القدس المحتلة- أطفال يرددون التكبيرات عبر سماعة يدوية، ويجوبون المسجد الأقصى في مسيرة عفوية، ويردد المصلون وراءهم، لتتلاقى أصواتهم مع تكبيرات بعض الرجال على المصطبة المقابلة للمصلى القبلي. ثم توشك الشمس على المغيب، فتمد موائد الإفطار في الساحات، ويبدأ بعضهم بتوزيع الوجبات على الصائمين في أطراف المسجد، ثم تبدأ استراحة سريعة، وبعدها يتم استئناف الصلاة وحلقات الذكر الفردية والجماعية، وحين تنتهي صلاة العشاء، وتغلق أبواب المسجد، تبدأ حكاية أخرى.
هكذا تبدو أجواء الأقصى منذ الأول من ذي الحجة، حيث توافد الفلسطينيون إليه من القدس والداخل الفلسطيني والضفة الغربية، لإحياء العشر الأوائل من الشهر، وتتويجها بيوم عرفة، طلبا لبركة الزمان والمكان، ومنهم من جاء محرما ليصلي في الأقصى قبيل انطلاقه لأداء مناسك الحج، فيما يعرف بتقديس الحجة.
اعتكاف للمرة الأولى
اللافت هذه المرة، كان الاعتكاف الليلي في المسجد الأقصى، حيث اعتكف نحو 60 فلسطينيا من العشاء حتى الفجر، في سابقة خلال ذي الحجة، حيث اعتاد المصلون الاعتكاف ليلا في المسجد الأقصى خلال العشر الأواخر من رمضان فقط، لكن نجاح الاعتكاف منتصف رمضان الماضي، شجع المصلين على تكرار التجربة، وعدم حصر الاعتكاف على فترة زمنية معينة.
وقد بدأ الأمر بدعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ثم إلصاق أوراق في المسجد تؤكد انطلاق الاعتكاف، ويقول أحد المعتكفين -فضل عدم نشر اسمه- إن الليلة الأولى كانت صعبة بسبب قلة أعداد الرجال، وكانت شرطة الاحتلال تراقب عن كثب، لكنها تراجعت حين رأت توافد 70 امرأة وإصرارهن على الاعتكاف، ويضيف “الفضل الكبير بعد الله يعود للنساء وشجاعتهن ونفسهن الطويل”.
ويتابع “تغلق أبواب المصلى القبلي علينا أحيانا، ونجد صعوبة في الوصول إلى الحمامات، لكن الاعتكاف تواصل طوال العشر الأوائل”، مؤكدا أن أعداد المعتكفين هي الفيصل، مستذكرا فرض الاعتكاف في رمضان الماضي؛ صدا لدعوات المستوطنين ذبح قرابين عيد الفصح العبري في الأقصى.
“رب همة أحيت أمة”
بعد الإفطار، يُعِد محمد السعدي -من قرية البعينة في الداخل المحتل- المشروبات الساخنة للمصلين في محيط المصلى القبلي، مستعيدا ذكرياته خلال الاعتكاف الرمضاني، حيث نصب خيمة في ساحات المسجد، واعتكف 15 يوما متواصلة.
“فتح باب الاعتكاف إلى قيام الساعة، الآحاد هم الأبدال، رب همة أحيت أمة”، يكرر السعدي للجزيرة نت مقولاته الشهيرة على حسابه الشخصي في فيسبوك الذي وثق فيه كافة تفاصيل اعتكاف العشر الأوائل من ذي الحجة والأواخر من رمضان، ويضيف “كانت أعدادنا في ذي الحجة ستكون أكثر لولا إبعاد الاحتلال للكثيرين عن الأقصى، لكن نسأل الله أن نكون من الفئة الظاهرة الذين لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم”.
ويوثق السعدي الملقب بأبي العز -عبر بث مباشر- صلوات القيام داخل المصلى القبلي، فيظهر في البث صف من 30 رجلا يتقدم صفا للنساء من عدد مقارب، ويبدو العدد قليلا للرائي، لكن السعدي يؤكد أن هؤلاء هم “الثلة المحظية”، ويتابع “نتقاسم سحورنا، ولا ينقصنا شيء. المصلون يتبرعون بوجبات الإفطار، وبعضهم يوزع الحلوى التي جلبها من مدينته نابلس، قد لا نعرف أسماء بعضنا، لكننا أكثر من عائلة”.
وفوق السور الجنوبي للأقصى، اختار السعدي خلوته، فوضع فراشا رقيقا ووسادة، وسجادة صلاة ومصحفا، ليقضي ليله كاملا في مشهد خاشع بديع، تبدو خلاله أضواء المدينة الخافتة، ومعالم المسجد العتيقة، في مشهد يذكر بمواقع حراس السور قديما وحديثا، الذين باتت أعينهم تحرس المسجد ليلا.
أجواء رمضانية
ولا تستطيع الشابة الفلسطينية يمان عبد الله (32 عاما) الاعتكاف ليلا في الأقصى، لكنها لم تنقطع عن الاعتكاف النهاري منذ بداية العشر الأوائل، حيث تسافر إلى الأقصى كل يوم من مقر عملها في رام الله شمال القدس، بواقع 4 ساعات ذهابا وإيابا، ثم تبقى حتى صلاة العشاء، وتقول للجزيرة نت إنها تعتكف لأول مرة في ذي الحجة، وتشعر بطاقة كبيرة رغم مشقة الصيام والسفر وحواجز وتضييقات الاحتلال في الطريق.
“هذه أيام عظيمة تضاعف فيها الحسنات، كل شيء فيها يذكرني بشهر رمضان، التكبيرات لا تنقطع بين المغرب والعشاء، أجواء تقشعر لها الأبدان، أحرص على نشر صور ومقاطع فيديو للأجواء، وفعلا تشجع أقاربي وأصدقائي وجاء من يستطيع منهم إلى الأقصى”، تقول يمان ذلك وتؤكد أنها ستعتكف يوم عرفة كاملا وتبقى حتى صلاة عيد الأضحى.
قيادة الفعل
ولم يُبدِ الاحتلال قمعا ظاهريا للاعتكاف، لكن معتكفين أكدوا للجزيرة نت أن شرطة الاحتلال اعتقلت بعضهم -بينهم فتيات- في أثناء خروجهم من أبواب الأقصى، وسلمت آخرين استدعاءات تحقيق. وتأتي أهمية الاعتكاف وتوقيته في ظل ما يتعرض له المسجد من اقتحامات متواصلة وتأدية صلوات وطقوس توراتية داخله، واستمرار الحفريات الغامضة في محيط سوره.
ويرى الباحث في دراسات بيت المقدس أنس المصري أن اعتكاف العشر الأوائل من ذي الحجة في الأقصى يمثل حالة من تثبيت الإرادة الجماهيرية والتحول من رد الفعل إلى قيادته. ويوضح للجزيرة نت أن الاعتكافات الماضية كانت ردا على أفعال المستوطنين ودعوات اقتحامهم، لكن الاعتكاف الحالي كان خطوة متقدمة، ومبادرة استباقية.
ويضيف المصري الذي تابع حالات الاعتكاف في رمضان وذي الحجة “رد الفعل مهم ومطلوب، لكن ما حدث الأيام الماضية يؤكد على حب الناس للأقصى وسعيهم الدائم للرباط، في أي فرصة يفتح لهم المجال لذلك، وهذا إنجاز يحتاج إلى الدعم والإسناد، لضمان تكراره. المسجد الأقصى خالص للمسلمين بدون شروط أو عوائق”.