صرخة أنثى
ذة. لطيفة أسير
هوية بريس – الأربعاء 21 يناير 2015
ينْتابني أحيانا شعور بالشفقة على الأنثى وأنا أقرأ لأولئك الذين يُنَظِّرون لحياتها بعيداً عن الإطار الإنساني الإسلامي الذي ارتضاه الله لها. تكاد تقتنع بلا أدنى مُواربة أنهم يتحدثون عن كائنٍ فاقدٍ للأهلية، ضعيف لا حول له ولا قوة، كائن أصم أبكم معزول عن العالم يُساق ولا يحق له أن يتلمّس معابر النور بعيداً عن توجيهاتهم.
لا أحبّ ذاك الخطاب المتشدد الذي يُمعن في عزل المرأة فيحجبُ عنها كل منافذ الحياة ويُلْزمها الانزواء في بيتٍ لا تبْرحه حتى الممات. خطاب دأَبَ بعض فقهائنا على الترويج له حتى عدّوا المرأة تلك «الحُرمة» التي يحرُم عليها ممارسة الحياة بعيدا عن ظلّ رجل يقومّ اعوجاجها. خطاب ظلم المرأة حتى جعلها تشكك في إنسانيتها وكفاءتها ككائن حيّ موكولٍ بخلافة الأرض بمعيّة الرجل.
كما لا يشدني ذاك الخطاب المتحرر الذي يحث المرأة على التمرد على أنوثتها ومسابقة الرجل في كل الميادين. خطابٌ روّجت له تلك الجمعيات الحقوقية التي باتت تنبت كالفطر في كل مكان، حاملةً رسالة ظاهرها الإصلاح وباطنها زرع الفتنة في صفوف النساء للانسلاخ التام عن كل القيود حتى الشرعية الثابتة في أصول الدين.
وأحتقر ذاك الخطاب الذي لا يرى في المرأة إلا الجسد والمتعة، فيجعلها سلعة رخيصة تباع وتشترى وأداة محضة للغواية والإغراء، خطابٌ امتطى صهوته ذئاب بشرية ألغتْ من قاموسها كل قيم الحياء والمروءة، وامتهنت بسياستها البغيضة هذا الكائن الجميل، فاختزلته في جسدٍ يحقق المتعة ويدرّ الأرباح الطائلة، بل ويُغير بخبث السياسات العامة لكثير من الدول.
لكن يأسرني ذاك الخطاب الإنساني العقلاني الذي ينظر للمرأة على أنها عنصر فعّال في البناء الإنساني، كائنٌ متكامل بحكم الخِلقة الإلهية -وإن كان فيه نقصٌ البعض فهو بمقتضى الجِبِلّة ودليل على الجمال والإعجاز الرباني-. خطابٌ تستشف منه الرأفة لا القسوة، والفخر لا الازدراء، والعقلانية لا السذاجة.
يقول الأديب علي القرني مخاطبا المرأة الصالحة: «أنت الطهر، وأنت الفضيلة، وأنت السُّمُوُّ، والطهر لا يقتدي بالرِّجس والمهين، والفضيلة لا تقتدي بالرذيلة، والسمو لا يقتدي بالسُّفْل». نصيحة جميلة في ثوب أنيق بعيدٍ عن الابتذال، سامق المعاني من روح أيقنت كُنه المرأة فأنزلتها منزلها المُبارك.
هي «أنثى الإنسان» من الناحية الوجودية كما قال فريد الأنصاري رحمه الله، عزيزةٌ نفسا وصورة، لها أن تحرص على كل ما يرقى بفكرها وشكلها في حدود الضوابط الشرعية، « فليس الإسلام أن تبتذل المؤمنة في مظهرها حتى تبدو كالعجوز التي لا يناسبها ثوب البتة، أو كما قال أهل المرقعات من جُهال العبّاد أو الصعاليك! فتخرج على الناس في مزق من الأثواب، بادية التجاعيد والانكماشات! إن الفتاة المؤمنة لا يريد الإسلام أن يكون منظرها بشعا، ولا منفرا، بل يجب أن يكون محترما، يوحي بالجِدّ ويفرض على الناظرين الإجلال لها، والتقدير والتوقير. وإنما يحرم عليها أن يكون لباسها إغواءً أو إغراءً».
