لويس سبولفيدا الذي اختطفه الوباء… محاورا للسينما وحلم ماركيز
[wpcc-script type=”667383f1df1d2a6872caf924-text/javascript”]
– ماذا تعمل؟ سألتني..
– أقتل الناس. إنني قاتل، قاتل.
– مثل ليون؟ أشاهدتَ الفيلم؟
– أجل مثل ليون. لكنني لست غبياً.
طالما تحدث النقاد عن ذلك الفارق الكبير بين نص روائي وفيلم مأخوذ عنه، وبالطبع كان الأمر، غالباً، لصالح الرواية.
هل الأمر راجع لسحر الكلمة الذي استقر في داخل الإنسان منذ أول حرف خطَّه، وما الصورة في النهاية سوى ذلك الوافد الجديد! الذي يملك الكثير من السحر، لكنه غير قادر على محو الوجود العظيم لتراث الكلمات، هذا التراث الذي لا يُغلق باب التخيّل، بعدالته؟ فالكاتب الذي كتبَ تخيّل، لكنه أبقى حصة من الخيال للقارئ لأن يتخيل أيضاً، وإن تفاوت الأمر، فهناك كتّاب أنانيون يحتكرون الخيال كله لهم، لكن الانتقام قائم في ابتعاد القراء عن كتبهم!
ولكن.. لا أحد يستطيع تقديم إجابة نهائية في هذا المجال.
في رواية (مذكرات قاتل عاطفي) للتشيلي الراحل لويس سبولفيدا، صاحب رواية (العجوز الذي يقرأ الروايات الغرامية)، يلمس القارئ سحر السينما الذي مارسته بقوة على الكاتب، هذا السحر الذي ظلّ يدور ويدور في ذهنه إلى أن أعلن عنه في الصفحات الأخيرة من روايته هذه، ويتمثل هذا السحر في الفيلم الفرنسي البديع «ليون».
وعلى الرغم من الاختلاف البيِّن بين حبكة الفيلم وحبكة الرواية، إلا أن من شاهد ليون أو المحترف، للمخرج الفرنسي لوك بيسون، لن يستطيع أن يمنع نفسه من استحضار شخصية ليون، وهو يقرأ سبولفيدا. لقد قدمت السينما، هنا، شخصية قاتل محترف بكثافة مذهلة، وبعمق مفتوح على تعدد الدلالات؛ شخصية، طيبة السريرة، منطوية، لا يملأ حياتها سوى أمر واحد هو القيام بالعمل على أفضل وجه، والتعلق الاستثنائي بنبْتة صغيرة هي كل ما في عالمه من أحياء.
قوة شخصية ليون السينمائية تكمن في غناها الذي يحوّلها فوراً إلى شخصية روائية، فهي حاضرة بقوة، تفيض عن حدود الفيلم، ولذلك تحس بأنها تقيم في مملكة الكلمات السحرية العظيمة، وكأن وجودها في شريط سينمائي مجرد مصادفة لا أكثر!
تتسلل شخصية ليون إلى رواية سبولفيدا، عابرة حدود الكلمات إلى مخيلتك، مستدعية الفيلم. ولا يلبث الروائي نفسه أن يعلن عن ذلك، حين لا يتمكن من كتم تعلّقه بليون، فتقفز الكلمات، كرغبة في الاعتراف، قاتلة، لا يستطيع إلا أن يعلن عنها، لأنه يدرك منذ البداية أن بطله صورة أخرى من صوَر ليون، بل تبدو الرواية في أفضل حالاتها تحية للفيلم.
بالطبع، فإن المهنة في حدِّ ذاتها (مهنة القاتل المحترف) ليست نقطة اللقاء بين الرواية والفيلم، فهي الأوهى، بخاصة إذا ما تذكرنا أن الأفلام تحتشد بعشرات النماذج التي يظل لبعضها سحره وقوته، لكن الشيء الأساس هنا هو الطريقة التي بنى بها لوك بيسون، وهو كاتب السيناريو، تلك الشخصية التي تثير غيرة الروائيين فعلاً، بسبب فرادتها.
في الفيلم كما في الرواية، هناك شخصية البطل المستوحد التي يمكن استخدام وصف الرواية لها وصفاً لبطل الفيلم، فهو مستوحد، صامت، لا يحب الكلام الكثير، يكره سائقي التاكسي لا لشيء إلا لأنهم ثرثارون، يقول: (تملكتني رغبة في وضع فوهة مسدس من عيار 45 على رقبته ليغلق شدقه، بيد أني لم أكن أملك واحداً!). وهو عموماً يكره الناس؛ والعزلة مظهر الكراهية، وهذا الكره هو عدّة القتل، وأفضل طريقة ليواصل كرههم هي أن لا يعرفهم. يصف بطل سبولفيدا نفسه على النحو التالي: يحيا القاتل المحترف وحيداً، ولقد احترمت دائماً ـ هذا ـ وبشكل جذري)، وكل شخص سيقوم بقتله (هو مجرد عقْد).
ولذا، يبدأ القاتل المحترف في التغيّر والانقلاب على ذاته، حين يمد جسوراً بينه وبين أي مخلوق آخر: في الرواية فتاة تصغره بعشرين عاماً تقريباً (علاقة حب)، وفي الفيلم صبية صغيرة (علاقة أبوّة) تدفع له للانتقام من قتلة أخيها.
إنهما قاتلان على وشك أن ينسيا الدَّور الذي نذرا حياتهما من أجله، مرغمَين أو طائعَين. وفي عزلة القاتل المحترف نوع من الثقة الكبيرة والترفّع عن البشر، ككثير من القادة السياسيين في هذا العالم، ربما! وهذا الحس جزء لا بدّ منه ليقوم بمهمة القتل بيسر، كما لو أنه يمحو أرقاماً، وحين ينظر إلى فئة من البشر يكون في الحقيقة ينظر إلى البشر كلهم، ككتلة واحدة، أو قالب كونيّ، يقولون دائماً الشيء ذاته.
لكن كل يد تلمسه أو يلمسها تغيّره بعيداً عن جهامة القاتل وبرودة فوهات مسدساته، إنه عرضة لأخطار أي نسمة تهب. ففي الوقت الذي يتحصّن خلف غموضه وستاره الحديدي، يواصل استراق النظر إلى الحياة لعله يتورّط فيها.
في الرواية يقع أسير تلك الفاتنة الصغيرة ذات الفم الأحمر الصغير وهو يدرك أن الحبّ يحيله إلى كائن مرئي، رغم معرفته أن نجاته تكمن في أن يبقى ظلاً.
يخرج ليون من الظلّ إلى النور بهذه الفتاة الصغيرة، شبه الابنة، وهكذا بطل الرواية؛ إلا أن الفارق الكبير بينهما أن بطل الفيلم يبدو ناسياً للوصايا كلها وهو يرتبط مصيره بتلك الطفلة التي اعترضت طريقه وأصبحت جزءاً منه، في حين أن بطل الرواية لا يصل إلى هذا الحد من البعد عن قوانين مهنته، كما لو أن خيانة صديقته له تجعله يعود لتذكّر ما كان عليه ألا ينساه؛ ولذا، حين يصف نفسه بأنه ليس غبياً، وهو يؤكد أنه شاهد فيلم ليون، يكون راغباً في إلصاق صفة الغباء ببطل الفيلم، لأن هذا الفارق هو المسافة الفاصلة بينهما.
ولذا، نستطيع أن نسأل هنا، هل رواية سبولفيدا هي الجزء الأول من فيلم ليون؟! أي قبل تورطه بعلاقة مع البراءة بعد أن خذله الحب، خاصة وأن هناك إشارات تفيد أن ليون جريح علاقة حب، وأن هذا الجرح هو ما ينغص حياته؟
وبعــــد:
لعل استحواذ فيلم ليون على سبولفيدا هو الاستحواذ نفسه الذي مارسته رواية «الجميلات النائمات» للياباني كواباتا، على ماركيز وظلت تلاحقه إلى أن كتب روايته «ذكريات غانياتي الحزينات».