جبلت النفوس على الميل إلى العظمة وحب الكرامة، وشبت في الغالب على الأنفة والرعونة، ونشأت على التقيد بالإلف والعادة، فمن أراد صرفها عن غيها إلى رشادها، وحاول الخروج بها عن مألوفاتها وعاداتها ولم يَمزُج مرارة الحق بحلاوة التلطف، ولم يسهل صعوبة التكليف بطلاوة الرفق واللين، كان إلى الانقطاع أقرب منه إلى الوصول، ودعوته أجدر بالرفض من القبول، وكان كمن رام أن يطهر ثوبًا من الدنس فأوقد فيه نارًا فأحرقته، ألا ترى قوله تعالى: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طـه:44]، فإنه يفيد أن لين القول محل رجاء التذكر والاتعاظ، والمعد للنفوس للخوف والانزجار.
روى أبو أمامة: أن غلامًا شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا نبي الله، أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قربوه، أدن. فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أتحبه لأمك؟ قال: لا، جعلني الله فداءك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟ قال: لا، جعلني الله فداءك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ – وزاد ابن عوف أنه ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحدة: لا، جعلني الله فداءك – فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: “اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه. فلم يكن شيء أبغض إليه منه، يعني الزنا”.[رواه أحمد بإسناد جيد، رجاله رجال الصحيح].
فكان لهذا التلطف في القول والرفق في المعاملة مع تحري الإقناع شأنه في نجاح المرشد في مقام الدعوة إلى الخير، والقرآن الكريم يرشد إلى ذلك في مواضع كثيرة، تأمل قوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل:125]، أي أحسن طرق المناظرة والمجادلة من الرفق واللين، ليسكن شغبهم وتلين عريكتهم، وهذا بالنسبة للمعاندين المجادلين بالباطل، وهو مثل قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)[سـبأ:24]، أي: وإن أحد الفريقين من الموحدين والمشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال الواضح، فإن هذا بعد ما تقدم من التقرير البليغ الناطق بتعيين من هو على الهدى، ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح بذلك لجريانه على سنن الإنصاف المسكت للخصم الألد، ونظيره قول حسان رضي الله عنه:
@أتهجوه ولست له بكفء.. … ..فشركما لخير كما الفداء@@
وقوله: (قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[سـبأ:25]. وهذا أبلغ في الإنصاف وأبعد من الجدل والاعتساف، حيث أسند فيه الإجرام إلى أنفسهم، ومطلق العمل إلى المخاطبين، مع أن أعمالهم أكبر الكبائر، فما بعد هذا التلطف طريق يسار فيه ولا وراء هذا الرفق غاية ينتهى إليها.
**التقديم بذكر المحاسن***
وهذا من أبواب فتح قلوب السامع.. أن يذكره الداعية بخير، ويصفه بجميل، كأن يبين ما له من حسب، وما فيه من فضل، وما عليه من نعمة، ليجذب قلبه إليه، ويُعِدّه بذلك لقبول الموعظة، إذ لا ريب أن ما يكون للإنسان من شرف ورفعة مناط التحلي بالفضائل والتخلي عن النقائص؛ لأن الذي يرى نفسه مفضلاً مكرمًا ذا شرف ومنزلة يترفع عن الدنايا والخسائس التي تدنس شرفه وتذهب بفضله، أما الذي يرى نفسه رذلاً ساقطًا خسيسًا، فإنه لا يبالي ما يفعل.
وهذا منهج القرآن الكريم وسبيله في الوعظ كما في قوله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)[البقرة:47، 48] حيث ناداهم باسم أبيهم يعقوب – عليه السلام – الذي هو أصل عزهم ومجدهم، ومنشأ تفضيلهم، وطلب منهم أن لا ينسوا نعمته عليهم بشرائعه ورسله، وتفضيله إياهم على العالمين بالنبوة والملك، ولم يعرف شعب من الشعوب يزاحمهم في هذه المزية!! إحياءً لشعور الكرامة والفضل في نفوسهم، ثم حذرهم يومًا عظيمًا سيقع فيه من الأهوال ما لا منجاة منه إلا بتقوى الله سبحانه في كل الأحوال، ومراقبته تعالى في جميع الأعمال.
وهذا أسلوب حكيم في الدعوة، فينبغي للداعي أن يبدأ بإحياء إحساس الشرف وشعور الفضل والكرامة في نفوس المخاطبين، لتستعد بذلك لقبول النصيحة وتتغلب بهذا الإحساس وذلك الشعور على عوامل الهوى والغواية، فإن النفس إذا عرفت علوها، واستشعرت كرامتها، وسمعت ما في الرذائل من الخسة حملها ذلك الشعور (شعور الرفعة والكرامة) على النفرة من التسفل بارتكاب تلك النقائص، وكان ذلك من أحكم الوسائل إلى مساعدة المرشد على بلوغ غرضه من نفوس السامعين.
**التلويح لا التصريح***
وهو من دقائق هذه الصناعة ـ أعني صناعة الدعوة ـ أن يصرف من يريد إرشاده عن الرذيلة إلى الفضيلة بتلويح في المقال، وتعريض في الخطاب ما أمكن، فالتعريض في ذلك أبلغ من التصريح، إذ التلويح أوقع في نفس المدعو، وأعظم تأثيرًا في قلبه، وأدعى إلى التنبه للخطأ مع ما فيه من مراعاة حرمة المخاطب بترك المجاهرة بالتوبيخ.
وأيضًا التعريض لا تُنتَهَك به سُجف الهيبة، ولا يرتفع معه ستر الحشمة، أما صريح التوبيخ والتقريع الشديد العنيف، فقد يورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويهيج الحرص على الإصرار والبقاء على ما لِيم عليه، لا سيما النفوس المنطوية على الكبر.
وقد وضع الإمام الشافعي – رحمه الله _ أصول القاعدة قديما حين قال :
@تغمدني بنصحك في انفرادِ … وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع … من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي … فلا تجزع إذا لم تُعط طـاعة@@
يقصد إذا خالفتني ونصحت الإنسان أمام الناس فلا تجزع فسوف يجابهك هذا ، وينتقم لنفسه ، وقد تأخذه العزة بالإثم فإن النصيحة على الملأ فضيحة .
**حسن الفراسة***
أن يكون لداعية فراسة يتوسم بها حال السامعين ليعرف مبلغ طاقتهم وقدر استحقاقهم وإقبالهم على الانتفاع، ليعطيهم ما يتحملون، ويمسك عما لا يطيقون ويوجز إذا خشى الانصراف أو رأى عليهم مللاً وسآمة. ومن الحكم المأثورة: من لم ينشط لكلامك فارفع عنه مئونة الاستماع منك.
وإذا كان المرشد بهذه الصفة لم يضع له عناء ولم يخب على يديه أحد، وإن لم يتوسمهم وخفيت عليه أحوالهم كانوا وإياه في عناء مُكِد، وتعب غير مجد؛ فإنه لا يعدم أن يكون منهم ذكي محتاج إلى الزيادة وقاصر يكتفي بالقليل، فيضجر الذكي ويعجز القاصر، ومن تردد أصحابه بين عجز وضجر ملوه وملهم.
وقد حكى عبد الله بن وهب أن سفيان بن عبد الله قال: قال الخضر لموسى عليهما السلام: يا طالب العلم إن القائل أقل ملالة من المستمع، فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم، يا موسى واعلم أن قلبك وعاء، فانظر ما تحشو في وعائك.
وجلس ابن السماك يومًا للوعظ وجاريته تسمع كلامه، فقال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: هو حسن لولا أنك تردده، فقال: أردده كي يفهمه من لم يفهمه. فقالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه يمله من فهمه.
وعلى الجملة فخير المرشدين الفطن الذي لا يقل ولا يمل .
**خاتمة القول***
وجملة القول: أن في الوعظ مسا يجرح إحساس الموعوظ، وحرجًا قد يحمله على النفور من سماعه والاستنكاف من قبوله، فإذا كان الداعي حكيمًا فذكر ما في المخاطب من فضل، وما له من منزلة، ثم أرشده إلى الخير، وحذره عن الشر، مع حسن الفراسة ومعرفة حال المخاطب، واستعمال الرفق واللين والتلطف حمله ذلك على التخلي عما هو فيه من ضلال وشقاء، وأقبلت نفسه على التحلي بما يدعوه إليه من هدىً وسعادة، كما يقبل الجريح على من يضمد جراحه، ويسكن آلامه، وينقذه من تعب المرض إلى راحة السلامة، فهذا شيء من هداية الكتاب الحكيم لنا، وكله هدىً ورحمة.