عبد السلام بنعيسي
أكدت التجربة أن الدولة العميقة في المغرب لا تقبل بوجود أحزاب ذات جذور ضاربة وراسخة في الواقع الاجتماعي المغربي، الشرعية الاجتماعية الوحيدة التي ينبغي أن تظل سائدة في البلد هي شرعية الدولة العميقة ذاتها، ويتعين على باقي المؤسسات الدوران في فلكها، وأن تكون تابعة وخاضعة لها، وكل حزب امتلك شرعية اجتماعية، صارت تبدو واضحة ومؤثرة، يتوجب العمل، بمختلف الأساليب، لتجريده منها.
مع الممارسة، تبيّنَ لأجهزة الدولة المغربية العميقة أن اللجوء إلى الضرب، والسجن، والاختطاف، والتعذيب، والحصار قد لا يؤدي، في الكثير من الأحيان، إلى القضاء على أحزابٍ بحضور جماهيري وازن، فلقد عانى الأعضاء المنتمون إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لعقود طويلة في سنوات الرصاص، من القمع والاضطهاد، وكان الحزب، عقب كل حملة قمعية يتعرض لها، يخرج منها قويا ومعافىً، ويحظى بتعاطف شعبي أكثر زخما مما سبق..
ولأن القمع لم يجد نفعا في إضعاف الاتحاد الاشتراكي وتدجينه، وقع اللجوء إلى عملية استدراجه، إلى مجالس بلدية، وقروية، واستشارية، ثم إلى حكومة سميت بحكومة التناوب التوافقي، وشكّل ذلك المدخل الذي أدى، في نهاية المطاف، إلى الإجهاز على الاتحاد، والقضاء المبرم على ذلك الوهج الذي كان يتمتع به لدى الرأي العام المغربي.
وينبغي ألا تغرنا النتيجة التي حصل عليها الاتحاد في الانتخابات الحالية والمتمثلة في 35 مقعدا برلمانيا، والتي تزهو بها قيادته، فهذه نتيجة هزيلة بالنظر إلى تاريخ الاتحاد بالمقارنة مع باقي الأحزاب التي يتنافس معها، كما أن المغاربة يدركون أن هذه النتيجة منفوخ فيها، فالغالبية العظمى من هؤلاء البرلمانيون المنسوبون للاتحاد الاشتراكي، لا تجمعهم به أي صلة عقائدية أو تنظيمية، إنهم من الأعيان وأصحاب الشكارة، والذين مهدت الإدارةُ الطريق للعديد منهم ليحصلوا على مقاعدهم البرلمانية، وإذا صدرت الأوامر لأي أحد منهم بالخروج من الحزب، أو عدم التصويت معه في البرلمان، فإنه لن يتردد في القيام بذلك.
الاتحاد الاشتراكي، كحزب منظم، يدافع عن الاشتراكية العلمية، وعن قيم العدالة الاجتماعية، ويناهض التفاوتات الطبقية والمجالية الصارخة في المجتمع، وينحاز للقوات الشعبية في نضالاتها من أجل حقها في العيش الكريم، الاتحاد بهذه المواصفات، مات وشبع موتا، عقب مشاركته في حكومة التناوب، وما تمخض عنها لاحقا، من تدابير وإجراءات وأخطاء اقترفتها القيادة الاتحادية.
ويكفي الاستماع إلى التصريحات التي يدلي بها الكاتب الأول للحزب إدريس لشكر للتأكد من المآل المفلس الذي انتهى إليه الحزب، فالدولة المغربية العميقة التي فشلت في إلغاء الاتحاد الاشتراكي من المعادلة السياسية بالقمع المادي المحض، تمكنت من إنهاكه، وإنهائه، بإشراكه في الحكومة..
ونفس الأمر بتفاصيله يحدث للعدالة والتنمية، فالحزب الذي نشأ على هامش الكتلة الديمقراطية التي كانت تجمع، في تسعينيات القرن الماضي، كلٌّ من الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، والذي بات يتقوى وهو في المعارضة، وكان ينتقد حكومة اليوسفي، ونظم نوابه شبه اعتصام في البرلمان على مشاركة وفد إسرائيلي في مؤتمر الأحزاب الاشتراكية الذي عقد بالدار البيضاء، منددا بالتطبيع، والحزب الذي تمكن من بناء عضلات قوية وهو يدعو إلى محاربة الفساد، فتحت له الدولة المغربية الباب واسعا، وأعطته منصب قيادة الحكومة لولايتين متتالتين، وكانت النتيجة هي فقدانه لقاعدته الانتخابية وابتعادها عنه.
فمن موقع المشارك في الحكومة والذي يرأس الجهاز التنفيذي بعدد من المقاعد يصل إلى 125 مقعدا، اندحر العدالة والتنمية في الانتخابات وفقد الجزء الأعظم من قاعدته الانتخابية، وبات كأنه تبخر واندثر، ولم يعد يشكل شيئا له بالٌ ووزنٌ في الحياة السياسية المغربية..
وكم كانت آمنة ماء العينين القيادية في الحزب دقيقة وصريحة، عندما قالت معقبة على نتائج الانتخابات: (( العدالة والتنمية تعرض للإذلال والسحق، ويحتاج وقتا طويلا لولادة جديدة))، هذا إن تمت تلكم الولادة، فالدولة المغربية العميقة لم تلجأ مع الحزب المذكور إلى الاعتقالات، والسجون، والاختطافات، والمضايقات في مصادر الرزق، لسحقه، وإنما اعتمدت عملية إشراكه في الحكومة وتكليفه برئاستها، تماما كما وقع مع الاتحاد الاشتراكي، لتسحقهما معا بنفس الطريقة..
وإذا كان حزب الاستقلال قد شارك في حكومات سابقة، ولكنه حصل على مرتبة متقدمة، طبقا لنتائج الانتخابات الحالية، فإنه لم يعد كما كان، في فترة الحماية وبداية الاستقلال، حزب جماهيري، يعبر عن تطلعات الطبقات المسحوقة، وحورب وقتها محاربة شديدة، فلقد تحوّل مع مرور الأيام إلى حزب بورجوازي، يقدم، كمرشحين في الانتخابات، الأعيانَ وذوي المال والجاه والنفوذ، وبات حزبا له قدرة كبيرة على التكيف مع ما تطلبه منه الدولة العميقة، ويتعاون معها..
ولا أدلَّ على تعاون حزب الاستقلال مع الدولة العميقة، من إبعاده لأمينه العام السابق عبد الحميد شباط من الأمانة العامة، حين بات عنصرا مغضوبا عليه من الفوق، فحصول الاستقلال على النتائج الراهنة يأتي من كونه أضحى حزبا مهادنا، ومواليا، ومطواعا، كما باقي الأحزاب الإدارية مثل التجمع الوطني للأحرار، والأصالة والمعاصرة، والحركة الشعبية، والاتحاد الدستوري، ولم يعد ذلك الحزب الذي يستمدُّ قوته وطاقته من قاعدته الشعبية العريضة..
والخلاصة التي يمكن استنتاجها مما سبق هي أن الكلفة التي يؤديها أي حزب سياسي مغربي له شرعيته الاجتماعية، وله قاعدته الشعبية الجماهيرية، وهو في المعارضة، أخفُّ بكثير من الكلفة التي تترتب عن مشاركته في الحكومة. كل مشاركة لحزب سياسي بطاقة شعبية كبيرة تنتهي به إلى مصير مشؤوم، إذ يتمُّ تجويفه من الداخل، وسلبُ محتواه الشعبي منه، ليعدو بمثابة محارة فارغة.
بطبيعة الحال، يطمح أي حزب سياسي للوصول إلى السلطة من أجل تطبيق برنامجه، وهذا هو المراد من الأحزاب والمقصود من إنشائها، ومن نشاطها، و يكون الهدف المعلن من المشاركة في الحكومة بالمغرب من طرف كل حزب، هو الإصلاح بشكلٍ تدريجي، لكن الحزب يجد نفسه، خلال ممارسته لمهامه، أمام عجلة عملاقة تدور بطريقة ميكانيكية في تجاه واحد، فتجرّهُ معها في الاتجاه الذي تسير فيه ويصبح، بمرور الوقت، يدور معها بطريقة آلية، ولا يطبق من برنامجه الذي وعد به الناخبين أي شيء، بل يصبح الحزب من المدافعين عن برنامج ينفذه، دون أن تكون له علاقة به، لا بشكل مباشر، أو غير مباشر.
وما دامت قواعد اللعب تتم على هذه الصورة، فإن التعددية الحزبية في ذاتها ليس لها معنى واضح، ومضمون ملموس. إنها تعددية شكلية، ويتم تفقيرها باضطراد، حتى في هذه الحدود الشكلية. وفي ضوء ما سبق ألا يجوز الاستنتاج بأن التعددية الحزبية في المغرب تعددية غير منتجة، حتى لا نقول إنها، عمليا، تعددية مطوقة وملغية؟؟؟
كاتب مغربي
Source: Raialyoum.com