نابلس- من الغرب “عيلي” ومن الجنوب “شيلو” ومن الشرق “شيفوت راحيل” ومن الشمال “إحيا”، هذه المستوطنات الأربع إضافة إلى 7 بؤر استيطانية، تحاصر بلدة قريوت الفلسطينية وتستولي على معظم أراضيها عبر مد استيطاني بدأ أواخر سبعينيات القرن الماضي ولما يتوقف حتى الآن.
كان آخر هذا التوسع بؤرة “معاليه كتيرت” (البؤرة نواة مستوطنة جديدة) التي شيّدها المستوطنون مؤخرا لتكون نقطة ربط بين المستوطنات الضخمة، وتبتلع مزيدا من أراضي القرية الواقعة جنوبي مدينة نابلس (شمال الضفة الغربية).
وفي 30 مارس/آذار الذي تحل فيه الذكرى 46 ليوم الأرض، يرقب بشار القريوتي الناشط ضد الاستيطان منذ 20 عاما، النمو الاستيطاني على أراضي قريته، والذي استهدف حتى الآن 17 ألف دونم (الدونم= ألف متر مربع) من نحو 22 ألف دونم هي كل أراضي القرية.
ولا يسيطر الأهالي فعليا إلا على 366 دونما فقط، هي المخطط الهيكلي للقرية، فبقية الأرض يصنفها الاحتلال مناطق “نفوذ أمني” أو “خطرة”.
ومنذ أقيمت هذه المستوطنات كانت تصادر 14 ألف دونم، وفي السنتين الأخيرتين وصلت إلى 17 ألفا، و”عيلي” التي كانت تسمى بمستوطنة التلال السبعة أصبحت “التلال التسعة”.
ابتلاع وانتقام
لبضع دقائق أقلّنا الناشط القريوتي في مركبته لنفهم حجم الخطر الذي تعيشه قريته التي يسكنها نحو 3 آلاف نسمة، لم يترك الاحتلال لهم منفسا. فحتى طريقها الرئيسي أغلقه منذ 20 عاما، وحوّل السكان إلى طريق فرعي يتكبدون عبره مشقة السفر عشرات الكيلومترات وبتكلفة مضاعفة.
يقول القريوتي الذي اعتقله الاحتلال 6 مرات خلال تصدّيه للمستوطنين، إن أهالي قريوت نظّموا 116 مسيرة شعبية لفتح الطريق، وكان الاحتلال في كل مرة يقمعهم ويزيد إغلاقها بالسواتر الترابية والحجرية.
ويقطن المستوطنات الأربع المحيطة بالقرية نحو 15 ألف مستوطن، وصادق الاحتلال على بناء أكثر من 1120 وحدة استيطانية جديدة فيها هذا العام، بينما أخطر 29 منزلا فلسطينيا بالهدم ووقف البناء.
وليس البناء فقط، فالماء أيضا يمنعه الاحتلال بوضع يده على 3 ينابيع من أصل 5 تعود لقريوت، بينما تحول نبعان منها إلى مسرح اقتحامات متكررة للمستوطنين لأداء طقوس دينية، فضلا عن هجمات ليلية تصاعدت مؤخرا واستهدفت تحطيم مركبات الأهالي وخط شعارات على جدران منازلهم مثل “حتى يأتي يوم الانتقام”.
وتشير الإحصاءات إلى أن معدل النمو السنوي السكاني في المستوطنات المقامة في الضفة الغربية وصل 3.3% خلال 2021، في حين كان 2.6% في 2020، وهو أعلى منه في “إسرائيل” نفسها.
الأرض وما عليها
منذ عام 2011، ازداد عدد المستوطنين بنسبة 43% وبمعدل 3.7% سنويا. وعبر 754 ألف مستوطن ينتشرون في 172 مستعمرة و140 بؤرة استيطانية بالضفة الغربية والقدس، يريد الاحتلال تنفيذ مشروعه الاستيطاني الضخم في 3 مخططات.
يقضي المخطط الأول بضم الجزء الغربي المحاذي للخط الأخضر (يفصل الأراضي المحتلة عام 1967 عن التي صادرتها إسرائيل في النكبة عام 1948)، وضم الجزء الشرقي (الأغوار) على حدود الأردن، وحصر الوجود الفلسطيني في وسط الضفة الغربية وضم القدس كاملة.
