روبرت ستون في «باب العمود»

حين يكون كاتب السيرة صديقاً شخصياً لصاحب السيرة، وحين يكون الإثنان على صلة وثيقة بمادّة اشتغال الشخصية، الفنون أو السياسة أو الرياضة مثلاً؛ فإنّ الحصيلة تكتسب مزيجاً ناجحاً، وجديراً بالتمحيص مع ذلك، من مصداقية التوثيق وريبة التورّط العاطفي. هذه، في يقيني، حال الروائي الأمريكي روبرت ستون (1937 ــ 2015) مع صديقه ماديسون سمارت بيل الذي […]

روبرت ستون في «باب العمود»

[wpcc-script type=”90c6f2463f5a689a1658bc67-text/javascript”]

حين يكون كاتب السيرة صديقاً شخصياً لصاحب السيرة، وحين يكون الإثنان على صلة وثيقة بمادّة اشتغال الشخصية، الفنون أو السياسة أو الرياضة مثلاً؛ فإنّ الحصيلة تكتسب مزيجاً ناجحاً، وجديراً بالتمحيص مع ذلك، من مصداقية التوثيق وريبة التورّط العاطفي. هذه، في يقيني، حال الروائي الأمريكي روبرت ستون (1937 ــ 2015) مع صديقه ماديسون سمارت بيل الذي صدر قبل أيام كتابه «ابن الضياء: سيرة روبرت ستون»، منشورات دبلداي في نيويورك؛ وهي، استطراداً وعلى سبيل الإنصاف، حال لا تخلو من محاسن عديدة، في طليعتها ما يختزنه الصديق عن صديقه من تجارب مختلفة الأزمنة والأمكنة عاشها الاثنان معاً. طريف، إلى هذا، أنّ بيل يعنون فصول كتابه، وهي ثمانية، طبقاً لعناوين روايات ستون الأشهر؛ وفي عدادها «جنود الكلب»، الرواية التي نالت في سنة 1975 جائزة الكتاب الوطنية الأرفع في الولايات المتحدة.
طفولة ستون كانت شقية طافحة بالبؤس، و«ديكنزية» كما يفضّل القول نسبة إلى أطفال الروائي البريطاني: لم يلتق بأبيه، ولم يعرف إنْ كان أمريكياً أم يونانياً أم يهودياً أم لبنانياً كما ظلّت الأمّ تزعم، خلال السنوات الأولى من تربية تعيسة أسفرت عن نقل الصبي إلى دار أيتام كاثوليكية، وانتهت به بعدئذ إلى الصعلكة وحياة الشوارع والعربدة والمخدرات. وهذا الذي قبض 1500 دولار مكافأة عن روايته الأولى، «قاعة من المرايا»، 1967؛ وقّع عقوداً بملايين الدولارات عن رواياته الأخيرة، التي تحوّل بعضها إلى أفلام ذائعة الصيت (مثل «مَن سيوقف المطر»، 1973، المستمدّ من روايته «جنود الكلب»). كلّ هذه الملابسات لم تعقْ احتلاله موقعاً متقدماً في الرواية الأمريكية خلال ستينيات القرن الماضي، خاصة في إطار ما تنامى من جماليات احتجاج وتمرّد على خلفية حرب فييتنام وصعود جيل الـ«بيت» وظهور روايت كين كيسي وجاك كيرواك وأشعار ألن غنسبرغ…

سيرة ستون تعيد تذكيرنا بتقاليد روائية قرأت السياسة جيداً دون أن تتنازل عن حقوق الفنّ، ولهذا فإنّ نماذجها تُستعاد مراراً وتكراراً، على ضوء وقائع زمانية ومكانية فعلية تعيد تظهير خلاصات المخيلة ومغامرات السرد

