رحلة الحقيقة بين الواقع والمجاز لدى التشكيلي بنيونس عميروش
[wpcc-script type=”5fc27e6bb11a00dd03733520-text/javascript”]

الرباط ـ «القدس العربي»: إلى غاية الثاني من يناير/كانون الثاني المقبل، يتواصل في رواق مؤسسة محمد السادس في مدينة الرباط معرض الفنان والباحث التشكيلي المغربي بنيونس عميروش، الذي اختار له عنوان «فسحة»، إحالة على السياق المعماري، وانطلاقا من عبارة هيغل الشهيرة «الفُسَح المعمارية» المتضمنة في كتابه «فن النحت».
يوضح صاحب المعرض أن القصد من استعمال تلك الكلمة، الميادين والساحات المَدينِيَّة التي تتيح التجمع والمرور، أي الفضاءات العمومية الخارجية التي تُمَكِّنُنا من مشْهَدِيَّة المعمار، التي لا تُتاح لنا إلا بتموقع أجسادنا داخلها، أي داخل الفراغ. والحال أن أعمال هذا المعرض تتخذ صبغتها التكوينية الموصولة بالفضاءات المدينِيَّة، من منطلق التموقع الفيزيقي والرمزي في الفُسَح المعمارية، التي تنسج فِعل التنقل والتبادل والتأمل الوجودي، فيما تُجَسِّد الذهنيات والمثاقفات والأنساق القيمِيَّة، وكل ما يعكس الثقافة الحضرية بمفهومها الإثنولوجي الشامل.
ويضيف عميروش: اجتمعت لديّ العديد من لوحات هذه المجموعة، من خلال أعمال شاركت بها في معارض جماعية ثيمياتية مخصوصة لمُدن بعينها، وأخرى ضمن اشتغالي في عدد من الإقامات الفنية التي تمحورت حول علاقة «التصوير والمعمار»، وهي العلاقة التي طالما شكّلت لديّ موضوعاَ ذا جاذبية، في الوقت الذي يظل فيه الفن المعماري من أجناس الفنون التشكيلية، ما جعلني باستمرار على مقربة من هواجس وأفكار مهندسين معماريين عالميين وعرب، عبر قراءة كتاباتهم حول مُنْشَآتهم وتصوراتهم (غاودي، لوكوربيزييه، غروبيوس، حسن فتحي، رفعة الجادرجي، محمد مكية، زها حديد، عبد الواحد الوكيل، جعفر طوقان، رشيد الأندلسي، عبد الواحد منتصر وغيرهم).

هذا الاهتمام النظري، لم يكن معزولا عن قدر من التمرن التطبيقي الخاص بلغة المعمار الخطية، في إطار تكوين في الهندسة المدنية بعامة، والرسم المعماري بخاصة (كتخصص في السنة الثانية) في مركز تكوين أطر التجهيز (وزارة التجهيز) في وجدة، في بداية مساري المهني، حيث استأنست بطاولة الرسم واعتماد الكوس ومسطرة حرف تي (اللاتينية) طلوعا ونزولا، في إنجاز التصاميم. من ثمة، جاء استرجاع ذاكرة المدينة لإخضاع ذلك الرباط الرفيع بين الفن والمعمار، ليتخذ التخطيط سطوته في هذه الأعمال، حيث ينبثق السَّطْر باعتباره «خط الواجب»، الذي يترجم الوجه الوظيفي والمحسوب بعناية في مشاريع المهندس المعماري، إلى جانب المنحنى بوصفه «خط الجمال»، ضمن توطين خطي يستعيد ألق الرسيمة Croquis ورونق الغرافيك.
في اتجاه التجاوب والتحاور والتفاعل البصري، داخل حلقة الوَصْل بين التعبير والفضاء المَديني، تروم الأعمال السَّيْر نحو تجسيد نظرة ذاتية في استنبات رمزية العَتاقة، كسلطة بصرية تعكس قيمة المدينة وحياتها، بدون إلغاء وجهها المعماري الحديث، لكن بعيدا عن محاكاة نُظُم التشييد ومظهرية الحواضر في حد ذاتها. إنها الحواضر التي أتاحت لي توليف طوبوغرافيا وجدانية تجاهها، كالجديدة والرباط والدار البيضاء وغيرها، وعلى رأسها العاصمة الإسماعيلية، مكناس، التي ما زالت تغَلِّفُني، وقد صدقت أحلام مستغانمي «في ذاكرة الجسد»: هناك مدن نسكنها ومدن تسكننا.
تأثيث الفضاء البصري المجرد
ويقول الباحث والناقد عز الدين بوركة عن أعمال الفنان المغربي بنيونس عميروش، إنها تشكل تجربة تشكيلية بارزة في المشهد التشكيلي المغربي، إذ استطاع هذا الفنان الباحث أن يوالم بين اشتغال نظري وممارسة صباغية، مُكرّساً جهدا كبيرا لدراسة وتحليل المنجز التشكيلي المغربي من بدئه إلى يومنا هذا، بالإضافة لاشتغاله الجمالي على قُماشات تكشف في معرضه الأخير اهتماما بليغا بمفهوم الفضاء والعمران، عبر توبوغرافيا بصرية وصباغية، تتداخل فيها الكتابة عبر حضور يؤثث الفضاء البصري المجرد، ملغيا كل أبعاد التمثيل، ليُطلق العنان لفسحات بصرية تعيد تركيب فضاءات حقيقية، معتمدا في ذلك على لمسات هندسية ومساحية، وجاعلا من الخطوط حدودا تشكل الفضاءات الصباغية وتحددها، إلا أن ذلك ضمن حرية صباغية يحضر فيها اللون باعتباره عمقا.
أما في المعمار فالخط هو القوة البنائية والمكانية. لذلك يبيح المعمار للخطوط أن تترنّح في مساراتها، لتتولّد عنها إيقاعات وتوتّرات جمالية، تزداد ألقا كلما أوغل المعمار في الحداثة وما بعدها.
الضوء والعتمة
ويقدم الناقد والأديب أحمد لطف الله قراءته لأعمال عميروش الجديدة على النحو التالي: من الواضح جدا أن العنصر البلاستيكي المهيمن في هذه التوليفة الفنية الأخيرة للفنان بنيونس عميروش، هو عنصر الخط. إنه يصرّ على الظهور، حازما، عاقدا عزمَه على أن يلفت النظر أكثر من العناصر الأخرى المجاورة في فضاء اللوحة، كالشكل واللون والمادة. ولعل من البدهي، التذكير في هذا المقام، بأن الخط يبني كل شيء، لا شيء يمكنه التجلي في هذا الكون بدون أن يخضع لسلطة تمثيل الخط، سواء كانت تلك السلطة رمزية أو مكانية. الخط هو الحد الذي يتحكم في دنوّ الجسد من العالم. فالجسد، من حيث العلاقة الشكلية بالعالم، ليس سوى وعاء خطي، يتألف من خطوط مستقيمة ومنحنية، ممتدة ومعقّدة، تتماسّ مع الكون. خطوط مركزها النقطة، التي هي النواة الجينية للخط وللإنسان في الآن نفسه. كما أن الخط في مبتدأ الفكر التشكيلي، يُعدّ أساسا مفاهيميا وجماليا للفن.
يشرع الفنان بنيونس عميروش في التعامل مع خامته، بحضور فكرة سيادة الخط. فيرسم فسحات فاتحة مضيئة ومشرقة أحيانا، وأخرى قاتمة معتمة حينا آخر. كما تنحصر ملونة معظم هذه الأعمال الفنية الموغلة في التعبيرية، بين الأزرق والبني الترابي. لهذا تتجه رؤيتنا منذ البدء نحو التقاط ذلك الإحساس المهيب بالفضاء. كون معلق بين زرقة السماء وأديم الأرض. ومن أعلى السماء، تغزو الفضاء في بعض الأعمال، كتل لونية فصيحة، ترمز لهوية بعض الأمكنة المقدسة. الأرض هنا دعامة الأشياء، وقاعدتها الأفقية. لا يمكن للعين أن ترتاح، إلا إذا نظرت لمنجزات الفن موضوعة على تلك القاعدة. في هذه الأعمال الفنية، يخضع الخط حسب طبيعته المكانية، لمسلّمات الهندسة الإقليدية، ولمقتضيات المساحة. ويبدو للوهلة الأولى رديفا للحقيقة، التي هي المعمار، لكننا ونحن نتلمس كيف تقترح علينا اللوحات فكرة العمق، التي تطورت بتطور المنظور، فإننا نلاحظ أن الخط أصبح قادرا على نقل الحقيقة من مساحة الواقع نحو فسحات المجاز، ولأن غاية الفن هي الجمال، تلتبس الحقيقة بالمجاز في هذه الأعمال، التي اشتغلت على ذاكرة فضاءات مدينية مشبعة بعبق التراث وغلالة التاريخ.
الخطوط في هذه الأعمال ترجمة صادقة لنبضات وأنفاس الفنان، لأن رسم الخط هو في الآن نفسه حصار للفراغ، وإحاطة بالعدم. وفي بعض الأحيان، قد يرسم الفنان الفراغات، وهو بصدد وضع الخطوط التي تتحول إلى حدود وفواصل أيضا، سواء كانت ممتدة ومسترسلة، أو متقطعة متذبذبة. الفن مرتع الخط، في الرسم وفي الرقص، كما في الموسيقى والشعر. أما في المعمار فالخط هو القوة البنائية والمكانية. لذلك يبيح المعمار للخطوط أن تترنّح في مساراتها، لتتولّد عنها إيقاعات وتوتّرات جمالية، تزداد ألقا كلما أوغل المعمار في الحداثة وما بعدها.
هكذا عندما يعي الفنان أصول وجذور وعيه الجمالي، فإنه يرغب ويعمل جاهدا في خلق قفزة نوعية في مشروعه الفني، تكون منبعا لخلق جديد. ففي هذه اللبنة المضافة في المشروع التشكيلي للفنان بنيونس عميروش، لا تنحصر وظيفة الخط في تحديد الاتجاه، وإحداث الزوايا والتباينات، بل يعمل الخط على خلق الشعور بالحركة والإحساس بالمسافة، فالحركة هي التي تقود المجرى البصري على السطح المرئي للوحة. فالخطوط الرأسية طافحة بالقوة والصلابة، توحي بالعظمة والوقار. وهي في التقائها بالخطوط الأفقية تساهم في خلق التوازن المطلوب في التركيب، الذي أضحى منفتحا، يحيل على معاني الشساعة، ويبعد عن النفس أحاسيس الرتابة والضيق. كما تساعد الخطوط على الإحساس بالحركة واتجاهاتها، وتغدو الفضاءات أكثر دينامية، وكأن الخطوط بذلك الشكل تذكرنا بالأسلوب المستقبلي في الفن، رغم أن الفنان أنتج في هذه الأعمال، ملامح المدن الأليفة، التي نُدمن تاريخها وحضارتها، خطوطا وأشكالا وضوءا.