ويسعى الاحتلال لتنفيذ ذلك بتقسيم الضفة الغربية لكنتونات كبرى في شمالها ووسطها وجنوبها، مع عزل مدينة أريحا بالكامل مع الأغوار، وفصل كل مدينة عبر كتل استيطانية ضخمة (كأرئيل وشيلو وعيلي شمالا وغوش عتصيون جنوبا)، وتتصل هذه فيما بينها ببؤر استيطانية وشبكات طرق كبيرة.
ثم يقسم المقسَّم عبر أكثر من 200 تجمّع (كانتون) يفصل بينها 750 حاجزا عسكريا لمنع أي تواصل سياسي واقتصادي واجتماعي، وبالتالي منع قيام أي وحدة اقتصادية واجتماعية للفلسطينيين في إطار دولة واحدة.
وتسيطر إسرائيل على 78% من فلسطين التاريخية (احتلتها بشكل منفصل بعد نكبة 1948 وحرب 1967)، بينما تشكّل الضفة الغربية وقطاع غزة 22% من فلسطين التاريخية (غزة 360 كيلومترا مربعا، والضفة نحو 6500 كيلومتر) وتضم القدس وأجزاءً من البحر الميت.
وتشكل المستوطنات الإسرائيلية 9.6% من الضفة، بينما تقدر الطرق الالتفافية الاستيطانية بـ3%، إضافة إلى 3% هي معسكرات لجيش الاحتلال، وتتكون كل مستوطنة من مساحة بناء تشكل ضعف مساحة البناء الأصلية، وتتبع لها منطقة نفوذ محيطة يمنع فيها البناء أو الاستثمار الفلسطيني بأي شكل، وتعتبر احتياطا إستراتيجيا لتوسيع المستوطنة لاحقا.
الماء والديمغرافيا
وحتى العامل الديمغرافي الذي يميل لصالح الفلسطينيين (3 ملايين نسمة بالضفة الغربية)، يُعمَل على تفكيكه عبر المستوطنات وبفصل الضفة عن غزة (نحو مليوني فلسطيني) ومنع قيام وحدة سياسية وجغرافية بينهما، وحصر الفلسطينيين بتجمعات صغيرة، ومنعهم من البناء في المناطق “ج” التي تشكل 62% من مساحة الضفة الغربية.
وتشكل الأغوار الفلسطينية 28% من الضفة، تسيطر إسرائيل على 88% منها عبر تصنفيها “أراضي دولة ومناطق تدريب عسكري ومحميات طبيعية”، وتسعى باستمرار لتهجير سكانها.
كما يقيم الاحتلال معسكرات لجيشه وأكثر من 33 مستوطنة في الأغوار، يقطنها حوالي 12 ألف مستوطن، بينما يبلغ عدد الفلسطينيين في الأغوار أكثر من 75 ألفا.
وتصادر إسرائيل 83% من مياه الفلسطينيين الجوفية بالضفة الغربية، والتي تقدر بحوالي 800 مليون متر مكعب سنويا، ويستهلك المستوطن 6 أضعاف الفلسطيني من الماء، وهو ما يمنع أي تنمية زراعية واقتصادية للفلسطينيين.
لا دولة ولا نصفها
كل ذلك يؤدي -وفق رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان السابق في السلطة الفلسطينية وليد عساف- إلى منع قيام دولة فلسطينية مستقلة، فإسرائيل تريد ضم القدس بالكامل وعزل الضفة عبر كنتونات تطوقها المستوطنات “وتتلاشى معها إمكانية قيام دولة مستقلة لصالح حكم ذاتي لكنتونات متعددة”.
ويقول عساف للجزيرة نت إن فرص قيام دولة فلسطينية وفق ما يعرف بحل الدولتين “تتضاءل لمرحلة العدم، في ظل موازين القوى الحالية”.
ويؤكد أن إسرائيل تريد “دولة يهودية” تخنق من خلالها الفلسطينيين، وتستولي على أكبر مساحة من أراضيهم (خطة الضم وصفقة القرن)، لتجبرهم على الرحيل الطوعي.
وهو ما يؤكده خبير الخرائط والاستيطان خليل التفكجي بقوله إنه وقبل عام 1948 كان الفلسطينيون يملكون 96% من أراضي فلسطين التاريخية، والآن لا تتعدى ملكيتهم 4% بعد أن سيطر اليهود على كل الأراضي.
ويقول التفكجي للجزيرة نت “لم يعد لنا من يوم الأرض إلا اسمه”، وإن ما ينتظر الفلسطينيين ليس دولة ولا حكما ذاتيا ولا أقل من ذلك، “فالدولة غير موجودة، والاحتلال يُسيطر على 60% من الضفة الغربية التي تشهد تصاعدا في الاستيطان”.