أبو مازن .. الصوت الساحر 2/3

أبو مازن الصوت الساحر 23 البداياترحماك يا رب العباد رجائي ورضاك قصدي فاستجب لي دعائي وحماك أبغي يا إلهي راجـيا منـك الرضــا فجــد بولائيهكذا انساب صوت أبي مازن الخاشع في أجواء سيارتي وأنا في طريقي للقائه بعد نشر لقائي الأول معه على الشبكة الإسلامية Islam webوبعد ذلك الحجم الهائل من رد الفعل المتوقع والذي..

البدايات
رحماك يا رب العباد رجائي ….. ورضاك قصدي فاستجب لي دعائي
وحماك أبغي يا إلهي راجـيًا ….. منـك الرضــا فَجُــدْ بولائي
هكذا انساب صوت أبي مازن الخاشع في أجواء سيارتي وأنا في طريقي للقائه بعد نشر لقائي الأول معه على الشبكة الإسلامية Islam web.
وبعد ذلك الحجم الهائل من رَدِّ الفعل المتوقع، والذي سَبَّبَه ذلك الحوار؛ حيث إنه منذ أكثر من عشرين سنة كان مصير هذه الشخصية التي أثَّرت في وجدان الكثيرين مجهولا.
كنت أتمنى أن يحدثني اليوم عن البدايات.
وفي شقته الأنيقة في أحد الأحياء الجديدة في القاهرة كانت جِلْسَتُنَا التي يفضلها؛ بعيدًا عن أجواء العمل في مصنع الصوف الذي يمتلكه قريبًا من بيته.
كان الحوار السابق بين يديه وقد انتهى من قراءته، وقرأ تساؤلي في عيني فقال مباشرة:
– مقال يتميز بالعاطفة، جزاك الله خيرًا.
شعرت أن كثيرًا من تردده السابق حول الحوارات واللقاءات بدأ يزول، فقلت له مباشرة:
– رضوان خليل عنان …
قال:
– من مواليد دمشق 10/2/1952م حي الميدان، ونشأت في حي المهاجرين.
قلت له:
– أنا لم أسافر سوريا، هل تستطيع أن تصف لي دمشق وقتها؟
ابتسم وقال:
– وقتها وحتى الآن تشبه القاهرة القديمة، والمسجد الأموي يقع في مركزها.
– هل سافرت إلى دمشق بعد خروجك من سوريا عام 1987م؟
– نعم، والحمد لله أُغْلِقَتِ الملفات تقريبًا.
قلت له في حذر:
– أريد أن أسأل عن البدايات …
وكأنه استوعب حذري فشجعني مبتسمًا، وقال:
– في الابتدائي كنا من رواد مسجد المرابط في حي المهاجرين، القريب من بيت الدكتور مصطفى السباعي، وكان يحاضر فيه الكثيرون من العلماء في تخصصات مختلفة.
قلت:
– عجيب هذا التوافق؛ مسجد المرابط ، حي المهاجرين، وكأنما ارتبطت حياتك بالهجرة والمهاجرين، والرباط والمرابطين، فخرجتْ في أناشيدك كلمات وألحانًا.
ابتسم وقال:
– هي الشام أرض الرباط ومنطلق الفتح، هكذا طبيعتها التي خلقها الله عليها.
واستمر يحكي …
د. أمين المصري ..
– أولى الشخصيات التي تأثرت بها خطيب المسجد؛ الدكتور أمين المصري، كان أستاذًا للشريعة، وحصل على الدكتوراه من جامعة كامبردج في لندن.
كانت خطبته مميزة بالنسبة لمساجد دمشق كلها؛ كأنه يعرض إسلامًا جديدًا، إسلامًا حيًّا، ليس محفوظًا في دراسة أكاديمية، ولا مطلسمًا في شعائر غريبة عنه … كان يعرض إسلام التغيير للحياة كلها.
– كان ذلك في أي عام؟
– حوالي 1962م وما بعدها.
– كان سنك حوالي عشر سنوات.
– لقد اهتم بنا الشباب الأكبر مِنَّا سنًّا؛ فكانوا يقيمون لنا نشاطًا رياضيًّا وثقافيًّا وتحفيظًا للقرآن، وإلى جانب ذلك كانوا يعقدون لنا دروسًا مدرسية لتقويتنا، كان شعارنا (التفوق العلمي).
– وتفوقتم علميًّا؟‍
– ودخلت المدرسة الثانوية القسم العلمي، ثم كلية العلوم جامعة دمشق، قسم الرياضيات والفيزياء.
– هل لي أن أسأل لماذا هذه الكلية وذلك القسم؟
– لأصبح مدرسًا؛ فالمدرس هو طريق مهم للاحتكاك بالمجتمع.
نظر لي كأنه يلقي درسًا وقال:
– لقد تربينا أن نكون دعاة .. هل تعلم ماذا يعني أن تكون داعية؟ أن تكون مسؤولا مسؤولية كاملة عن دعوة الناس إلى الإسلام، وأن تكون قراراتك كلها في الحياة تخدم هذه المسؤولية.