و«لو كانتْ المرأةُ مجردَ لحم ملفوف في ملابس منمّقة، لتركناها وذهبنا لأقرب جزّار من حيّنا، ولعرّجنا بعدَ ذلك على أصحاب المحلاّت الفاخرة لنلفّ ذلك اللّحم البقَري في فُستان يسرّ الأعين الجائعة التي تنتظر مرور النّساء بشوق آثم.. ولكن المرأة مخلوق أكبر من ذلك بكثير، فهي روح عُلوية لا يدرك كنهها إلا من كان يأوي إلى ركن شديد، ولم تتدنّس فطرته بخبائث الغرب الذي جعلَ من المرأة عورةً تمشي على الأرض» كما قال الأديب المغربي ربيع السملالي.
فهذا النوع من الخطابات الذي «اعتدلتْ مبانيه، وعذبت معانيه، واستسلس على ألسنة ناطقيه، ولم يستأذن على آذان سامعيه» -كما قال سيبويه- يقع في نفسي موقعا حميداً، لإحساسي بنضج صاحبه عقديا ومنطقيا. ولملامسته واقع الحال بعيدا عن أي تنطّع وازدراء.
أخي الرجل:
إنني كأنثى مسلمة أعترفُ لك بأني لا أشعر بأدنى نقصٍ، بل أفتخر بأنوثتي التي ارتضاها الله لي، وأسعدُ حين أقرأ في مصادر تشريعي الأصلية ذاك الفخر العظيم الذي تحدث به ربّي عني، وذاك الاهتمام الراقي الذي جسدته سيرة حبيبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة زوجة وأما وبنتاً وفرداً مهماً من أفراد هذه الأمة.
سَاوَى بيننا ربّنا في الخطاب التكليفي، كما في الحقوق المدنية والحقوق العامة ولو كانت لك ميزة غير ما تفضل به ربي عليك، لَمَا جعل ثواب عملنا واحدا، ألم تسمع قول الله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً» (النحل:97). فلستُ بحاجة منك لترخيصٍ ولا تفويضٍ لأتنفّس عبير الحياة وأمارسها قياما بواجب التكليف، مادام رب العزة أعطانِيه مِنَّةً مِنْهُ و تفضًّلا.
واقرأ إن شئتَ قول الحق سبحانه: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا» (الأحزاب:35).
ألا تُبصر معي ذاك العدل الرباني في أبهى صوره آية كما قال إسماعيل الكبسي: «تجمع بين الرجل والمرأة في مشكاةٍ واحدة، وفي مقامٍ رفيع، وتشع بحقيقةٍ هامة، هي أن الرجل والمرأة في المجتمع المسلم، ركنان أساسيان لسلامة البناء، وخليتان متحدتان لبناء الجسد السليم، ووجهان متقابلان لشخصيةٍ متميزة، هي شخصية الأمة المسلمة… فلا تستقيم حياة الأمة إلا بانطلاق الاثنين على الطريق، ولا عذر لرجلٍ ولا لمرأةٍ عن التخلف عن مهمة الفريق، فكلاهما عضوٌ فعالٌ في نيل الفوز والتوفيق… وكلاهما عند الله موعودان بأجرهما فلا حائل بين كل عبدٍ وربه، ولا وساطة بين الله وبين عبدٍ مخلصٍ في حبه؟!».
حُرِّيتي ملَّكني إياها ربّي حين خلقني من بطن أمي كذلك، والفاروق رضي الله عنه قال: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا» وأنا من الناس. كرامتي محفوظة بهذا الخطاب الرباني «ولقد كرمنا بني آدم» وأنا من بني آدم. فلمَ التناطح لأجلي تناطح الديكة؟!
من حقي أن أتعلم وأن أمارس العمل الذي يوافق قدراتي دون أن أتعدى الحدود التي فرضها ربي علي، فأتجنب السفور والخضوع بالقول، وأتجنب مواطن الفتن كما أوصاني ربي، وأبتعد عن الاختلاط ما استطعت لذلك سبيلا، فإن لم يكن له سبيل فأخلاقي وتحركاتي خير رسول عني، ومن لم تؤدبه النصوص أدبته المرأة بعفتها وجديتها وانضباطها.
أعتز بأمنا أم سلمة تلك المرأة الفطنة التي أكدّت بحكمتها رجاحة عقل المرأة، وأنقذت الصحابة الكرام من غضب الله ورسوله.
