إنَّ الثقة موجودة تقريباً في كل جانبٍ من جوانب حياتنا اليومية. فهي ذات أهميةٍ جوهرية في توجيه جميع علاقاتنا مع الآخرين بشكلٍ صحيح، وهي مرتبطةٌ بثروتنا. فقد اكتشف الدكتور “بول ج. زاك” (Paul J Zak) عالم الاقتصاد العصبي في مقالةٍ له في مجلة “سينتيفيك أمريكان” (Scientific American) أنَّ الثقة هي من بين أقوى المؤشرات المعروفة التي تدلنا على حجم الثروة التي يتمتع بها بلدٌ ما. حيث تكون البلدان التي تتمتع بمستوياتٍ منخفضة من الثقة بلداناً فقيرةً على الأرجح. ووفقاً للدكتور “زاك” فإنَّ المجتمعات التي لديها مستوياتٍ منخفضة من الثقة هي مجتمعاتٌ فقيرة لأنَّ سكانها يقومون بالقليل جداً من الاستثمارات طويلة المدى، وهي الاستثمارات التي تقدِّم فرص عمل وتزيد المداخيل. حيث تعتمد مثل هذه الاستثمارات على الأشخاص الذين يثقون ببعضهم من حيث الوفاء بالالتزامات التعاقدية. وفي سعيه لفهم الذي يحدث فيزيائياً داخل عقل الإنسان ويغرس الثقة فيه، اكتشف الدكتور “زاك” أنَّ ثمة هرموناً وناقلاً عصبيَّاً يدعى الأوكسيتوسين (oxytocin) يزيد ميلنا نحو الثقة بالآخرين في غياب الإشارات التي تُشعرنا بالتهديد. في الواقع نحن مجبولون على الثقة ببعضنا البعض ولكن كما يشير الدكتور “زاك” فإنَّ تجاربنا في الحياة قد تؤدي إلى تفاوت مستويات الأوكسيتوسين لدينا وبالتالي اختلاف مستويات الثقة خلال مسيرة هذه الحياة. فعندما ننشأ في بيئةٍ آمنة توفر لنا العناية والرعاية فإنَّ أدمغتنا تطلق مزيداً من الأوكسيتوسين عندما يثق بنا أحدٌ ما وهذا يؤدي إلى أن نبادله تلك الثقة. من جهةٍ أخرى تؤثر تجاربنا السابقة التي شعرنا فيها بالضغط، والشك، والعزلة في تطور الثقة وانخفاض مستويات الأوكسيتوسين.
في مناخنا الحالي الذي يسوده الشك، ليس من المفاجئ أنَّ الدراسات المتتالية أظهرت انخفاضاً في ثقة الأفراد في قادة الأعمال والقادة السياسيين. فقد وجد مؤشر “إديلمان” للثقة للعام 2009 أنَّ اثنين من كل ثلاثة أفراد تقريباً استُطلعت آراءهم في 20 بلداً انخفضت ثقتهم بالشركات في الوقت الحالي مقارنةً بما كانت عليه في العام الماضي. وأظهرت دراسةٌ أجرتها شركة “تويرز بيرين” (Towers Perrin) في العام 2004 أنَّ 44% فقط من الموظفين الصغار (أولئك الذين يكسبون أقل من 50000 دولار سنوياً) يثقون بأنَّ أصحاب العمل سيخبرونهم بالحقيقة. تدق هذه الإحصائية جرس الإنذار لا سيما بالنظر إلى حجم الوقت والجهد المبذولَيْن في تواصل القادة مع الموظفين. وعلى الرغم من أنَّنا نواجه أزمة ثقة ولدينا الكثير من الأمثلة عن القادة الذين تسببوا في تضعضع الثقة لدى زبائنهم، وموظفيهم، وأصحاب المصلحة الخاصين بهم، إلَّا أنَّني أؤمن بشدة بأنَّ غالبية القادة يسلكون طريق الثقة. في الواقع من المثير للرعب بالنسبة إلى العديد من القادة أن يعرفوا أنَّ الآخرين ينظرون إليهم على أنَّهم لا يستحقون الثقة. ولكن يعتمد تمتع الشخص بالثقة في نظر الآخرين على التصورات التي لدى هؤلاء الأشخاص، وقد يتأثر بشدة باهتزاز ثقتهم في العالم من حولهم. في الواقع إنَّ الأشخاص في أيامنا هذه لا يثقون بالقادة بشكلٍ آلي، فالثقة يجب أن تُكتسب من خلال الاجتهاد، والإخلاص، وبذل الجهد.
إذا كان الافتقار إلى الثقة هو من بين القضايا التي تثير القلق لديك، ما الذي يمكنك القيام به للتعامل مع قضايا الثقة؟ إليك هذه النصائح السريعة:
- راقب استخدامك للـ “أنا” في عمليات التواصل التي تقوم بها. على سبيل المثال، دقق رسائلك الإلكترونية وانظر كم مرةً استخدمت “أنا” وكم مرةً استخدمت “نحن”. يقول “بيتر دراكر” (Peter Drucker): “يبدو لي أنَّ القادة الذين يعملون بفعاليةٍ أكثر من غيرهم لا ستخدمون الـ “أنا” أبداً. فهم لا يفكرون بعقلية الـ “أنا” بل بعقلية الـ “نحن”، إنَّهم يفكرون بعقلية “الفريق”. فهم يفهمون أنَّ عملهم هو جعل الفريق يعمل. إنَّهم يقبلون تحمل المسؤولية ولا يتخلون عنها، ولكنَّ عقلية الـ “نحن” هي التي تحظى باهتمامهم. هذا هو الذي يؤسس الثقة ويمَكِّنك من إنجاز المهمة”.
- انظر إلى الوعود التي تقطعها بوصفها ديوناً عليك سدادها.
- استمر بالتفكير في القضايا المهمة. يقول 60% من الأشخاص الذين استُطلعَت آرائهم في استطلاع مؤشر “إدلمان” للثقة أنَّهم يحتاجون إلى سماع رسالة الشركة من ثلاث إلى خمس مرات قبل أن يؤمنوا بها. لقد فهم “لويس كارول” (Lewis Carol) ذلك عندما قال: “الشيء الذي أخبرك به ثلاث مرات هو شيءٌ حقيقي”.
سُمعتك هي بمثابة علامةٍ تجارية. علامتك التجارية هي الشيء الذي ترغب في أن تشتهر به، أَدِر علامتك التجارية بكل اجتهاد مثلما تدير “نايكي” و”فولفو” علاماتهم التجارية فالعلامة التجارية هي الثقة.
- سوِّق نفسك في المنظمة على أنَّك شخصٌ يقول الحقيقة. أشار لي أحد القادة الذين كنت أقوم بالكوتشينغ معهم إلى أنَّه كان يعاني قبل إحدى عمليات الاندماج من مشكلة سؤال الموظفين له عن معلوماتٍ لم يكن من الممكن له البوح بها في ذلك الحين. ما الذي تقوم به في مثل هذه الحالة من أجل الحفاظ على ثقة موظفيك بك والحفاظ في الوقت نفسه على خصوصية المعلومات الحساسة؟ يمكنك أن تصل إلى حلٍّ وسط من خلال مشاركة المعلومات التي يمكنك البوح بها (ثمة عادةً بعض الأشياء التي يمكننا البوح بها) والقول: “هذا كل ما يمكنني أن أقوله لكم الآن”. يحافظ هذا على الثقة، حيث يعلم موظفوك أنَّك لا تكذب عليهم، ويتفهَّمون أنَّه على الرغم من أنَّ لديك مزيداً من المعلومات، إلَّا أنَّ الضرورات الاستراتيجية تمنعك من البوح بها في هذا التوقيت.
- اكسب ثقة زبائنك من خلال التأكيد على مراعاة الجميع لـ “أعمدة الثقة الخمسة”:
- الحفاظ على الوعود.
- الرغبة في المساعدة.
- معاملة الزبائن كأفراد.
- جعل تعامل الزبائن معك أمراً سهلاً.
- ضمان تقديم جميع الجوانب المادية لمنتجك أو للخدمة التي تقدمها لانطباعٍ إيجابي.
- على الرغم من صعوبة ذلك، لا تحاول ممارسة القيادة من خلال البريد الإلكتروني. انهض من مقعدك بشكلٍ دائم، وخصص وقتاً لمقابلة الموظفين. فكلما زاد الوقت الذي تقضيه مع الموظفين كلما زاد مستوى الثقة. وإذا كنت تقود فريقاً افتراضياً ارفع سماعة هاتفك بين الحين والآخر.
- هل تتحكم بمزاجك أم أنَّ الأشخاص يشعرون بأنَّك شخصٌ لطيف في هذا اليوم وعدوانيٌّ في اليوم الذي يليه؟ إنَّ قدرة الناس على التنبؤ بمزاجك تعزز ثقتهم بك.
- هل تخبر جميع الأشخاص بالقصص المتعلقة بالشركة نفسها أم أنَّ القصص التي ترويها تتنوع بالاعتماد إلى الشخص الذ تتحدث إليه؟ من السهل التأثُّر بما يجري معك في لحظةٍ معينة وتقديم حقائق مبالغٍ فيها. وعلى الرغم من أنَّ نواياك قد لا تكون شريرة، إلَّا أنَّ هذه الزلَّات البسيطة تؤثر في الثقة لأنَّ الأشخاص لا يحكمون علينا من خلال نوايانا.
- هل تجعل الأشخاص يشعرون بالأمان؟ إنَّ الخوف والثقة هما شعوران متناقضان. ففي العديد من الحالات سيصاب العديد من القادة بالصدمة إذا ما وجدوا أنَّ الناس يخشونهم. وبوصفك قائداً فإنَّك تتمتع بالكثير من السلطات: سلطة التوظيف، والطرد، والترقية، وتخفيض الرتب، وسلطة تخصيص المهام والتراجع عنها، وسلطة إبداء التقدير أو الامتناع عن ذلك. وفي ظل البطالة والإخفاق الاقتصادي، فإنَّ مخاوف الأشخاص يمكن أن تتعاظم. يشعر القائد المتعاطف بذلك، ويكرس وقته وجهده لجعل الأشخاص يشعرون بالأمان. حيث يتضمن التعاطف مع الآخرين فهم القلق الذي يشعرون به وبذل جهود حقيقية لتخفيفه.
تبذل المنظمات عادةً قدراً كبيراً من الطاقة والجهد في مبادرات بناء الفريق، بما في ذلك ورشات العمل والتجارب المليئة بالمغامرات. على الرغم من أنَّ لجميع الأشياء التي ذُكرت دوراً مهماً، إلَّا أنَّه إذا رغبت المنظمات في زيادة التعاون وتحسين العمل بروح الفريق فإنَّها تحتاج إلى البدء بالثقة. فالثقة هي المعيار الذي تقاس على أساسه مدى صحة علاقات الفريق، إنَّها عمليةٌ بسيطةٌ للغاية فكل ما تهتم به هو سلوك الأفراد. هل يتصرف الأفراد بأسلوبٍ جديرٍ بالثقة أم لا؟ فليس ثمة إلَّا خيارين هنا، إما النجاح أو الإخفاق.
ما هي هذه السلوكات؟ جميعنا نعرفها بشكلٍ غريزي، ولكنَّنا في حاجةٍ أحياناً إلى تذكير أنفسنا بها. اسأل نفسك:
- هل أنا أشارك المعلومات التي أعلم أنَّها مفيدةٌ للآخرين أم أنَّني أحجبها عنهم؟
- هل أعامل الجميع بلطفٍ وعطف؟
- هل أحاول أن أتصرف بشكلٍ جيدٍ في تعاملاتي مع الآخرين؟
- هل أفي بالتزاماتي حتى ولو كان ذلك سيؤثر عليَّ بشكلٍ كبير؟
- هل أغتنم الفرص لتشجيع الآخرين؟
- هل أسعى دوماً إلى تقديم عملٍ رائع؟
- هل “الصراحة” من بين الصفات التي يشير الناس بسرعةٍ إلى أنَّني أتمتع بها؟
الثقة قوة، إنَّها قوة الإلهام والتأثير. إنَّها الصمغ الذي يربطنا ببعضنا ويقوي علاقاتنا ويحول خيوط العلاقات إلى حبالٍ فولاذية. ومثل ما أنَّ الأطفال ذوي الثلاث سنوات يثقون بأنَّه سيكون ثمة قطعة حلوى ثانية هل يمكن لموظفيك الوثوق بأنَّ كلمتك هي التي “تربطك”؟ القيادة عملٌ صعب، وكما يقول “جورج واشنطن”: “لا يمكنني أن أعد بأي شيءٍ سوى صفاء النوايا وأن أكون صادقاً ومجتهداً”.
المصدر: هنا