وكان ستون نموذجاً بالغ التميّز في المشهد الروائي الأمريكي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، إذْ أفلح كثيراً في تطوير أسلوبية خاصة صالحتْ، على نحو بارع ومتكامل، بين التشويق البوليسي، على طريقة جون لوكاريه؛ والتأمّل الوجودي العميق، كما يتجلى عند هرمان ملفيل؛ والاختراقات الشعورية المذهلة في عبثية الزمن الإنساني، على هدي صمويل بيكيت. وكان سارداً رفيع المراس، شديد الحساسية إزاء مصائر الفنّ الروائي في زمننا هذا، عصر التلفزة والفيديو والإنترنت ومسلسلات نتفلكس وأوبرا الصابون وقصص الخيال العلمي والرسوم المصوّرة. وهكذا، تناول ستون هموم البشر السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، في أماكن مثل سايغون وهوليود وسانتياغو وهافانا، وحيثما أُتيح لمزيجه الأسلوبي أن يبني حبكة موفقة اعتماداً على سلسلة وقائع حقيقية.
مثالي الأبرز على هذه الأسلوبية رواية ستون «باب دمشق»، 1998، التي تذهب بالقارىء إلى مدينة القدس المحتلة، وتتوغّل عميقاً في باطنها البشري والديني والرمزي المعقد؛ حيث يرسم ستون حبكة عالية الترابط، اعتماداً على مؤامرة إرهابية يحيكها، ويشرع في تنفيذها، يهود متشددون يؤمنون أنّ نسف مسجد عمر كفيل بتحقيق جملة أهداف كبرى: إشعال حرب دينية يهودية ــ إسلامية، توازيها حرب إسرائيلية ــ فلسطينية، تمنح القيادة الإسرائيلية فرصة ذهبية لسحق الفلسطينيين وطردهم نهائياً من «إسرائيل الكبرى». المآل التالي هو استقطاب اليهود أنصاف المتدينين إلى صفّ التشدد، وتوفير الفرصة لإعادة بناء الهيكل، وبالتالي استمالة ملايين الأمريكيين المسيحيين المؤمنين بأن «المجيء الثاني» للمخلّص لن يتحقق إلا إذا قامت ــ ثم بعدئذ بادت! ــ أورشليم الجديدة الثانية.
فلندعْ جانباً التفاصيل البوليسية في الرواية (تتدخل المخابرات الإسرائيلية، الـ«شين بيت»، في الدقيقة القاتلة لإحباط المخطط، لأنها كانت قد اخترقت الخلية الإرهابية منذ طور مبكّر)؛ وكذلك التأمّل الفلسفي الذي ينساق إليه ستون، حين يردّ جذور المؤامرة إلى عقائد صوفية يهودية قديمة؛ والتأمّل الوجودي الديني والإثني والثقافي، الذي يدفع الروائي إلى وضع معظم أبطاله في موقع وسيط (البطل نصف يهودي ــ نصف كاثوليكي، والبطلة يهودية أمريكية سوداء، وثمة جنسيات أوروبية متنوعة، وأمزجة متباينة، وسلوكيات راقية وأخرى وضيعة). المثير في الرواية تلك الإيحاءات المدهشة التي كانت تقود خيوط الحبكة إلى واقع الحال في المجتمع الاسرائيلي آنذاك: ما بعد اغتيال إسحق رابين، أيام صعود بنيامين نتنياهو والائتلاف الليكودي القومي ــ الديني، نفق القدس والنقاش اللاهوتي حول باطن الأرض قبل سطحها…
والصحافي الأمريكي الشاب كريستوفر لوكاس، بطل الرواية والنموذج القياسي للبراءة الأمريكية الشهيرة، يعشق زيارة «باب العمود»، وتشدّه إيحاءات «طريق دمشق» بوصفه درب النور الذي سلكه شاول الطرسوسي (اليهودي الفريسي الذي أذاق المسيحيين صنوف العذاب، قبل أن يؤمن ويصبح، بتزكية من برنابا الحواريّ، بولس الرسول وحامل المسيحية إلى أوروبا). لكنّ لوكاس يغادر القدس وهو يدرك أن باطن هذه المدينة أشدّ تعقيداً من أن يحتمل رواية واحدة للحدث الواحد ذاته، وأن مشروعه لكتابة تحقيق عن العنف والأصولية الدينية لن يفلح البتة في الهرب من التنميطات المعتادة.
يبقى أنّ سيرة ستون تعيد تذكيرنا بتقاليد روائية قرأت السياسة جيداً دون أن تتنازل عن حقوق الفنّ، ولهذا فإنّ نماذجها تُستعاد مراراً وتكراراً، على ضوء وقائع زمانية ومكانية فعلية تعيد تظهير خلاصات المخيلة ومغامرات السرد.

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *