أجمل مكان في بلدتنا…
[wpcc-script type=”f26434164d4afdd0a76b52b2-text/javascript”]

قبل أسبوعين، أعلنوا في بلدتنا أن على المعنيين بإجراء فحص كورونا الاتصال الهاتفي للحصول على موافقة، وسيجري أخذ العيّنات منهم في مقبرة البلدة.
المقبرة عمومًا، مكان مثير لتشاؤم الكثيرين لأسباب معروفة.
إلا أن مقبرة بلدتنا لها ما يميّزها ويجعلها مكاناً مريحاً، فقد أقيمت على مساحة أربعة عشر دونماً في وسط كروم الزيتون، على أراضٍ مصادرة من أبناء القرية ممن رُحِّلوا في عام النكبة.
المقبرة جديدة، أطلقوا عليها تسمية مقبرة الشهداء لأنها افتتحت عام 2006، يوم سقطت قذيفة ضالة في وسط القرية من طرف حزب الله، فاستشهد شابان كانا أول من دُفن في تربتها، وبسببهما -رحمهما الله- أصبحت أمرًا واقعًا، بعد رفضٍ ومماطلةٍ طويلة من قبل السُّلطات.
سُيّجت مقبرتنا بأشجار زينة، مثل السّرو والصبار والوزال والمجنونة والخروع، وبعض أشجار مثمرة، مثل البرتقال الكبير والصيني الصغير، والليمون والتين والرّمان، والزيتون الموجود أصلاً.
فيها مقاعد خشبية ودكك من الحجر والإسمنت المسلّح، للاستراحة ولقراءة القرآن أثناء الدفن، ولمن يحبّون الابتعاد عن الزّحام لتبادل بعض الكلمات الخاصة فيما بينهم.
في طرفها الجنوبي غرفة لغسل وتكفين المَيْت، فيها كل المتطلبات التي تسبق الدفن، من ماء ساخن ودلاء وقطع صابون وألياف وزجاجات زيوت عطرة، وإلى جانبها غُرفة مُصلّى، كذلك يوجد مكتب صغير لجمعية خيرية لدعم الطلاب الجامعيين.
فيها خيمة متنقلة من قماش أزرق وأعمدة من حديد، تُستخدم في الأيام الماطرة وأيام الحرّ الشديد، للتخفيف عن من يقومون بمَهمّة الدفن.
يحيط بها أنبوب مياه وحنفيات موزّعة على مسافات متساوية، وأباريق بلاستيكية لسقاية الأزهار، فترى بعضَ المشيعين فور وصولهم يتناولونها ويسقون أضرحة أعزّائهم.
فيها مصابيح كاشفة تمكّن من الدّفن ليلاً، وجرّافةٌ آلية صغيرة لحفر الأضرحة، وسيارة مغلقة لنقل الموتى.
توجد مساحة واسعة مظلّلة، تقي من المطر ومن لهيب الشمس، حيث يسجّى الفقيد ويصلى عليه.
معظم هذا جُمع من تبرعات أهل الخير، فما يدفعه مكتب الأديان التابع لوزارة الداخلية لا يكفي.
زُرت في حياتي مقابر كثيرة، ولكن لا يوجد أجمل من مقبرة بلدنا، رأيت مقابر واسعة وحديثة، ولكن من أين لها هذا النظام والنظافة والزهور التي تكسو كل الأضرحة؟
ما من غريب دخلها إلا وقال، نحسِدُكم عليها، وليس نادراً أن ترى أحدهم ينتحي جانبًا عن المشيّعين ويشهر هاتفه ليلتقط صورة لها من زاوية أعجبته ليرسلها إلى أصدقائه، وأنا شخصياً فعلت هذا أكثر من مرّة.
الطريق إليها سهلٌ وشبه معبّد، وهناك متسع لعشرات السّيارات، وإذا شئت أن تمشي قليلا، فبالإمكان ترك السيارة في موقف محطة الوقود القريبة أو على جانبيّ الطرق الترابية الفرعية في السهل ووصولها مشيًا، وكن مطمئناً، أينما توقف سيارتك بأنه بعد عشر دقائق لن يبقى أحدٌ هناك، رغم جمال المكان، فلا أحد يرغب بقضاء بقية نهاره أو سهرته في المقبرة.
في كل مرة أشترك في تشييع شخص ما، أزور والديّ، أذهب إلى والدتي أولا، أتلو لروحها الفاتحة، أسقي ضريحها، ثم أنحني لأقتلع الأعشاب الغريبة، أسمعها تقول لي: يِسلموا إيديك يمّا، ولكنها كعادتها لا تريد جميلا من أحد فتستأنف: لا تغلّب حالك يمّا..
-لا يمّا حبيبتي، أيّ غلبة؟
أمرُّ بضريح سيدة كانت من أمهر الطاهيات في إعداد كبّة الأعراس، أتذكر اعتناءها الشديد بمظهرها وبكحل عينيها، وأساور من ذهبٍ في ذراعيها.
أنتقل إلى والدي من الجهة الأخرى، أقرأ له الفاتحة، ثم أحضر ماءً لتطرية التربة، وأقتلع أعشاب النّجيل والسِّعد وبعض الزهور الجافة، أرى ابتسامته التي كان يلاقيني بها دائماً، وأسمعه يقول: الله يرضى عليك يابا، وكما عهدته قنوعًا جدًا، يضيف: لا حاجة لكل هذه الزهور، الميرمية تكفي، ثم بصوتِه العقلاني الواقعي: يعني شو الفرق بالنسبة للميت!
ألتفت إلى ضريح جاره، أبناؤه في بلاد الله الواسعة، أشعر بأن لجار والدي حقاً عليّ، أملأ الدلو وأسقيه، ثم أقتلع ما يمكنني من الأعشاب الغريبة، أشعر براحة، وكأن والدي يراقبني مُستحسنًا ما أفعل لجاره.
بعد ثلاثة أرياف، أرى ضريحًا لصديق العائلة، كان هذا الرجل صعب المراس ودائم التذمّر، كان والدي يحتويه بصبرٍ عجيب، أنحني عليه لأقتلع العشب الجاف، فيتّهم أبناءه بإهماله.
أمضي في جولتي إلى آخر، هذا لم أكن متأكدًا من رحيله، الآن تأكدّت، لن أخطئ في سؤال ابنه أو ابنته عن حاله، لقد حدث وتعرّضت إلى موقف محرج فسألت أحدهم عن صحة الوالد، وتبين أن الوالد في العالم الآخر منذ سِتّ سنوات، لهذا لا أجازف ولا أسأل أحدًا عن صحة والده أو والدته، إلا إذا كنت متأكدًا بأنه ما زال على قيد الحياة.
هذا الرجل كان يطحن الحجارة بكفيه، أبتسم إذ أتذكّره يتحدى زملاءه على مسمع من المارّة، متباهيًا بقدرته الجنسية على اختراق الحائط.
هذا رجل أعمال غني، أدركه الزهايمر في سنيه الأخيرة، كسوا ضريحه بحجارة بيضاء وملساء تختلف عن حجارة الآخرين.
وهذا يعمل أبناؤه في صناعة الرّخام، ولهذا تفننوا في شاهد ضريحه، وآخر يعمل ابنه جنائنياً، فبالغ بأنواع وكثافة الزهور على الضريح.
هذا قريبي الذي كنت عندما أتبادل معه أطراف الحديث، أتوقع منه جُمَلا مثل: «يقول جبران خليل جبران في كتاب العواصف في صفحة ثماني وثلاثين..».
أتوقف عند شاهد رجلٍ عُرف بشقاوته، ضريحه مكسو بالبَسلة ذات الزهور الزرقاء، نُقش على شاهد ضريحه بيتٌ من الشعر:
«أيا حاسدًا لي على نعمتي-أتدري على من أسأتَ الأدب».
أبتسم وأقول له: من يحسدك يا رجل، وعلى ماذا؟
فوق الأضرحة وبين الشواهد تصفو النفوس، نـتأمل ونتحدّث بروح مختلفة، عن تلك التي نحملها قرب البحر، أو خلال زحمة السير، أو في حفل زفافٍ، أو خلال لقاءٍ غرامي، لكل مقامٍ مزاج.
هنا حتى الخصوم ينظرون إلى بعضهم بتسامح ورحمة.
كان بعض الكبار يقولون: إن شاء الله نجدُ من يشيّعنا ويدفننا!
كنت أفكّر، إذا وضعنا الحروب وكوارثها جانباً، فلا شيء يمنع من تشييعٍ ودفنٍ لائق لكل الناس، إلا أن ما يجري في هذه الأيام لم يخطر على بال، يُعلنون عن وفاة شخص ما، ثم يؤكّدون بأن الجنازة ستقتصر على عددٍ محدودٍ، ولا يوجد بيت عزاء، ولا تقديم تعازٍ، و«ذلك حرصاً منا على سلامتكم، بسبب الظروف التي تمرُّ بها البلاد والعالم، ولا أراكم الله مكروهًا بعزيز».