وأفتخر بأمنا عائشة معلمة الرجال، التي وردت الآثار بتعظيم قدرها وعلوّ كعبها في العلم والفقه والشعر حتى قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «كنّا إذا أشكل علينا أمر سألنا عائشة»، وقال الأحنف: «سمعت خطب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء إلى يومي هذا فما سمعتُ الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن من فم عائشة».
وكم تنتشي روحي وأنا أقرأ سيرة تلك الأنصارية المجاهدة الشجاعة نسيبة بنت كعب التي أبلت البلاء الحسن في عدة غزوات مع الرسول صلى الله عليه وسلم وكذا في حروب الردة، وقاتلت دفاعا عن نبيها ودينها وأعطت درسا عمليا في كفاءة المرأة وقدرتها على تحمل الصعاب متى دعا الداعي لذلك.
ولم يخلُ تاريخنا الإسلامي فيما بعد من نماذج نسائية مشرقة، أعطت درساً في الأنوثة المستقيمة التي تعيشها ذاتها بكل استقلالية بعيدا عن القيود المصطنعة التي اختلقها الذكور لأسباب ترجع لفهمهم القاصر لهذا الكائن البشري وما خُلق لأجله.
لهذا حين أقرأ مواضيع عن المرأة أكاد أتميز غيظا وأنا أرى تركيزهم على من ساءت منهن، وتفننهم في قذف من انحرفن منهن، غافلين عن النساء المناضلات المربيات المتفوقات في شتى القطاعات. فيكون هذا مدعاة لشعور كل أنثى بالقهر ومحاولة كسر ذاك الطوق الذي يشعرها بالدونية. ولو أنصف الرجل حاله لانكبّ على تحليل واقع أبناء جنسه، بدل التفرغ التام لانتقاد المرأة ومناصبتها العداء في كتاباته وواقع حياته.
وقد أنصف عبد الله الجعيثين حين قال: «حيث أردتُ تأليف كتاب (قالوا في المرأة) وجدتُ أمامي أقوالاً لا تُعَدُّ ولا تحصى قالها الرجال في النساء وأكثرها أقوال تنتقد المرأة وتسخر منها أو تبين مثالبها أو تتخذ موقف العداء منها… وحين أردت تأليف كتاب مقابل بعنوان (قالوا في الرجل) لم أجد من الأقوال التي تستحق التدوين، إلا القليل، بل أقل القليل، وكنت أريد أقوالاً للمرأة في الرجل تنتقده كما انتقدها وتشرح حالته النفسية كما شرحها ولكن يبدو أن المرأة أقوى من الرجل في هذه الناحية، فقد تركت له الأقوال وقامت بالأعمال!.. لقد تركته يهذي ويصرخ ويسب ويهجو بينما هي تعمل وتنال ما تريد وتتركه مقهوراً ينفس عن قهره بالأقوال والسخرية والهجاء!..».
صرختي هذه ليست دعوة للتحرر ولا للتحلل مما فرضه شرعنا، ولكنها دعوة للإنصاف في معالجة قضايا المرأة، دعوة للتروي قبل إصدار أحكام الإدانة ضدها، دعوة للجرأة في معالجة هذا التفسخ الذي آلت إليه وضعيتها اليوم بعيدا عن أي مزايدات أو انفعالات عاطفية.
للمرأة نصيب في هذا التردّي -هذا أكيد-، ولكن للرجل أيضا دور كبير لتخاذله عن أداء دوره الريادي، لتقاعسه عن القوامة التي فضله الله بها، لاستمتاعه بهذا التفسخ وتشجيعه له ردحاً من الزمن.
صرختي أيضا لك أختي الأنثى كوني في مستوى المسؤولية الربانية واقطعي دابر كل فتنة أنت سبب لها، وأقبلي على تنمية فكرك وتمتين علاقتك بمن برأك فهو الملاذ الآمن، والموئل الصادق لكِ في هذه الحياة.
أختاهُ، أختاهُ، يا خـنسـاء أُمّتنا***لا تُصـبحي سـلعةً للبائـع الشّـاري
قفي على قمَّةِ الإسلامِ شامخةً***مرْفوعةَ الرَّأسِ في عزْمٍ وإصْرارِ
الشاعر: عبد الرحمان العشماوي.