فيروسات صديقة…
[wpcc-script type=”9aaeda241f590b3db306b934-text/javascript”]

اعتدنا في الحروب التقليدية أن نسمع بين حين وآخر عن مصابين أو قتلى أو عن إسقاط طائرة بنيران صديقة، ولكنه أمرٌ نادر الحدوث.
ولكن من غرائب الحرب التي تخوضها البشرية في هذه الأيام هو أن معظم ضحاياها يسقطون بسبب فيروسات صديقة.
أكثر المرشحين لنقل الفيروس ثم المرض فالموت هم أقرب الناس إليك، أبناء أسرتك الذين كانوا في عملٍ أو سفرٍ وعادوا إلى البيت مشتاقين إليك، ابنك أو ابنتك، زوجتك، زوجك، والدك، أو حفيدك الذي يهرول إليك لتعانقه.
صديقك الذي اعتاد على مصافحتك كلما التقيتما، تحتسيان القهوة معاً، وفجأة يُهديك عَطسة أو سُعلة، ثم يلتفت بمَعطسِه جانباً، بتأخير جزء من الثانية، علماً أن العطسة يا صديقي، ترسل نذيراً قبل انطلاقها وبالإمكان احتواء ضربتها وضررها.
قد ينقل المرض حبيبٌ، أو عشيقٌ معلنٌ أو مستورٌ، أو رفيق طريق في وسيلة نقل ما.
موزّع الجريدة الصباحية الذي يلقيها أمام الباب دون أن تراه، تمسك بالصحيفة لتقرأ أخبار الحرب العالمية وضحاياها على كل الجبهات، بينما العدو رابض لك على الصفحة الأولى.
إنه جاهز ومتأهب، وها هو ينتظر بفارغ صبر أن ترفع يدك وتلامس طرف أَنمُلتِك لتبلّها من ريقك وتقلب الصفحة، ها قد قلبت الصفحة، ولكن ربما انقلبت صفحتك أنت الآخر، إنها فرصته إلى لسانك وفمك ثم حلقك، لا تتخيل الفرحة التي يعيشها الفيروس مع صحف الصباح.
قد ينقله سائح كنت دليله، شرحت له عن عرس قانا الجليل حيث حوّل السيد المسيح الماء إلى نبيذ ليُفرحَ المحتفلين، ويبيّض وجه صاحب الفرح، العدوّ رابض في كف السائح اللطيف، وينتظر منكما المصافحة، لقد كنت لطيفاً يا سيدي… وأنت كذلك! والفيروس فرحٌ بكما.
ليس للغرباء سبيلٌ إليك، فأنت لن تجالسهم ولن تختلط بهم، وإذا اقتربتَ! فبحذر شديد، وهم لن يدخلوا مطبخك وغرفة نومك، ولن يشاركوك قهوتك ومَقبِضَ باب حمّامك، ولن يطلبوا منك مفتاح سيارتك لقضاء حاجة، ولن يقبضوا على عجلة القيادة، ولن يلامسوا أسطوانة «القريب منك بعيد» لنجاة الصغيرة، ليصبح البعيد عنك بين أصابعك ثم في عينيك.
القبلات، لن تأتيك من أنصار فريق الخصم في كرة القدم أو كرة السلة وغيرها، بل من الجمهور الذي ترقص وتطرب معه لحظة تسجيل الهدف والنصر.
الفيروسات تنتظر مناسبة مثل فرحة أهالي مخيم جنين، الذين احتفوا بأسيرهم المحرر يوم الثلاثاء الأخير، احتفلوا بالآلاف رقصاً وتصفيقاً وعناقاً، ماذا نسمي هذا! بعد أن صار العالم كله يخشى هكذا تجمعات وملامسات؟ لا نملك الآن سوى أن ندعو الله لكم بالسلامة والنجاة.
العدو ينتظر هناك في المقبرة حيث يشيّع الناس أحد أعزائهم، التعاطف الزائد مع ذوي الفقيد قد يكون فرصة الفيروس الذهبية.
العدو احتل أمكنة العبادة التي تشهد المؤمنين حقاً، والممثلين والمنافقين، لعلّ أبلغ درس في هذه الحرب هو الاضطرار إلى إغلاق دور العبادة، فهل هو تحذير بأن التمثيل فاض عن حدِّه؟
العدو يتربص بقادة المقاومة، بالأطباء والممرضين وعمال النظافة والتعقيم، أولئك هم الفدائيون، يا لحقارة هذا العدو!
