ما أكثر صنوف الظالمين وتشعب طرائقهم في واقعنا .. بغي وعدوان، وقهر للإنسان، وقتل وتشريد، ومجاعات وأزمات تعم المجتمعات .. لقد أصبح الظلم عند بعض الناس مظهرا للسيادة والشرف، أو طريقا للكسب والامتلاك، أو نزعة لإشباع أهواء النفوس المريضة بالحقد والحسد والضغائن والطمع والجشع .. واقع مرير يحتاج إلى إصلاح شامل وفاعل، على أساس من العدل والإحسان، والتوعية بمخاطر الظلم الذي تغلغل في حياة كثير من الناس والمجتمعات، فأحال أحوالهم إلى أسوأ حال، مع ما ينتظرهم من فظيع المنال يوم التناد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
ورد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعريّ –رضي الله عنه- قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ الله يملي للظالم فإذا أخذَه لم يفلته)، ثم قرأ قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]
كان كونفوشيوس الفيلسوف والحكيم الصيني يعلم تلاميذه بطريقة عملية، فيسير بهم في الطبيعة مستخلصا منها دروسا وعظات وتوجيهات، ويروى أنه قاد تلاميذه في جولة في إحدى الغابات، وبعد أن توغلوا فيها رأى امرأة تجلس ومعها طفل لا يجاوز العاشرة أمام كوخ من أغصان الشجر، فسألها أتقيمين هنا من مدة طويلة يا سيدتي؟ فقالت: نعم، ولم أبرحها بعد أن أكل الأسد زوجي. سألها ومتى كان ذلك؟ أجابت: بعد أن مزق الأسد ابني الأكبر. سألها الفيلسوف في أسى ظــاهر: وما الذي يبقيك هنا في هذه الأرض المسبعة؟ (أي كثيرة السباع).
أجابت يبقين: ليس هنا حاكم ظالم.
فالتفت الفيلسوف إلى تلاميذه، وقال: “نعم فالحاكم الظالم أشد وحشية وقسوة من الأسد الكاسر”.
سعيد بن جبير و الحجاج
لقد لزم سعيدُ بنُ جبير حبرَ الأمة عبدَ الله بنَ عباس رضي الله عنهما، ودرس الفقهَ دراسةً وافية مما أهله أن يجلسَ للفتوى بالكوفة، حتى إنَّ الذين درسوا سيرةَ حياته وفقهه يحدثوننا على أنَّه كان بدايةَ عصرٍ مهدت الطريقَ للمذاهب الفقهية المشهورة.
وبلغ سعيد من علمه وفتواه أنْ قال عنه حصيف: “أعلمُ التابعين بالطَّلاق سعيد بن المسيب، وبالحجِّ عطاء، وبالحلال والحرام طاووس، وبالتفسير مجاهد، وأجمعهم لذلك كلِّه سعيدُ بن جبير”
وبجانب ورعه وتقواه كان لا يخشى في الله لومةَ لائم، وكان من الطَّبيعي وهو يرى الدِّماء تسفكُ وآلاف النَّاس تعيش بين أسوار السُّجون بلا جريرةٍ على يد الحجَّاج، أنْ يواجهَ هذا الطَّاغية، حتَّى لو كانت في مواجهته النهايةُ المحتومة.
فقد روى المؤرِّخون أنَّ سعيد بن جبير كان ينهى الحجَّاج عن الظُّلم والبطش، وكان ينصحُ النَّاسَ بمخالفتِه وبالوقوف في وجهِه، وضاق الحجاجُ ذرعًا بتصرفات سعيد وقصتُه والحوار الذي دار بينه وبين الحجاجِ معروفةٌ ومعلومةٌ للجميع، والتي انتهتْ بقتل سعيدى -رحمه الله- بعدما دعا على الحجاج، وقال خذْها مني يا عدو الله حتى نتلاقى يومَ الحساب: “اللهم اقصم أجلَه، ولا تسلِّطْه على أحدٍ يقتله من بعدي”.
وصعدت دعوة سعيد إلى السماء، فلقيت قبولاً واستجابة من الله الواحدِ القهَّار، وأُصيبَ الحجَّاجُ بعد قتله لسعيد بن جبير بمرضٍ عضال أفقدَه عقلَه، وصار كالذي يتخبَّطُه الشَّيطان من المسِّ، وكان كُلَّما أفاق من مرضه قال بذعر: “مالي ولسعيد بن جبير”، وبعد فترةٍ قصيرة من قتل سعيد مات الحجَّاج الثقفي شرَّ موتة، وتحقَّقتْ دعوةُ سعيدٍ فيه، فلم يسلطه الله تعالى على أحدٍ يقتله من بعده.
إِذَا جَارَ الوَزِيرُ وَكَاتِبَاهُ *** وَقَاضِي الأَرْضِ أَجْحَفَ فِي الْقَضَاءِ
فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ *** لِقَاضِي الْأَرْضِ مِنْ قَاضِي السَّمَاءِ
وكم من حجاجٍ تولى على المسلمين من بعد الحجاجِ فكان شره مستطيراً، وعمل أكثرَ مما عمل الحجاجُ، حتى تطاول الزمان وصدقت مقولة الإمام الشعبي – رحمه الله -: “يَأْتِي على النَّاسِ زمانٌ يُصَلُّونَ فِيهِ عَلَى الْحَجَّاجِ” .. أي يترحمون.
وخلاف ظلم الحكام هناك ظلم أعوان الحكام وبطانة السوء التي تزين لهم الباطل وتشوه لهم الحق، وما أحسن ما قاله سيد قطب في ظلال الآيات من سورة يوسف: “فيا ليت رجالاً يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام، وهم أبرياء مطلقو السراح، فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم، ويتهافتوا على نظرة رضا وكلمة ثناء، وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء .. يا ليت رجالاً من هؤلاء يقرؤون هذا القرآن ويقرؤون قصة يوسف -عليه السلام- ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح حتى المادي أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء!
إنه لم يسجد شكراً كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت، ولم يقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين. كما يقول المتملقون للطواغيت! كلا، إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أوّل بها رؤيا الملك، خيراً مما ينهض بها أحد في البلاد، وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحاً من الموت وبلاداً من الخراب ومجتمعاً من الفتنة – فتنة الجوع – فكان قوياً في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته، قوته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه: قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم”.[في ظلال القرآن: 4/2005].
ومن صنوف الظالمين أصحاب المعاصي عموما الذين يظلمون أنفسهم بتضييع حق الله تعالى فيها .. قال مالك بن دينار: دخلت على جارٍ لي وهو في الغمرات يعاني عظيمَ السَّكَراتِ، يُغمى عليه مرَّةً ويفيقُ أخرى، وفي قلبه لهيبُ الزَّفرات، وكان منهمكاً في دنياه، متخلِّفاً عن طاعة مولاه، فقلت له: يا أخي تُبْ إلى الله وارجع عن غِيِّكَ، عسى المولى أن يشفِيكَ مِنْ ألَمِكَ ويعافيك مِنْ مرضِك وسقمِك ويتجاوز بكرمه عن ذنبك. فقال: هيهات هيهات! قد دنا ما هُو آت، وأنا ميتٌ لا محالةَ، فيا أسفي على عمرٍ أفنيته في البطالة. أردتُ أن أتوبَ ممَّا جنيتُ .. فسمعت هاتفاً يهتف من زاوية البيت: “عاهدناك مِراراً، فوجدناك غدَّاراً”.
ثم إن مشهد يوم القيامة عسير على الظالمين، قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:22-26]
وهذا المذكور في هذه الآيات هو تلاوم أهل النار في عرصات القيامة، فالأتباع يقولون لقادة الضلال: أنتم الذين كنتم تزينون لنا الباطل، وتغروننا بمخالفة الحق، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]، ولكن القادة ورجال الفكر وزعماء الضلال يرفضون هذا، ويقولون لهم: أنتم تتحملون نتيجة أعمالكم فقد اخترتم الكفر، ولم يكن لنا من سلطان عليكم، إن طغيانكم واستكباركم هو الذي أوصلكم إلى هذه النهاية.
والمقصود بأزواجهم: نظراؤهم وإخوانهم في العمل .. {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} لا ينصر بعضكم بعضاً. وهذا توبيخ لهم بالعجز عن التناصر، بعدما كانوا يتناصرون في الدنيا، أو: استهزاء بهم. وقيل: هو جواب لأبي جهل، حيث قال يوم بدر: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44]، وجملة النفي: حال، أي: ما لكم غير متناصرين، وعن عبد الله بن المبارك قال: سمعت عثمان بن زائدة يقول: إن أول ما يُسأل عنه الرجل جلساؤه، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ}، أي: كما زعمتم أنكم جميع منتصر.
{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} قال ابن عباس: خاضعون. وقال الحسن منقادون. يقال اسْتسْلَمَ للشيء إذا انقاد له وخضع، والمعنى: هم اليوم أذلاّء منقادون لِما يُراد بهم؛ لعجزهم؛ وانْسِدَادِ أبواب الحيل عليهم، أو: قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله.
أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ الظُّلْمَ لُؤْمٌ *** وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي *** وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الْحِسَابِ إِذَا الْتَقَيْنَا *** غَدًا عِنْدَ الإِلَهِ مَنِ الْمَلُومُ