لا يعترف الآن علماء الاجتماع والسياسة والتربية فى العالم الحر المتحضر بوجود خوف اجتماعي أو خوف جماعي.. فقد باتوا لا يعرفون الخوف إلا كانفعال أو إحساس فردى وظاهرة تندرج تحت علم النفس والطب النفسي، ولا تدخل أبدًا فى الإطار المعروف لعلم الاجتماع والسياسة.. ذلك أن هذه المجتمعات تراكم لديها الكثير من التجارب فى الحكم المحلى ولامركزية السلطة والنشاط المدني والحرية فى الانتقال الجغرافي وسرعة دوران عجلة الحركة الاجتماعية واستقرار ونقاء وصلابة أداء المؤسسات النيابية، وقدر كبير جد من احترام الإنسان وصون كرامته وحقوقه.. وكل هذه الأشياء بطبيعة الحال لا تنتج أبدًا ظاهرة الخوف على المستوى الاجتماعي العام.
ومع ذلك وبكل ما يمكن للإنسانية أن تحمله من أسف وعار ما زالت هذه الظاهرة موجودة فى مناطق كثيرة من العالم، حيث الديكتاتوريات الكريهة من كل نوع القابعة على مقدرات الشعوب التى كانت دائمًا هدفًا مستباحًا للعنف والوحشية والاستبداد وانتهاك القيم والحقوق الاجتماعية والسياسية وما يسفر عنه كل ذلك من انعدام الشعور الطبيعي بالأمن وتدهور الشعور الطبيعي بالثقة فى النفس، وفى هذا المناخ تكون ثقافة الخوف والانحناء والخضوع هى أبرز سلوكيات الناس ومواقفهم واختياراتهم…”يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان في انحناء.. منحدرين في نهاية المساء.. لا تحلموا بعالم سعيد”.
فهم الإدراك السياسى والاجتماعي للخوف كان هدفًا لكثير من علماء الاجتماع والسياسة والتربية.. خاصة فى تلك المجتمعات التى تغلغل فيها إرهاب الدولة فى المجتمع وقضى على مؤسسات العمل الأهلى والمدني.. حيث لا حديث إلا أحاديث الخوف، فهو أمامك وخلفك ومن حولك وأينما حللت وارتحلت حيث عمليات الاختطاف والاعتقال والتعذيب والاختفاء والقتل العشوائي والجماعى.
عادة ما يقترن الخوف بالإيذاء المادي والمعنوي وهو ما تفعله السلطات القمعية بغرض تسخير الخوف لضبط أكبر عدد ممكن من “القطيع الإنساني”.. ينصح “مكيافيلى” هنا بوصفة سحرية، إنزال الأذى بالأمة بشكل جماعي وبضربة واحدة، فيقول “ومن الواجب اقتراف الإساءات مرة واحدة وبصورة جماعية.. أما المنافع فيجب أن تمنح قطرة قطرة حتى يشعر الشعب بمذاقها ويلتذذ بها” حافظ الأسد قتل ثلاثين ألف إنسان في حماة في 13 يومًا.. واستمر فى الحكم على ما أنتجته تلك المذبحة من “خوف” فى نفوس الناس أكثر من عشرين عامًا.
الخوف وحده قادر على تنظيم الجمهور إذا استخدم بمهارة وقد يعمل بقوانين لا علاقة لها بالأخطار الفعلية المهددة لسلامة الفرد بل بحالة الغموض واللا يقين التي تكتنف المصير.. حيث يتوحد الناس وفقًا لقوانين “القطيع”. سيبقى الخوف دائمًا أداه فاعلة للمستبد لترويض ذلك “القطيع /الجمهور”.. بكل ما يحمله لفظ الترويض من خسة وتدنى إذ يرتبط المصطلح فى الوعي والتجربة بتدريب “الحيوان”.. حيث تشكيل سلوكه الغريزي كي يؤدي الحركات والتصرفات والمهام المطلوبة منه.. ويصل الأمر إلى حد استئناس بعض الحيوانات الشرسة.
من خلال الترويض السياسي إذا جازت التسمية.. والذي يتم بتقنيات وأدوات معروفة، يجري تشكيل سلوك الناس، حيث يخضعون لتوقعات السلطة ويستجيبون لرغباتها بشكل إرادي في نهاية الأمر.. ويتحولون إلى نماذج مكسورة يتناهبها الأسى والقهر.. ترويض الحيوان يتوقف عند سلوكه الحركي لأداء مهام ووظائف مطلوبة أما ترويض الإنسان فيتجاوز السلوك الحركي وصولا إلى تشكيل الإدراك والأفكار والقناعات وأيضًا العواطف.. بحيث يمثل امتلاك الإنسان من الداخل على مستوى الوعي الذاتي والخبرة المعاشة أعلى مراحل التحكم.. تتنوع تكنولوجيا تعديل السلوك وضبطه بين “نشر الخوف” الذي يوفر الحضور الطاغي للمستبد في الوعي العام وبين جرعات مكثفة من التجميل والتفخيم والجذب والإبهار…
سيكون للإعلام هنا دور عظيم شرحه جورج اورويل الروائى الانجليزي المعروف في روايته الوثيقة “الأخ الكبير” وقدر لأجهزة الإعلام والاتصال في المستقبل دور كبير فى التحكم بمشاعر الإنسان وتوجيهها الوجهة التي تحددها السلطة المركزية.. ولتتم في نهاية الأمر التحكم في إرادته بحيث يريد ما لا يريد…ومن خلال تكامل وتفاعل كل هذا يتم ترويض السلوك وتتم لملمة الطاقات وإخضاع الإرادات ومراقبة الذات والنيات من الداخل وصولاً إلى التعلق التلقائي بالمستبد.. إلى حدود الوله المجنون.. فيما يبدو أنه حالة من الإعجاب الحقيقي به وبقوته وعظم مكانته.. كل ذلك يشكل في مجمله حالة متقدمة للغاية من هدم “الكيان الإنساني”.. تكون نتيجته مثلاً ما حدث في 1967م. حيث دوائر الخوف قد استحكمت وابتلعت الكثير.
تمامًا كما فى قصة “حلة البارون” لتشيكوف.. يتهلل البطل “ميركولوف” بابتسامة مخزية وهو يتلقى صفعة من أحد “السادة” حين طالبه بالأجر.. وقد أغرورقت عيناه الضاحكتان بالدموع واخذ يدمدم: هؤلاء هم السادة الحقيقيون.. بالضبط كما حدث عندما حملت المعطف إلى البارون “شبوتيل” طوحه بعيدًا وصفعني..!
نقطة الانطلاق في فهم “الخوف السياسى” تكمن ابتداء في فهم طبيعة السلطة السياسية والمصالح التي تعبر عنها وتولدت في ركابها.. وفي طريقة إدارتها لهذه المصالح. سيقول لنا لتاريخ دائمًا وفى كل وقت أن الخوف ثمرة من ثمار القمع وهو يسجل حضورًا ضخمًا في ظل الأنظمة الاستبدادية حيث القهر بالقوانين والتشريعات والأوامر الإدارية المقيدة للحريات وبعدد مهول من الأجهزة الأمنية.. ثمة شبكة محكمة من أجهزة “صناعة الخوف” تسيطر على كل شىء.. سيتحول الخوف إلى “صنم كامن” فى أعمق أعماق ظلمات النفس الإنسانية.. ويكون قد حاز على درجة عالية من الاستقلال عن الأجهزة المولدة له والمتابعة لشأنه” قلت: “أبدل أصحاب الصروح الفاسدة”، قال لي: ما الفائدة، سوف يأتى مثلهم أو ربما أكثر منهم مفسدة إنما تختلف الأسماء والمعاني واحدة، قلت: ما الحل إذن.. قال: بسيط لو غدت أمالكم فى ذاتكم طرفًا من أخبار الشخصيات المهيضة.
في ظل السلطة المستبدة تحل الأجهزة الأمنية محل التنظيمات المجتمعية المدنية والأهلية.. يزداد الخوف كل يوم.. ويفقد المجتمع فعاليته الإبداعية يتباطأ حراكه العام.. يتسلطن الفساد… ينمو التخلف.
في الجسم الإنساني جهاز مناعي يحمي الجسم من الأذى الخارجي الذي قد يعيق عمله الطبيعي وفق قوانينه البيولوجية وقد تسبب له المرض.. فى بعض الحالات المعروفة بأمراض المناعة يصبح الجسد الإنساني عليلاً من أجهزته المناعية.. والحال نفسه فى المجتمع قد تتحول أجهزة الحماية والأمن إلى مرض ينهش المجتمع.. حتى يغدو مجتمعًا عليلا أيضًا.. فى المجتمع الطبيعي كما فى الجسد الطبيعي.. حيث تعمل “أجهزة الحماية” وفق فكرة “القانون” يكون جهاز الأمن بمثابة الجهاز المناعي في الجسم. إنهم الجنود المجهولون الذين يسهرون لننام، يتعبون لنرتاح، يراقبون ويحمون تطبيق “القانون”.. لنفكر ونعمل وننتج.. حيث يعمل الجميع بكامل فعاليته ويتحقق التقدم الدائم والمستمر.. في مثل هذا المجتمع لا مكان للخوف.. إذ تكون الحرية نمط حياة وثقافة اجتماعية عامة.. وفى الأثر من دعاء الصالحين “رب هب لي حقيقة الإيمان بك حتى لا أخاف ولا أخشى غيرك”.. إذ يستحيل أن يتواجد الخوف من البشر فى قلب أدرك حقيقة الإيمان بالله الواحد القهار.. إدراكًا تامًا.
قد شربنا من الخوف حتى ارتوينا.. وأكلنا من الرعب حتى شبعنا..
متى يا وطن سيأتي الأمان؟
ذبـلت في انتظار المسرات أحلامنا..هرمت في المتاهات أيامنا..شاخ أبناء أبنائنا.
تحت قصف “الخوف” شابوا قبيل الأوان.