أحاول قتل أبي
[wpcc-script type=”bbbf9efb06660ef7ac5aa8be-text/javascript”]
ومن الرجال من يكذّب الموت، أمّا أنت فسخرت منه وهزمتهُ!
قلتَ: لغتي حصاني، فاكتسبتَ الجلدَ، لتروضَ الحصانَ، وتسير بهِ حيث النبعَ ليشربَ، وتشربَ أنتَ نزفَ الأرض، النازّ من بين صخور كتيمة، كلمتها، حتى ردّت عليك وآختكَ، كأنَّ شياطينَ الوادي، هي نفسها صخور المرتفع، تزوجتَ المكانَ ليكونَ شريكك في الحياة، وأنجبتَ أطفالاً يكبرون فجأة مثل شجيرات موسمية، ومثل حيوانات، وبدلا من مواساتك في أولادك المفترضين ازددتَ وجعا آخر، كظمتَ عليه بأخلاق الفرسان الذين قرأت عنهم، وأصبحت واحداً منهم وقائدا لهم بغياب المحاربين في استراحاتهم، لا تبتئس إن قالوا: شاعر الأرض المحتلة أو المحروقة، أو كنت ابناً للمقاومة أو أباً لها، ونفوا عن نصك الجمر الذي يعتمل في صدره، هنا أنت الطائر الذي يقوى جناحه على حمل جبل وإلى مسافات بعيدة، كأن تكون المسافة من حلب إلى الأندلس، أو من البروة إلى نزق مهاجر في شارع الأليزيه الفرنسي، أو إلى التابوت الملفوف بعلم ليس لدولة وإنما لأشخاص، هل ستموت إذن وكيف؟
«أسباب الموت كثيرة /من بينها وجع الحياة»
صدقتّ، لا تمت إذن، الحياة أعطتك القصيدة، عش بها قليلا ريثما تحلو الأيام، فترى كل شيء من نافذة الأحلام، ومن الشرفة التي تطل على أوجاع الآخرين هؤلاء الذين يعذبوننا بجهلهم، فلا يقرؤون القصيدة بحركاتها، وإنما بالإشارة إلى الموت الكثير في إيقاعها الرتيب، لماذا أفهمَني القارئُ بأني أسَّرُ بمحمود درويش كمعلم، ينوب عني كلما أردت كتابة ، يتلمسون روحه فيها ويقنصوني هناك ، أرتب هزيمة أخرى في كتابة الشعر، وأجر الويلات للغة وأخنق المعنى، لم أزعل كثيراً قبل أن أكبر وأبحث عن شخصي، بعيداً عن هذه الأسطورة التي تعبت وأنا أصرخ : ما المانع من الإخلاص لها، أنها أسطورتي الشخصية، كيف أقتلها.. أقتلُ أبي؟!، حالنا مع آبائنا لا نقتلهم، وإن كرهناهم يوماً، يقول مونتيرلان: إذا كنت عاجزاً عن قتل من تدعي كراهيته فلا تقل أنك تكرهه، أنت تعهر الكلمة « وتضاجع أولادها واحداً واحداً، هي ستكرهك أيضاً.
هو ليس أخي، وسمير أخوه الأصغر (ابن أكثر من أب) ليس أوسَم مني فيكون أنيقاً في حزنه، ولا أكثر دمعاً فيبكيه ، ولا اكبر حافظة فيؤنس الآخرين بغيمته الرطبة ، ويقرب بيننا ووحوش يستأنسها، ويربيها في حديقة ، كانت جزءً منه وكان شجرها ملائكة مصطفة تنتظر عبوراً مدهشاً لأحد ما، أحمل حقيبته وأفليها في مكان بعيد، تحتدم فيه الشياطين التي أوهمتها بالغنيمة، فصارت عوناً مخدوعاً، يشاطرني بحثي عن نص ما، أكنت أنتظر موته ، وأصدق الأصدقاء الذين كلما ألمت به قصيدة عضال، بأنهم قرأوا في عيني فرحاً ، نزوة انتهازي وزهو منتصر، وكأن المملكة ستؤول لي بأشيائها الغريبة التي لا تملَك ، فلا أولاد ولا نساء سأرثها منه، والمال مالم يقله، كنز مرصود ،لا يمكن الوصول إليه إلا بشيفرته ، بصمة روحه ، هواه الأموي من الجليل إلى الأندلس، إلى فرس (شموص) وحدهُ من راهن عليها وكلمها وعلمَّها أن الأرض جميلة، وسعيدة وتستحق الفارس الحق يطويها ، كما تطوي حمامات دمشق القديمة زوارَ المسجد الأموي.
كيف لي أنا الصغير في عجالة، المأخوذ فزعاً أن ألمَّ بكل سموات الكبير، وأنظر إليها فلا أراها كبيرة، وأشعر بقزمي الذي صار يكبر فيَّ، وينكأ جرحاً كنت أنوِّمه، ليته لم يولد ولم أقرأه كنبي، على الأقل إلى أن وعيت الفرق بين الأنبياء والشعراء، «فالشعراء يتبعهم الغاوون « كان ذنبي أن أحببته أكثر من المتنبي والنبي.
يريدُ الشاعرُ قتل شاعر سواه، قتلتَ المتنبي ومحبيه الذين مدحهم وكانوا يعرفون كذبه في مشاعره وعلو معناه الذي يغطيه ويستره من شرٍ داهمٍ، ويحميه من كلمة أردته قبل السيف.
«تلك غزالة سبقت جنازتها» أو حمامةٌ، طار الحمام من (هيوستن)، حط الحمام، صارت الجملة مِلكَنا فلا نضعها بين مزدوجتين، وصارت كل كلمة تحيل للبكاء، نحن الذين فرحنا بغلطة المذيعة المتعمدة ربما «محمود درويش في ذمة الله، نتمنى له شفاءً عاجلاً» نعم شفاؤه، سيبرأ من جروحه وأعدائه، ولأننا معه، سنتخيل عدوه بأخلاقيات فارس من القرون الوسطى، ينحني له، ويقدر شجاعته في الرحيل.
« في زمن السيف والمزمار بين / التين والصبار. كان الموت أبطأ / كان أوضح. كان هدنة عابرين على مصب النهر» ما كان بطيئاً ولا واضحاً، كنت أتوهم أنه لا يموت، وأن عبارة شاعر الثورة والمقاومة، أبلغ موتاً بالنسبة لرجل يروم الخلود بالكلمة، لا يستجدي قارئه، ولا يخطب وده بنصِ الستينيات» إذا ما جعتُ آكلُ لحم مغتصبي».
« لا تنس قبرك هذه المرة « ولا تنسنا
السومرية تعبت من حمل جرة الصدى بانتظارك، ستكسرها وسترى صورنا الباهتة على قطع الصلصال، حينها تكون أميرنا نحن الحاضرين وستقولُ: « وجدت نفسي حاضراً ملء الغياب « قلتَ، وتقول « كلما فتشت عن نفسي وجدت الآخرين، وكلما فتشت عنهم لم أجد فيهم سوى نفسي الغريبة، هل أنا الفرد الحُشُود؟ « نعم أنت الفرد الحشود
مرت سنوات وأنت لست بيننا، وإذ نتباهى بظلالنا بعد الظهيرة نلمح ظلك أطول من ظلنا، نسأل كيف اكتسبت هذه القامة المديدة، بحيث كلما تناوقنا رأيناك أطولُ، كثر هم الذين يخبون بخطاهم ليكونوا شعراء بنبرة الصوت والبصمة والجملة العصية، بحيث الموسيقا أسرابها التي تمر من فوق الخلق، وما أن تقترب يرهفون السمع إلى أنينها وبهجتها، بلا مترجم، وبلا وسيط يخفف من وقع المذهل الذي ينسي الآخر اللغة والهوية، كأنه المنتصر إذ هجن روحه مع أرواح أخرى، كانت روحك الأكثر وتشعل القناديل في سرداب الأيام المجهولة المسورة باللغات الكثيرة وهي تحنو على بعضها كفراخ القطا، كتهاديها من شح إلى رشوش الماء والعشب، يحملنا جميعا سفين الإيقاع، فنحج إليك غير عابئين بالخسارة المحتملة وما من خسارة سوى أننا نحن معشر الشعراء سنفقد ثقتنا بأقوالنا، وسنكثر لنقلدك، لنقتلك، بينما تضحك أنت وتتركنا نسقط على رؤوسنا، فلا أحد عاقل يسند قاتله. كثر الشعراء منهم من يعد أخطاءك النحوية أو يتقصى أخطاءك اللغوية، ومنهم من رأى كسورك الوزنية، لكن كما لا أثر للفراشة، لا أثر لأصابعهم على غبش نافذتك، أو الطمي الذي يغطي قبرك.
قُل فينا كلمة أخيرة، لنختبر نَصَّنا، حينَ توهمنا ورحنا نجربُ غيابك وكلَّ حيلنا، كنتَ مطمئناً أنك احتكرتَ» خيمياء» اللغةَ، لغتك، تلك التي يسمعها الغريبُ عنها، فيأخذ بها، كما لو أنها الموسيقا ذاتها، فلا حاجة لوسيط لغوي بينك وبينه.
كُل السهامِ التي صوبناها إلى كتابتك، ارتدت إلينا وأصابتنا في مقتل.
التوقيع: أحدُ الشعراءُ التائبين من إثمِ الشروع في قتلكَ كأب.
محمد المطرود