الصورة موسيقى أيضاً
[wpcc-script type=”c2876ed18b7dc9bd34543d76-text/javascript”]
في طفولتي وقع بين يدي «البوم» للصور، وكنت كلما فتحته أسمع صوت موسيقى ناعمة تنبعث منه، وأعجبتني الفكرة لدرجة أنني كنت أباغت الألبوم مرارا بالفتح السريع أو الإغلاق السريع لأسمع صوت قفلة الموسيقى أو بدايتها.
صندوق الموسيقى شكّل بداية القصة، الموسيقى التي ترافق الصورة، ومن ثم الموسيقى التي تشكل الصورة، إلى الموسيقى الصورة. منذ ذلك الألبوم ربما ارتبطت عندي الموسيقى بالصور، تلك الصور بالأبيض والأسود أولا، ومن ثم الصور الملونة، الموسيقى لا تصاحب الصورة بل تجسدها، تجلس معها تخاطبها وتفكك ألوانها لتبعثرها ومن ثم تعيد تركيبها. موسيقى الصورة تمتاز بجماليات متعددة ومختلفة في آن، وقد يكون خير تشبيه لهذه الموسيقى هو الشعر.
بالنسبة لي على الصعيد الشخصي تأليف مقطوعة موسيقية يتم بالطريقة نفسها التي تُكتب بها القصيدة، التأليف هنا يختلف عن تلحين قصيدة أو «صناعة» مقطوعة. موسيقى الصورة تمثل حدثا ما، لحظة ما، ساعات ربما، حياة كاملة أحيانا، لكنها كلها تختزل في ثوان أو دقائق. هي زمن له أوجه عديدة، قد تغيب كلها في المرايا وتتلاشى بسرعة مثل حركة قطار سريع حين نرى الصور وكأنها مخطوفة، وفي لحظة الوقوف عند المحطة تكتمل الصورة بلا أدنى اهتزاز.
تجسيد لحظة، وقوف مفاجئ عند محطة، انتشال لحظة من أعماق الذاكرة، استعادة اللحظة، تكثيفها والعيش فيها مجددا، كلها أمور تجتمع بين شاعر يكتب قصيدته وموسيقي يرسم صورة عبر سلالم موسيقية ونوتات.
أعود إلى تجربتي الشخصية في تأليفي لمقطوعة حب العصافير، هذه المقطوعة التي جسدت بها مفهومي لموسيقى الصورة مدعمة باستخدامي للتقنية أو بتعبير آخر «تكنيك» في العزف من حيث استخدامي لأوكتافات مختلفة في صورة محاكاة للطبيعة، وتحديداً علاقة عصفورين في حديقة معهدنا الذي تشربنا فيه الموسيقى، راقبت فرح العصفورين تحليقهما سعادتهما، إطعام بعضهما بعضا، وقوفهما المباغت، انسيابية حركتهما، وغيرها من الصور، حينها كنت في السنة الثانية في معهد الدراسات النغمية، وكنت مهووسآ في البحث عن تأسيس بصمة وأتمرن يومياً لعشر ساعات وأكثر، وقررت أن أتبنى حب العصافير وأنقل البهجة التي كانت معي وأنا أرقبهم إلى كل الناس، بدأت بأبعد وأكثر الدرجات الصوتية في نهاية الوتر ناحية المضرب، وكانت هذِهِ درجات يصعب اللعب كثيراً فيها، نسميها الأوكتاف الرابع والخامس، وعندها تنحسر المسافة بين درجة وأخرى على الوتر نفسه. بعد شهر أو أكثر قليلاً بدأت أسيطر على أصابعي وأتحكم بفعل الحركة التي يأمر فيها عقلي أصابعي، ثم أردت أن أحاكي مؤلفا شهيرا على العود للشريف محيي الدين حيدر، عنوانه «ليت لي جناحا» ربما باللاوعي كان الشريف تحديا حقيقيا لي ولكل العازفين، لم أقتبس من عمله شيئا، لكنني عملت ما يشبه عمل أكثر من شاعر، على فكرة ما أو بحر عروضي واحد. قدمت حب العصافير في الحفل الختامي للعام الدراسي ذاته وبثقة مبالغ فيها، مع استعداد حقيقي تقني وجمالي، وتحدثت حينها عن العصفورين ذاتهما ومقطوعة الشريف، وما أن انتهيت من العزف حتى شعرت بأن الكون كله كان يصفق في حرارة وردة الفعل المباغتة لي ووقوف الأساتذة وزملائي، بعدها بدأت أتشجع أكثر في الغوص في تفاصيل موسيقى الصورة، وكنت ولا زلت مخلصآ تماماً لمنطلقات الفكرة ومأتاها. مثل موسيقى رقصة الفرس «أصايل» كانت عن فرس بالاسم نفسه أعجبني جداً وأردت من خلال الموسيقى أن يرى كل مستمع لتلك القطعة ما كان الفرس عليه من جمال ورشاقة وقوة وجاذبية أخاذة، ثم عمل بعنوان على حافة الألم عن صلابة المرأة الفلسطينية وصمودها لأكثر من خمسين عاماً ضد الاحتلال تنجب وتناضل، وربما يستشهد وليدها وتلد من جديد ثم تجابه بكل قوة
وفي مواقع عديدة، و«ثورة وأمل» اسم لعمل موسيقي كتبته عن طفل فلسطيني يواجه دبابة العدو المحتل إبان الانتفاضة الأولى، وغيرها من الأعمال التي كانت إما تصنع الصورة لدى المتلقي أو تترجم صورة أو مجموعة لقطات لحدث ما. الصورة تجسيد، ولكنها أيضا قد تكون مخيلة تامة، فقد نرسم صورة لا علاقة لها بالواقع ومع هذا نصنع لها حياة متكاملة، هكذا ايضا الموسيقى والشعر، حياة متخيلة أحيانا بوسعنا أن نضع لها أجنحة فتحلق، ومن خلال تحليقها نرى طبقات السماء الزرقاء، المخيلة تشبه العصفور وتستطيع أن تلتقط بمنقارها الصغير حبة متناهية الصغر لتصنع منها حياتها.. المخيلة عصفور بجناحين عندما يفردهما يصبح الكون كله بين رفتي هذين الجناحين. يحتاج المؤلف الموسيقي كما الشاعر، كما أي مبدع إلى هذه المسافة بين الجناحين ليوسع الكون من داخلهما، يحتاج أيضا إلى عين الطائر الثاقبة تلتقط من أعلى السماء لحظة صغيرة على الأرض. موسيقى الصورة تختلف أيضا عن الموسيقى التصويرية التي سأتوقف عندها في مقالة مقبلة، تجمع ما بينهما السلالم الموسيقية وتختلف بينهما التقنية. تبقى موسيقى الصورة بالنسبة لي، مؤلفا موسيقيا وعازفا أيضا، هي أساس عملي، أن أرسم جدارية كبيرة على حائط أبيض بألوان قوس قزح، تماما كما يترك المطر بعد توقفه ألوانه تحت ضوء الشمس.
كاتب وموسيقي عراقي
نصير شمه