فكرة الإنشاد
ترك لي دفة الحديث، فأردت أن أديرها إلى جهة أخرى .. قلت:
– نعود إلى الإنشاد؛ كيف بدأ، وما هي ظروفه، وما هي فكرة شرائط أبي مازن؟
قاطعني مبتسمًا ابتسامة دافئة وقال:
– كان النشاط في المسجد متعدد الجوانب كما قلت لك؛ رحلات .. مسابقات إلى جانب ذلك كان هناك النشيد الديني، وكانت الأناشيد حينها تسمى الموشحات، وتدور في خطين؛ إما المديح النبوي أو التسبيحات، وكانت تنتشر في حفلات عقد القرآن.
أذكر من المنشدين المعروفين في ذلك الوقت سليمان داود وتوفيق المنجد.
قلت:
– وأبو راتب، وأبو الجود؟
– أبو راتب بعدي بزمن، ولكن أبا الجود من سني. أنت تعلم أنه الشاعر محمد منذر سرميني.
– أأنشدتَ له قصيدة في شرائط أبي مازن؟
– نعم “رحماك يا رب العباد رجائي” .. وبعض أبيات أخرى كمقدمة لقصيدة الصلاة.
ورددت الأبيات فردد معي:
يا إلهي عبدك العاصي أتى ….. بذنـوب هل له من توبة؟
يطرق الأبواب يبكي ندمًا ….. سوء أيام مضت في الخيبة
– نعم فمنذر من حلب؛ حيث كانت تظلل عليها رياح الصوفية؛ حيث (الحَضَرَات والذكر)، وكان شعره ونشيده في البداية يدور في هذا الجو، ثم تعرَّف على سليم زنجير وكوَّنا فرقة أبي الجود.
– سليم عبد القادر زنجير الذي جمع أشعار الفرقة في كتاب (نشيدنا)، وكتب له مقدمة رائعة الدكتور عبد الله ناصح علوان.
– عندما تكوَّنتِ الفرقة كان سليم زنجير محيطًا بمنذر، وكانت صداقتهما سببًا في نقل منذر من جو التصوف إلى البحث عن شعر الدعوة.
– واضح ذلك عند المقارنة بين شعر منذر الذي يميل إلى النشيد والمناجاة كما هو واضح في قصيدة رحماك، وشعر سليم زنجير الذي يميل إلى القوة المفعمة بمعاني الجهاد؛ يقول في قصيدة “جاهد”:
جاهد في الله أخيَّ ….. جاهد إن كنت تقيًّا

تملك آفاق الدنيا ….. وتلاقي الله رضيًّا

ويقول في قصيدة “أنا مسلم”:
أنا مسلم لن أستكين ….. أبدًا ولن أخشى المنونَ
على اتِّباعِ الحقِّ دومًا ….. أقسمتُ لله اليمينَ

– ومنذر أيضًا له قصائد في الجهاد، ولكن نلاحظ ذلك في الاختيارات الأخرى التي أنشدها أبو الجود بعد ذلك.
– نعم؛ فهناك إحدى عشرة قصيدة من التي أنشدتها أنتَ في شرائط أبي مازن أنشدها أبو الجود، وكلها لشعراء الدعوة الإسلامية أمثال: “جدد العهد وجنبني الكلام”، “يا رسول الله هل يرضيك أنَّا”، “الليل ولَّى”، “هو الحق يحشد أجناده” وغيرها.

التوجهات الفكرية
وأردت أن أدور بدفة الحديث إلى اتجاه آخر فقلت له وأنا أقلب أوراقي أمامي:
– كأن حلب ودمشق ليستا في دولة واحدة؛ فهناك توجه صوفي في حلب، وتوجه دعوي جهادي في دمشق على ما فهمت.
– كانت حلب أميل إلى التوجه الصوفي، ولكن دمشق كانت متعددة المشارب، وكان كلُّ مسجد له اتجاه.
– كان ذلك في أي عام؟
– في الفترة الزمنية من 1970م إلى ما بعدها.
– كان عمرك حوالي ثمانية عشر عامًا وقتها، وهو بداية التكوين الفكري.
– كان هناك اتجاه التصوف في بعض مساجد دمشق، وكان اتجاهًا مُغْرِقًا في التعصب، لدرجة أن المسجد الأموي كانت فيه أربعة محاريب للمذاهب الأربعة، وكانت كل فريضة تقام فيها أربع جماعات .
وكنا في مسجد المرابط نحارب مقولة المتصوفة: (أغلق عقلك واتبعني) وكان لوجود الشيخ الألباني – رحمه الله- أثر كبير جدًّا؛ حيث كان يحارب التعصب، ويدعم تربيتنا على أن نتعصب للدليل لا للأفراد.
ثم كان هناك اتجاه ثالث وسط بين هذا الوعي وذلك التعصب، وهذا اتجاه عامة المساجد.
– والتبليغ؟
كانت هناك بعض الجماعات الصغيرة تأتي من باكستان. فلم يكن هذا الاتجاه منتشرًا.
– والإخوان المسلمون؟
– كان لهم نشاط قبل محنتهم، وذلك قبل عام 1962م، وبعدها لم يكن لهم نشاط واضح؛ فقد كانوا في السجون، ولم ألحق بقادتهم؛ أمثال عصام العطار، والمجاهدين في فلسطين.
– من الإشاعات التي كانت تتردد عنك أنك كنت عضوًا بارزًا من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وكنت من المشاركين في أحداث حماة 1984م، وأنك قتلت فيها، أو سجنت وقتلت في مذبحة (سجن تدمر).
ابتسم وكأنه يعود بالزمان إلى الوراء، أو يعود إليه وقال:
– لم يكن لي ارتباط تنظيمي مع الإخوان، ولكن لا أنكر تأثري الفكري بمنهجهم المنضبط من خلال التربية الأولى في مسجد المرابط، ووجود الدكتور مصطفى السباعي والدكتور أمين المصري.

ميلاد الشرائط
وشعرت أن دفة الحديث اتجهت نحو نقاط ساخنة، فأردت أن أؤجل الحديث عنها، فقلت بعد لحظة سكون:
– نعود إلى الإنشاد والبداية.
قال موافقًا على نقل دفة الحديث:
– البداية كما قلت من قبل في المسجد؛ كنا نشارك في بعض الأناشيد حتى رشحني بعض الأخوة لأنشد بمفردي، وكان لي صديق ونحن في الصف الأول الثانوي فأحضر آلة تسجيل -وكانت تلك الأجهزة نادرة في تلك الأيام- فشجعني أن أسجل في حجرة مغلقة، وكان أول نشيد (أخي أنت حر) لسيد قطب.
ولم نسجل النشيد كله؛ فقد سجلت مذهبًا و(كوبليه) واحد، واحتفظنا به، ولاحظت أنه بدأ يتداول، فأعطانا ذلك حافزًا قويًّا، وكبر الموضوع.
وأحضرنا آلة تسجيل (بَكَر) كبيرة، وجمعنا الكورال من الأخوة في المسجد حتى تمت القصائد، ثم تم تقسيمها، فخرجت في تسعة شرائط.
– هل كان هناك نظام محدد للتقسيم؟ موضوعي مثلا.
– لا؛ ولكن بعد أن انتهينا من الأناشيد كلها قسمناها على الكاسيت فأصبحت تسعة.
– في كم سنة استغرق تسجيل التسعة شرائط؟
– من سنتين إلى ثلاثة.
– أي بدأتَ في الصف الأول الثانوي وتوقفت عند دخول الجامعة؟
أليس شيئًا عجيبًا أن تأخذ تجربة شباب في سن الخامسة عشرة إلى الثامنة عشرة هذا الحجم الواسع من التأثير في محيط الدعوة، مع روعة الكلمات والألحان؟!
– قل: بتوفيق الله تعالى، إلى جانب العمل الجاد.
– والإخلاص.
– أسأل الله أن نكون كذلك.
– كلمات بمثل هذا الانتقاء، وألحان بمثل هذه الروعة، ولم تكونوا متخصصين؟!
– كيف كنت تختار الكلمات، وهل نظمت الشعر؟
– بداية أنا كنت قارئَ شعرٍ جيدًا، ولم أكن أنظم الشعر، فكنت أتذوق الكلمات؛ مثلا: قصيدة (مسلمون) للشيخ القرضاوي كانت منشورة في عدد من أعداد مجلة العربي، وكتبها أحد الإخوة على سبورة مسجد المرابط، وفي صلاة المغرب قرأتها، فلحَّنـتها وسجلتها.
وقصيدة (الصين لنا) لمحمد إقبال كان الإخوة يعلموننا إياها كشعر، وكنا نعرفها جيدًا فلحنتها وسجلتها.
وبعد حصولي على ديوان (الله أكبر) للشيخ إبراهيم عزت لم أسجل لشاعر آخر.
قلت مبتسمًا:
– نعم؛ أخبرتنا في اللقاء السابق أن عندك عقدة تذوق لأي شعر بعد شعر إبراهيم عزت.
– لقد شعرت أن هذا الرجل يكتب ما لو كنت شاعرًا لكتبته.
– لنا لقاء خاص حول إبراهيم عزت إن شاء الله.
– يا ليت.
– وجودة سعيد، وأمين المصري، وهؤلاء الذين أثروا في مسيرتك الفكرية سنعود للحديث عنهم إن شاء الله.
ولكن نعود إلى النشيد؛ هذا بالنسبة للكلمات، وبالنسبة للألحان؛ هل لحن لك أحد؟
– لا؛ معظم القصائد لحنتها بنفسي.
– ولكن بعض القصائد التي أنشدتها كانت أناشيد يرددها رجال الدعوة، وجوالة الدعوة في الأربعينيات في مصر؛ مثل: “هو الحق يحشد أجناده”، “يا رسول الله هل يرضيك أنَّا”، “في حماك ربنا”، وغيرها. ألم تصلك ألحان هذه الأناشيد وتأثرت بها؟
– قليل جدًّا؛ مثل: نشيد (العلا إن العلا) سمعت لحنه من الدكتور أمين المصري، وأخذت 80% من هذا اللحن، وقصيدة مثل: (يا رسول الله هل يرضيك أنَّا) تأخر لحنها جدًّا وأجلتها كثيرًا؛ لأن بحرها كان صعبًا جدًّا .. كنت أفكر أن ألحنها على لحن نشيد الجزائر الوطني.
سمعت نشيد (مسلمون) يومًا يردده الشباب، وكان الشيخ يوسف القرضاوي يردده معهم ونحن في الجامعة، فكان لحنه هو ما لحنته أنت، بل وكثير من أناشيدك أعيد تلحينها، ولكن يشعر المستمع أن الأفضل أن تظلَّ كما لَحَّنَهَا أبو مازن.
– هذا من فضل الله.
– ما هي مشروعاتك القادمة إن شاء الله؟
– كنت أنوي تلحين بقية ديوان الشيخ إبراهيم عزت، وأعمل فيه هذه الأيام.
  كان الوقت كأبيات قصيدة جميلة، وسرعان ما انتهى كأنغام نشيد عذب يحلو تكراره.
  ولكن حان الفراق إلى لقاء، وكان آخر سؤال وجهته له وأنا أبتسم:
– وكيف لُقِّبَ المهندس رضوان بأبي مازن؟
   قال وهو يبادلني الابتسام:
– هكذا أهل الشام يحبون الألقاب، وكان هذا لقبي من صغري.
قلت مداعبًا:
– ورزقت بأربع بنات وبقي (مازن).
قال:
-وكان عندنا مازن، ولكنه توفي صغيرًا، كان توأمًا لابنتي الصغيرة، وأشار إلى ابنته الرقيقة ذات السبع سنوات التي جاءت لترحب بنا.
  وانطلقت على وعد بلقاء، ولا يزال صوته الدافئ يترد في مسامعي:
  حبيبتي بلادي …
وكلهم بالأمس كان في الهوى متيَّمًا
وأين هم في ليلك الحزين يا بلادي؟
وأين يا حبيبتي غناء شاعرك
قد سال بحره منغَّمًا مِنْ بسمتك؟
وأين يا حبيبتي يمين عاشق
أتاك يسبق الرياح كي يرى بجانبك
الرعب يسبق الخطى لخصمه،
وألف سهم للصدور تفتدى بسهمه
وحفنة الرمال من يديه
تملأ العيون بالعمى
وسيفه بريقها صواعق
ستحفظ الحمى
ستحفظ الحمى
ستحفظ الحمى …
وحانت مِني التفاتة إلى الخلف حيث هو، فوجدت ابتسامته لا زالت تملأ وجهه،
وانطلقت بسيارتي وصوته ظل يجوب أجواءها:

انشر ضياءك مشرقًا متألقًا يا أخي
متلألئ القَسَمَاتِ حلو المَبْسَمِ
وابعث نداءك عاليًا وأقرع به
سمعَ الغُفَاةِ الغافلين النُّوَّم
فنداؤك العلوي يخلق هِزَّة
بمسامع الصَّخرِ الأصمِّ الأبكم 
                             وإلى اللقاء في بقية الحوار والجزء الثالث
                                   القاهرة مايو 2002م           &nbs

Source: islamweb.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *