معرض «بحر بلا شطآن» للفلسطيني تيسير بركات: توثيق فنّي للفارين من النار إلى الماء

الناصرة ـ «القدس العربي»: ليس بحراً عادياً هذا، إنه بحر بدون شطآن.. هنا لا تنتهي السباحة أو التجديف.. والغرق ممكن، كما فراق الأحبة. تمر طائرات مروحية فوق سطح البحر الممتلئ بالزبد، وتعتليه أجساد وقوارب هاربة من حروب دامية. أوقات من الرهبة لا تخلو من لحظات حميمة مسروقة، في بحر يحتل بقعة تفصل بين الشرق والغرب. […]

معرض «بحر بلا شطآن» للفلسطيني تيسير بركات: توثيق فنّي للفارين من النار إلى الماء

[wpcc-script type=”90ba1ea2a6fc80fa223c157a-text/javascript”]

الناصرة ـ «القدس العربي»: ليس بحراً عادياً هذا، إنه بحر بدون شطآن.. هنا لا تنتهي السباحة أو التجديف.. والغرق ممكن، كما فراق الأحبة. تمر طائرات مروحية فوق سطح البحر الممتلئ بالزبد، وتعتليه أجساد وقوارب هاربة من حروب دامية. أوقات من الرهبة لا تخلو من لحظات حميمة مسروقة، في بحر يحتل بقعة تفصل بين الشرق والغرب.

هذا ما جاء في تقرير لمؤسسة الدراسات الفلسطينية عن التشكيلي الفلسطيني تيسير بركات، في معرضه الفردي «بحر بلا شطآن». في المعرض يحوّل تيسير بركات أعماله إلى سجل بصري يوثق ما يواجهه المهاجرون الفارون من أوطان اشتعلت فيها الحروب وعمّها الدمار.. أوطان ضاقت ذرعاً بأهلها ولفظتهم خارجاً، فمضوا باحثين عن حياة كريمة عبر البحر. وحسب هذا التقرير يقل تناول الفنانين الفلسطينيين لقضية مثل عبور المهاجرين للبحر المتوسط، وتندر مشاريع مثل هذه تبحث في تجارب مشتركة تتمحور حول التشتت والفراق والانفصال عن الوطن والإبحار في غياهب المجهول. تيسير بركات الذي تهجّر أهله من مدينة مجدل عسقلان المحتلة سنة 1948، عاش حياته في مخيم للجوء في غزة في طفولته، تبعتها تجربة انفصاله عن أهله عند انتقاله إلى رام الله منذ الثمانينيات، إلا في ما ندر لإجراءات قمعية يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على تنقل الفلسطينيين بين الضفة الغربية وقطاع غزة. ونشأ تيسير بركات بالقرب من البحر؛ فعاش كطفل في مخيم جباليا، ومن ثم انتقل إلى مدينة الإسكندرية، حيث درس الفن.


ولكن البحر الذي ألفه بركات تغيّر، ولم يعد تلك المساحة المفتوحة المحاذية لجغرافيا اللجوء المكتظة، التي أتاحت له فرصة من التأمل والحلم، وتحوّل إلى فصل في أسطورة، عندما أخذ يطالب بقرابين عبور آدمية تسد شهيته المفتوحة، فأخفى شطآنه وعلت أمواجه وهاجت، حتى أخذ حصته من أرواح العابرين. وتقنية الرسم في أعمال تيسير بركات، تبث إحساساً وكأن البحر مخلوق حي يتنفس، فمن خلال الحركة المضطربة للموج على سطح اللوحة، يمكن الشعور بأجساد حية في الأعماق. وتبدو مياه البحر وكأنها تتحرك من تحت القوارب المهتزة، التي يميل كل من فوقها في الاتجاهات كافة. ويتابع التقرير «إذا أمعنّا النظر جيداّ في بحر تيسير بركات، قد نستطيع تخيّل بوسايدون إله البحر الإغريقي يوجّه العواصف البحرية ويحرك الموج من القاع، بل نستطيع أن نشعر به ربما وهو يتنفس من تحت الماء مستخدماً رئات آلالاف المهاجرين الذين فقدوا حياتهم غرقاً».
وتُذكّر أعمال تيسير بركات بصورة عامة برسومات الكهوف المبكرة، ويظهر، في تجاربه المختلفة على مرّ السنوات، سواء اللوحات على قماش، أم باستخدام الحرق على الخشب، وكأنه يوثق بصرياً تفاصيل حياته وما يؤرقه من قضايا، وكأنه يكتب مذكرات تفصيلية على شكل ملحمة مصورة على جدران كهف ما. وفي هذا المعرض، يرسم تيسير بركات ويوثق الموت والحياة على سطوح لوحاته، بألوان يطغى عليها الأزرق والبرتقالي والأبيض؛ قارب يلقي بمن عليه وسط البحر، قوارب مطاطية فارغة تماماً وأخرى مكتظة بالأجساد، أرواح تطير في السماء، بعثات إنقاذ، أم تحتضن أطفالها، عاشقان، دوريات حدود، تحول دون الوصول إلى الهدف، طائرة مروحية تطير بشكل منخفض فوق الرؤوس.. رحلة بطولة تتكلل بمجموعة من المهاجرين المحتجزين، يتم اقتيادهم تحت الحراسة في خط مستقيم، وما يشبه طقوساً احتفالية لقلة اجتازت جميع العوائق.
يسود اللون الأبيض سلسلة من الأعمال ذات القطع الكبير، التي تحمل عنوان «فراق»، وتعكس ببرودها قسوة البحر ولامبالاة العالم. يطل جسدان من طرفي إحدى اللوحات وتفصل بينهما مساحة شاسعة من البياض. لوحة أخرى يتشكّل فيها زبد البحر من حروف علقت في حناجر أصحابها الذين قضوا. شخوص يودع بعضهم الآخر في لحظة من الفراق القسري، وناجون يبحثون عما تبقى. وفي خضم ذلك تتصدر المرأة المشهد، فنراها تضع يدها خلف ظهرها تارة في حالة من الانتظار والترقب، وأخرى تظهر بجسد برتقالي وشعر يطير في الهواء، وكأنها تحاول بلونها الناري كسر حدة اللون الأبيض البارد الطاغي. عروس بالقرب من البحر، وأخرى تنظر إلى مرآة، هل هي القربان التالي للبحر الغاضب؟
رسم بركات في عدد من أعماله في هذا المعرض قضباناً داكنة، في الجزء الأمامي من اللوحة، فتشكل فاصلاً بين المشاهد والمشهد في الخلف، وتتحوّل إلى حاجز أو نافذة… فيشعر المشاهد بشخوص بركات، وكأنها في سجن خارجي، ويصبح البيت عبارة عن وطن مظلم مظلل، أما الشخوص في الخلفية، فتظهر وكأنها تكابد حياة في سجن مفتوح خارج الوطن. تتجلى تلك السلسلة في لوحة ذات قطع كبير تتألف من مربعات بيضاء مقطعة بخطوط سوداء طولية وعرضية، وفي كل مربع خيال لكل ما يمثل الحياة لدى بركات.
وحسب مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي تنشر تباعا تقارير ثقافية فلسطينية في موقعها، إن بحر تيسير بركات، الذي اختار له أن يكون مفتوحاً، بلا شطآن، كقدر الفلسطينيين، يستعيد تشكيلياً، ما نطق به محمود درويش شعرياً: «لماذا نحاول هذا السفر، وكل البلاد مرايا. وكل البلاد حجر. وسيبقى معرض «بحر بلا شطآن» مفتوحا في رام الله حتى الثاني من إبريل/ نيسان 2020.

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *