بمشكلات سياسية واقتصادية.

“العدوانية السياسية”.. سياسة انتقامية على حساب المهاجرين

يتوقف الوثائقي عند مثال على ما يسميه الخبير بـ”العدوانية السياسية” البارزة في سلوك “لوكاشينكو” السياسي، والتي لا تراعي الاعتبارات الإنسانية، ولا تكترث بالنتائج الكارثية المترتبة عليها.

يأخذ مثالا شديد الدلالة يتمثل بردود فعله الانتقامية على الخطوات التي اتخذتها دول الوحدة الأوروبية ضده بعد خطف الطائرة المدنية، وذلك حين أمر بفتح حدود بلاده أمام المهاجرين، وبشكل خاص من سوريا والعراق، وترتيب رحلات طيران منظمة لهم من دولهم للمجيء إلى بيلاروسيا، ومن هناك يدفع بهم إلى حدود دول الوحدة الأوروبية.

نتائج تلك السياسة الانتقامية تحملها المهاجرون الذين واجهوا ظروفا مناخية صعبة بعد غلق الطريق عليهم من قبل تلك الدول، مما أدى إلى وفاة عدد منهم، وأُجبر الآخرون على العودة من حيث أتوا خائبين ومحبطين.

عشرون دقيقة كأنها دهر.. اعتقال وتفتيش على معبر الحرية

يقدم الوثائقي مقطعا مصورا أثناء أزمة المهاجرين، ويظهر فيه الرئيسان الروسي والبيلاروسي وهما يلعبان هوكي الجليد، لقد كانت تلك إشارة واضحة للعالم عن مدى تقاربهما وتنسيقهما للعمل الانتقامي من دول الغرب وكل الراغبين في التقارب معها، وقد تجسد ذلك بشكل ساطع من خلال قرار “بوتين” مهاجمة واحتلال أوكرانيا، ومعاملته لبيلاروسيا كحديقة خلفية يُلزم زعيمها -مقابل دعمه وتثبيت سلطته- بالسماح له بنصب قواعد صواريخ بعيدة المدى على أرض بلاده، والانطلاق منها لمهاجمة الأراضي الأوكرانية واحتلالها.

الرئيسان الروسي والبيلاروسي يلعبان هوكي الجليد والمهاجرون بسببهما يموتون على الحدود

 

في مينسك وخلال اندلاع الحرب يواجه الصحفيان صعوبات جدية نتيجة لمراقبة الأجهزة الأمنية لهما، ومعرفتها بأنهما صحفيان فرنسيان وليسا سياحا. تعتقل الشرطة الصحفي “بيير شابير” وتجري تحقيقا معه، وبعد ساعات من حجزه يُطلق سراحه، وعلى الفور يقرران مغادرة البلد إلى ليتوانيا خوفا على حياتهما.

في الحدود بين البلدين تدقق الأجهزة الأمنية البيلاروسية في جوازات سفرهما، وبعد عشرين دقيقة تعيدها إليهما، فتلك عشرون دقيقة يصفها الصحفي بأنها مرت عليه كالدهر، فكيف تمضي الأيام على الشعب البيلاروسي وهو قابع لسنوات طوال تحت حكم نظام شمولي وقمعي أضحى في نهاية المطاف دمية في يد بوتين؟

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *