سررت أيما سرور من تصريح الشيخ إبي أسحاق الحويني المؤيد للدستور المصري الجديد وقوله:”أنا مؤيد للدستور وموافق عليه، وهذا من باب أخف الضررين، والله أعلم”. ومبعث سروري صدور هذا الكلام من شيخ بوزن الشيخ إبي إسحاق حفظه الله وتنزيله قاعدة “أخف الضررين” المجمع عليها على واقع الدستور المصري الجديد، لأن الدستور المصري رغم احتوائه على مواد وفقرات مخالفة للشرع، لكن بالمقارنة بما كان عليه الحال في السابق يعد إنجازا عظيماً، لذلك اجتمعت على رفضه قوى الكفر والنفاق في الداخل والخارج وليس من المعقول ولا المنقول أن يدفع الإنسان ويحارب شراً ليقع في شر أعظم منه.
والحقيقة أن أمتنا- في ظروفها الراهنة التي تتزاحم فيها المصالح والمفاسد وتختلط فيها الحسنات بالسيئات- بأمس الحاجة إلى علماء كبار، راسخين في العلم بفقه الكتاب والسنة، ولديهم الإحاطة بمقاصد الشريعة، ولا تقتصر وظيفتهم على تعليم الناس الخير وتحذيرهم من الشر بل يدلون الناس على خير الخيرين ويعرفونهم شر الشرين كما قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى( 20 / 54): “ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر إنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين”، وليست البطولة بإلقاء الخطب النارية والفتاوى السريعة التي تهاجم كل شيء وتقبح كل شيء وترفض أن ترى الواقع العملي على ما هو عليه، ويظن أصحابها أن الورع في الدين وراحة الضمير ورضى رب العالمين يكمن في المنع والتحريم وكأن هؤلاء ما طرق سمعهم ما ذكره الإمام النووي عن الإمام سفيان الثوري رحمه الله في آداب الفتوى ص : 37 أنه قال:”إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد”.
لقد رأينا أصحاب هذا المنهج يسارعون إلى وصف الدستور المصري الجديد بياسق العصر وأوجبوا على المسلمين حربه ورفضه والتبرء منه، وبالأمس وصفوا الائتلاف الوطني السوري بالإتلاف الوثني، واتهموا كل أعضائه بخيانة الأمة والنفاق والعمالة للكفار، وقبلها وصفوا من شارك في الحياة السياسية من الاسلاميين في بعض الدول العربية بعباد الطواغيت.
ومنهجهم يقوم على مطالبة الناس الاعتزال وترك أهل الكفار وأهل النفاق يسرحون ويمرحون ويتحكمون في دين المسلمين وأعراضهم وأموالهم، أو دعوة الناس إلى خوض حروب ومعارك غير متكافئة جرت على المسلمين من الهلاك والدمار ما الله به عليم.
وقد تسبب هؤلاء بمنهجهم غير الواقعي ومن حيث لا يقصدون ولا يريدون في تصوير الشريعة وكأنها جامدة وعاجزة عن الوفاء بحاجات البشر ولا تقدم الحلول الشرعية والواقعية لتحديات كل عصر.
والحقيقة: أن لا يوجد مسلم على وجه البسيطة إلا ويتمنى أن يعيش في ظل حكم إسلامي على منهج النبوة، ويحب أن يرى ظهور شريعة الله على الكون كله، لكن ماذا نفعل عند العجز عن ذلك؟
إن دلائل العقل والنقل توجب على المسلمين أن يطبقوا قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم وأن يعملوا قواعد: اختيار أهون الشرين وارتكاب أخف الضررين، وإن الواقع العملي يثبت أن عدم الأخذ بها المنطق قد كلف المسلمين غالياً وجعلهم يخسرون بسببه أوطانا عزيرة ودماءً غزيرة غالية، وأدى إلى تفرق صفوف العاملين وشيوع البغضاء والشحناء بينهم، بل وصل الأمر إلى حد الاقتتال في كثير من الأحيان، وصدق في حالنا ما قاله ابن القيم –رحمه الله- في “إعلام الموقعين” (3/15):«فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله… ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عَزَمَ على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنَعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر».
فإن قال قائل: ليس ينكر أحد ضرورة مراعات قواعد الموازنات بين المصالح والمفاسد عند إصدار الأحكام لكن المشكلة في تنزيل هذه القواعد على الوقائع والأحداث، والمتأمل للمسائل التي طبقت فيها القواعد يجد أن الخلل وقع بسبب تقديم ما حقه التأخير من المصالح وتأخير ما حقه التقديم، فالتوحيد أعظم المصالح على الإطلاق، ولا يجوز أن تتقدم عليه أي مصلحة مهما عظمت، فالدستور المصري الجديد والاتلاف السوري والمشاركات السياسية في ظل الأنظمة الجاهلية وغيرها من مسائل لا يمكن قبولها والموافقة عليها إلا على حساب العقيدة والتوحيد لأنها مشتملة على الشرك في الطاعة واتخاذ آلهة مع الله في الحكم والتشريع وهذه مفسدة لا تعدلها كل المفاسد.
والجواب المختصر أن في هذا الكلام إجمالا وتعميما ومبالغة غير مقبولة لأن الشرك في مسألتنا إنما يحكم به على من يرضى بالكفر ويعتقد أن أحدا غير الله يشاركه في حق من حقوقه كحق الخلق أو الرزق أو التشريع أو نحوها، وهذا ما لم يخطر على بال أحد من المجوزين للمسائل السابقة فضلا عن أن يقع به، وأعظم برهان على أن إجراء الموازنات في المسائل المتقدمة ليس من باب الشرك والكفر وأن القواعد الفقهية المتقدمة يجري إعمالها فيها أن كبار أئمة الإسلام وعلمائه قديماً وحديثاً قد صاروا إليها وطبقوها على مثل ما نحن فيه، فهذا ابن تيمية رحمه الله كان يرى مشروعية تولي الولايات العامة في الدولة الظالمة بل الكافرة يقول في مجموع الفتاوى(20/56-57): ” ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض، لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفارا كما قال – تعالى -: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات، فما زلتم في شك مما جاءكم به) (غافر: الآية 34) وقال – تعالى -عنه: (يا صاحبي السجن! أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) (يوسف: الآية 38، 39). ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ونال السلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله – تعالى -: (فاتقوا الله ما استطعت).
ويقول أيضاً عن النجاشي في مجموع الفتاوى (19/218): “والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن ; فإن قومه لا يقرونه على ذلك. وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا – بل وإماما – وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها “.
وهذا الشيخ السعدي رحمه الله يقول:” في تفسيره صـ389 عند قوله تعالى “ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز” :(ومنها : أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة قد يعلمون بعضاه وقد لا يعلمون شيئاً منها وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم أو أهل وطنهم الكفار كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه ، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا باس بالسعي فيها ، بل ربما تعين ذلك لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان .فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار ، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية ، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية ، وتحرص على إبادتهم وجعلهم عمَلَةً وخَدَماً .نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة والله أعلم) .
وهذا العلامة الشيخ محمد أمين الشنقيطي يتولى ولاية قضاء شنقيط في موريتانيا في ظل الحكومة الفرنسية.
وهذا الشيخ أحمد شاكر مع قوله في حاشية تفسير ابن جرير 2/348 “القضاء في الأعراض والأموال والدماء بقانون يخالف شريعة الإسلام، وإلزام أهل الإسلام بالاحتكام إلى غير حكم الله، هذا كفر لا يشك فيه أحد من أهل القبلة”! نجده يقول في رسالته (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر التشريع في مصر) ص 28 – 35- (سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة السبيل الدستوري السلمي، أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة، فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها، طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها للبرلمان، فسيكون سبيلنا وإياكم أن ترضوا بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم كما تفعل كل الأحزاب، ثم نفي لقومنا بما وعدناهم به من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة..). ما يدل دلالة واضحة على أنه لا يجد تناقضا بين التوحيد الذي قرره أولا والمشاركة في البرلمان كما هو نص كلامه ثانياً.
وبضرورة المشاركة في البرلمانات وعدم تركها للعلمانيين، أو إجازة ذلك على أقل تقدير أفتى ويفتي جماهير علماء العصر وجهابذة أئمته مثل الشيوخ أحمد شاكر وابن باز وابن عثيمين الالباني وعبد الرحمن عبد الخالق وتلامذتهم في كافة أصقاع العالم وبذلك أفتت المجامع الفقهية المتعددة فهل كل هؤلاء أهل هوى وطلاب دنيا وعلماء سوء؟ أو أتوا من جهلهم بالتوحيد وعدم معرفتهم للشرك وضروبه فمن هو العالم بعدهم يا ترى؟.