في الحروب التقليدية، يكون الضحايا عادة من الجيل الشاب من جنود ومتطوعين، هذه الحرب بدأت بالضعفاء، فمعظم ضحاياها من المسنين، في هذه المرحلة على الأقل. هل أراد الفيروس بهذا أن يقول للمسنين أنتم أساس البلاء؟ أنتم الجيل الذي يتحمل المسؤولية؟ أنتم أفسدتم البيئة والحياة ولوّثتم كل شيء، ولأجل من؟ لأجل أبنائكم وأحفادكم؟ حسناً، انظروا كيف يتخلون عنكم، ويقطعون أجهزة التنفّس عنكم.
من صور هذه الحرب اللعينة، أحد الأطباء يعلن يأسه والدموع في عينيه، ويقول إنه لم يتحمّل مشهد عجوز لم يطلب شيئاً سوى أن يودّع أبناءه وأحفاده من خلال صورة «سكايب»، ولكنهم لم يستجيبوا، تركوه يموت غريباً ووحيداً، لماذا؟ ربما لا يريدون أن يذكروه إلا في صورته الجميلة قبل تدهور حالته، وربما أنه تأنيب ضمير، ربما أنهم هم الذين لم يحذروا ونقلوا له العدو إلى يديه ووجهه ثم إلى حلقه ورئتيه، ولم يستطيعوا الآن النظر إلى عينيه، حتى من خلال الصورة.
أقول أحياناً، إنها مراجعة صغيرة يا عزيزي لما هو أعظم، انظر كيف يتهرّب الصديق من صديقه، والحبيب من حبيبه، وإذا التقيا يبتعدان عن بعضهما، بعدما كانوا يثرثرون بلا توقف، صاروا يتحدثون بالمختصر المفيد أو غير المفيد، الوالد يحاول أن يبتعد عن أبنائه الشباب، تذكّر يا عزيزي «يوم يفرُّ المرءُ من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه». ها هم يفرّون من أعز وأقرب الناس.
حرب صامتة، لا صوت فيها سوى الأنفاس والسُّعال، وأجهزة ضخ الأوكسجين، أين هدير الدبابات والمجنزرات والطائرات؟ أين التباهي بلحظات انطلاق الصواريخ والانفجارات؟ أين صفارات الإنذار؟
اسمعوا يا عباد الله، بثمن طائرة إف 35 واحدة كان ممكناً اقتناء 2500 جهاز تنفس متقدم من أفخر الصناعات السويسرية، يعني بثمن عشر طائرات يمكن إنقاذ عشرات آلاف من البشر، انظروا إلى دولة الاحتلال التي ترهب المنطقة كلها بطائراتها، لا تملك سوى 500 جهاز تنفس سريري! يا سلام، 500 جهاز تنفس فقط؟ نعم، نعم، والزعيم الرافض التنازل عن السلطة يتوعّد الشعب بمليون مصاب بالمرض خلال شهر، إنه في تحالف مع الفيروس، يحاول جعلَه جسراً لإحراج منافسيه وإرغامهم على القبول بحكومة برئاسته.
انتشر شريط لسيدة إيطالية تتحدث بلهجة حزينة ولكنها غاضبة، وجّهت حديثها إلى الأمريكيين والبريطانيين والألمان، قالت إنهم تخلوا عن إيطاليا في محنتها، فلم يزوّدوها حتى بالكمّامات، ثم راحت تذكّرُهم بلهجة جريحة بما قدمت إيطاليا لحضارة الغرب من فنون في الطعام والموسيقى والرسم والنحت والعمارة والمَلْبس والعلوم.
أدمت قلبي هذه السيدة، نعم إيطاليا عظيمة وشعبها جميل، ولكن ألفيتُ نفسي أسألها، ألم يشارك بلدك مع هؤلاء في حروبهم لتخريب حضارات وتاريخ الآخرين؟ انظري العراق وسوريا وليبيا وغيرها من بلداننا يا سيّدتي.
لا تصافحني يا حبيبي، دع القبلات إلى ما بعد اكتشاف المصل، وليكن عشقك أفلاطونياً، ابتعد عنّي خطوتين يا غالي «كي نتذكر لاحقاً أم كلثوم» كنت بشتقلك وانا وانت هنا بيني وبينك خطوتين»، وليكن عشقك انتصاراً للأفلاطونية في هذه الحقبة على الأقل، وأنت أيها الرغيف، سوف أصليك في النار وعلى الوجهين، فأنا لا أعرف الأيدي التي لامستك، أو التي لامست الكيس الذي حملك من الفرن حتى وصولك إلى مائدتي.
