كان الخليفة عبد الرحمن الثالث الخليفة الأموي في الأندلس قد أتم بناء مدينة الزهراء شمالي قرطبة، وذلك على اسم زوجته الزهراء عام 325 / 936، ونقل إليها عاصمته وبلاطه وحكومته، وفي ذلك العام خلف بن عباس على الأغلب في قرطبة ولكنه عاش في الزهراء وإليها نسب، ويرجع أنه لقي حتفه فيها في عام 404هـ/ 1013م أيام الفتنة الكبيرة حيث دمرت المدينة أيضاً.

وخدم في هذه المدينة الخلفاء المستنصر والمؤيد، وخدم معه في نفس الفترة أحمد وعمر ابن يونس بن أحمد الحراثي وابن موسى الأسيوتي ومحمد بن عبدون الحبلي العذري الذي ألف كتاباً في الكسير، وكذلك ابن جلجل الذي له عدة مؤلفات، ومن المحتمل أن يكون الزهراوي قد درس على يده أيضاً، وكان معاصراً لأبو عبد الله الندرومي وأبو بكر بن القاضي أبي الحسن الزهراوي في أشبيليه.

اقرأ أيضاً: تاريخ الطب عند العرب والمسلمين بين النظري والتطبيقي

مؤلفات أبو القاسم الزهراوي

يذكر د. كمال السامرائي من الأطباء الذين خدموا في بلاط الخليفة المستنصر، أبو بكر حامد بن سمحون وأبو عبدالله البكري، ويظهر أنه كان سابقاً لزمانه، فإن كل ما ترجم له ابن أبي أصيبعة أنه كان طبيباً فاضلاً خبيراً بالأدوية المفردة والمركبة حين العلاج، وله تصانيف مشهورة في صناعة الطب، وأفضلها كتابه الكبير المعروف بالزهراوي، ولخلف بن عباس الزهراوي من الكتب كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف، وهو أكبر تصانيفه وأشهرها، وهو كتاب تام في معناه، مع أنه ابن أبي أصيبعة ولد بعد مئتي سنة من وفاة الزهراوي حوالي 600هـ، غير أننا نجد الكثير من الاقتباسات والاستشهاد به في كتاب “العمدة في الجراحة” لابن القف المتوفي عام 630هـ، وذكره في التراجم أبو عبدالله الحميدي المتوفي عام 488هـ في خبرة المقتبس، وأبو محمد علي ابن أحمد ابن حزم وأثنى عليه وقال: “ولئن قلنا أنه لم يؤلف في الطب أجمع منه للقول والعمل في الطبائع والخبر لتصديقهم ومات بالأندلس بعد الأربعمائة”.

اقرأ أيضاً: ابن أبي أصيبعة

وقد ترجم الكتاب إلى اللاتينية في طليلطه من قبل جيراد الكريموني في القرن الثاني عشر، وأعيد طبع الترجمة في البندقية عام 1497، وطبعات عديدة في القرن السادس عشر، كما ترجمت إلى اللغة التركية في القرن الخامس من قبل شرف الدين بن علي الحاج إلياس مع تطوير للآلات.

وفي عام 1778 أخرج جون شاننغ “John Channing” طبقة أكسفورد، وفي فرنسا خرجت طبعة فرنسية عام 1861 عن لوسيان لكرك بعنوان “Le Chirurgie dalbucasis” وأصدر لوكنو “Lucenow” عام 1908 طبقة عربية مصدرة مع أشكال توضيحية، وطبعة انكليزية مع الأصل العربي، ورسم الآلات عن طريق سبنك ولويس ومعهد ولكم في لندن عام 1973، وهي التي اعتمدنا عليها في هذا الكتاب “Spinke and Lewis”، ولقد حظى كتاب التصريف باهتمام عالمي، وكان الكتاب الأساسي للجراحة في أوروبا لخمسة قرون خلت، وقد اقتبس الأوروبيون الكثير من الأشياء وطوروها، ونستعرض أهم الإضافات التي اقتبسها الأوروبيون:

  • دراسة التهاب المفاصل وسل الصلب، ونسبت هذه الأمراض من بعد للإنكليزي بوت وسميت سؤبوت.
  • طريقة فلخر Felcher الألماني المولد من اختراع الزهراوي، أو برفع الوالدة عند الوضع تسهيلاً للولادة.
  • إمبرواز باريه A.Pare في منع كثر من الدم من الأوعية الدموية الكبرى.
  • طريقة معالجة الكسور المفتوحة بترك طاقة في الحبس.

ولا يقف فضل الزهراوي على هذه الأمور فقد كتب السامرائي: “فكان أول من وصف الناعور (الهيموفيلي)”، وأول من ربط الأوعية الدموية بخيوط الحرير، وخاط الجروح بشعر ذيل الخيل، وأول من أشار إلى حالة الحمل خارج الرحم، وإلى المشيمة الميتة في الحبل، وأول من أشار إلى سلس البول بسبب البواسير المهبلية المثانية، وأول من شق حبب المياه أثناء المخاض لتعجيل الولادة، وأول من اكتشف ملقط التوليد قبل جمركية بعدة قرون، وأول من تحايل على فحص الحوض عند البكور عن طريق المقعدة، وأول من وصف ضربات القلب الضائعة، أول من صور الآلة الجراحية المستعملة، فقد وصف حوالي مئتي آلة.

كتابالتصريف

ولقد استعرض الزهراوي في كتابه التصريف لمن عجز عن التأليف جميع الأمراض في المقالين الأولين، ثم الأدوية والمعاجين والترياقات، وتوسع في رصف الأدوية حيث كان له اهتماماً شديداً بها، ومنحها كثير من المقالات من الثالثة إلى التاسع والعشرين، وكرس المقالة الثلاثين للجراحة، فسماها “في العمل باليد من الكي والشق والبط والجبر والخلع”، وركز في مقدمة المقالة على التشريح: “والسبب الذي لا يوجد صانع محس بيده في زماننا هذا، لأن صناعة الطب طويلة وينبغي لصاحبها أن يرتاض قبل ذلك في علم التشريح”، “وقد نبهت في كل مكان يأتي من هذا الكتاب العمل الذي فيه الغرر والخوف، فينبغي لكم أن تحذروه وترفضوه، مثلاً يجد الجاهل السبل إلى القول والطعن، فخذوا لأنفسكم بالحزم والياطة، ومرضاكم بالزمن والتثبت، واستعملوا الطريق الأفضل المؤدي إلى السلامة”.

اقرأ أيضاً: المبادئ العامة للجراحة عند العرب

الباب الأول

في الكي، ويركز الزهراوي مرة أخرى على التمرن: “ألا أنه لا ينبغي أن يتصور على ذلك الأمر الأمن قد ارتاض ودرب في باب الكي دربه شديدة ووقف على اختلاف مزاجات الناس، وحال الأمراض في أنفسها وأسبابها وأعراضها ومدة زمانها”.

وقد صمم الزهراوي عدة أشكال من المكاوي ورسمها في كتابه حسب أعراض العلاج والتدرج ونلخص هنا الاستعمالات التي ما زالت قائمة للكي: 

  • الكي كوسيلة للتعقيم.
  • الكي كوسيلة لعلاج الناصور.
  • في وقف النزيف.

وقد كان الكي يستعمل في كثير من المجالات وما زال يستعجل في الطب الشعبي كثير وقد خف استعماله كثيراً في الطب الحديث وقد خصص له الزهراوي ستة وخمسون فصلاً.

اقرأ أيضاً: الجراحة عند العرب، في الكي والفصد والحجامة

الباب الثاني

في الشق والبط والفصد والجراحات ونحوها، ويضيف هنا أيضاً الآلات التي يستعملها في كل عملية، ويبدأ في وصف الأدوات التي يعالجها من الرأس إلى القدمين في سبعة وتسعين فصلاً، يتحدث فيها في أربعة فصول عن الأسنان وتثبيتها بالفضة والذهب، وقلعها، وكسر الفك وعلاجه، وعن علاج الأورام بالجراحة والسرطان: “وذكرت الأوائل أنه متى كان السرطان في موضع يمكن استئصاله كالسرطان الذي في الثدي أو في الفخد ونحوها من الأعضاء المتمكنة لإخراج عجلته، ولا سيما إذا كان مبتدئاً صغيراً وأما متى قدم وكان عظيماً فلا ينبغي أن تغريه فإني ما استطعت أن أبرئ منه أحداً ولا رأيت قبلي غيري وصل إلى ذلك”.

ثم يتحدث عن أمراض الأطفال الخلقية، كالأطفال الذين يولدون ومواضع البول غير مثقوبة والمقعدة غير المثقوبة ويتحدث عن الطهور.

ثم يتحدث عن حقن المثانة بالزراقات، وفي إخراج الحصاة من المثانة، وعن إخراجها عند النساء: “ثم تسخن عليها عند قبالة نصب الفرج عند أصل الخد”، وهو أول من فعل ذلك.

ثم عن الأدرة المائية واللحمية والمعائية والريحية التي مع دالية وبين علاجها الجراحي وعلاج الفتق الأربي.

ثم يتحدث عن أمراض النساء والولادة، ويصور الآلات التي يحتاج إليها في إخراج الجنين، وهو مخترع الملقط لإخراج رأس الجنين، ويتحدث عن أمراض المقعدة والبواسير والنواصير، وعلاجها الجراحي، ويتحدث في الفصل الرابع والثمانون عن الجراحات فيقول: “فأقول أن الجراحات تختلف بحسب الشيء الذي يكون من الجراحة، وبحسب الموضع الذي يقع عليه الجرح فالأشياء التي تكون بها الجراحات كثيرة كضربة حجر أو قطع سيف أو سكين أوطعن رمح أو عود أو سهم وغير ذلك من أشياء كثيرة، وأما الجراحات بحسب المواضع من الجسم كالجرح الذي يقع على الرأس أو العنق أو الصدر أو البطن أو الكبد ونحوها من الأعضاء، وأني واصف علاج بعض الجراحات لتجعلها قياساً وقانوناً على سائر الجراحات، وأني أبتدئ بجراحات الرأس البسيطة خاصة لأن المركبة سيأتي ذكرها في أول الباب الثالث من هذا الكتاب”.

ثم يعرف العلاج العام لينتقل لشرح جراح البطن وخروج المعاء وخياطتها وأنواع الخياطة والمضاعفات المختلفة ويصف الخياطة مصران الحيوان “وقد يمكن أن يخاط المعاء أيضاًبالخيط الرقيق الذي يسل من مصران الحيوان اللاصق به”.

ولعله أول من استعمل خيوط  Cat Gut، ويتكلم عن بتر الأطراف والدوالي، ولعله أول من استعمل سل العروق بالطريقة الحديثة: “وأما سله فيكون على هذه الصفة تمكن ساق العليل أنكان فيه شعر كثير ثم تدخله الحمام وتنطل ساقه بالماء الحار حتى تحمر وتدر العروق أو يرتاض رياضة مغرية إن لم يحضره حمام حتى يسخن العضو، ثم تشق الجلد قبالة العرق شقاً بالطول، أما في أخره عند الركبة أو في أسفله عند الكعب، ثم تفتح الجلد بالصنانير، وتسلخ الجلد من كل جهة حتى يظهر للحس، وهو عند ظهوره تراه أحمر قانئاً، فإذا خلص من الجلد تراه أيضاً كأنه الوتر، ثم تدخل تحته مروداً، حتى إذا ارتفع وخرج عن الجلد علقه بصنارة عمياء ملساء، ثم شق شقاً آخر بقرب ذلك الشق بقدر ثلاث أصابع، ثم أسلخ الجلد من على العرق حتى يطهر، ثم أرفق بالمرور كما نقلت وعلقه بصنارة أخرى كما فعلت أولاً، ثم شق شقاً آخر أو شقوق كثيرة إن احتجت إلى ذلك، ثم سله واقطعه في آخر الشق عند الكعب ثم اجذبه وسله حتى يخرج من الشق الثاني”، ثم يتحدث عن إخراج السهام وعن الفصد والحجامة وتعليق العلق.

الباب الثالث

في الجبر، ويقدمه بخبرته أيضاً: “وإنما استفدت من ما استفدت لطول قرائتي لكتب الأوائل وحرصي على فهمها حتى استخرجت علم ذلك فيها، ثم لزمت التجربة والدربة طول عمري، وقد رسمت لكم من ذلك في هذا الباب جميع ما أحاطه به علمي ومضت عليه تجربتي بعد أن قربته لكم وخلصت من شعب التطويل واختصرته غاية الاختصار وبينته غاية البيان وصدرت لكم فيه صوراً كثيرة من الآلات التي تستعمل فيه إذ هو من زيادة البيان كما فعلت في البابين المتقدمين”.

يتحدث في الباب الأول عن الكسور بشكل عام عن التشخيص والعلاج، أما الباب الثاني فيتحدث عن كسور الرأس ويصف التربنة: “أما كيفية الثقب حول العظم المكسور فهو أن تجعل المثقب على العظم وتديره بأصابعك حتى تعلم أن العظم قد نفذ، ثم تنقل المثقب إلى موضع آخر وتجعل بعد ما بين كل ثقب قدر غلظ المرور أو نحوه، ثم تقطع بالمقاطع ما بين كل ثقبين وتفعل ذلك بغاية ما تستطيع عليه من الرفق كما قلنا حتى تقلع العظم إما بيدك أو بشيء آخر من بعض الآلات التي أعددتها لذلك مثل الخفق والكلاليب اللطاف، وينبغي أن تحذر كل الحذر أن يمس المثقب أوالمقطع شيء من الصفاق”.

ويتابع وصفه مركزاً على العناية الفائقة إن لا ترجح أو تصيب الصفاق أو الدماغ وعلى إزالة كل العظام والخشونة الناتجة عن العمل.

ويتحدث عن التشخيص والعلاج بالشد والربط والجبائر وعن الكسور مفصلة من الرأس إلى القدمين وعن المدة التي يحتاجها كل كسر على حدة.

وبعد، فإنه من السهل الآن في نهاية القرن العشرين أن ترى بساطة وبدائية الوسائل التي كان الزهراوي يشخص ويعالج بها ولكننا لا بد من النظر إلى الزهراوي كابن عصره واعتباره أنه:

  • قد أضاف وصف أمراض جديدة لم تكن معروفة.
  • أضاف علاجاً جديداً لم يكن معروفاً أيضاً وإذا كانت الجراحة معروفة كصناعة اليد، فإن الزهراوي أولاها اهتماماً جديداً وحاول في ضمن ظروفه أن يعالج بواسطتها ما رآه ممكناً وضرورياً.
  • أضاف آلات جديدة ورسمها وبينها لتلاميذه وهو وإن كان لم يلاق الاهتمام المناسب من معاصريه فإن ما بدأه قد استمر قرون كثيرة حتى وصل إلى المستوى الحديث من الجراحة العصرية ولا بد في هذه المرحلة أن نتذكر أوائل الجراحين الذين وضعوا الأسس في مرحلة صعبة للغاية.
  • ولكن الزهراوي قرأ كتب الأطباء الذين سبقوه فهو يذكر جالينوس وأبو قراط وباول الأجيني من الإسكندرية ولعل الأخير هو الأكثر تأثيراً في أبو القاسم.