أخطأت.. بين التاء المفتوحة والتاء المضمومة!

إن عدم الاعتراف بالخطأ ظاهرة منتشرة، وخاصة في عالمنا العربي والإسلامي، وتمثل داء عضالاً تعيش الأمة آلامه، وتعاني مآسيه في كل يوم تتأخر فيه عن سبيل التقدم، وكل يوم تشغل فيه بنفسها عن عدوها...

لو كان هناك خُلُق في هذا العصر يتطلب تعلمه مدرسة خاصة به، ويحتاج إلى تسخير وسائل إعلامية تعنى بنشره والحث عليه، لكان هذا الخُلُق هو الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الحق! كم هي الكوارث التي نزلت بالأمة، والفتن التي ظهرت، والانشقاقات والأزمات والتناحرات التي تولدت جراء فقدان هذه الفضيلة! حين تنسى النفس أنها عرضة للوقوع في الخطأ، وأنها ظلومة جهولة، وأنها أمارة بالسوء، وحين تظن أنها معصومة الجانب، مرفوعة المقام، رأيها صواب لا يحتمل الخطأ، وفكرها معصوم لا يقبل المراجعة؟!

إن كلمة “أخطأتَ” (بتاء مفتوحة) نسمعها كثيراً، وهي في مجال النصح خير، لكن بعض الناس تجاوزوا بها الحدود، فصار يتجرأ على قولها من لا يعلم، ومن لا يفهم، لمن لا يستحق، وصار مألوفاً أن نرى ونسمع من يتعدى على الدعاة والعلماء وغيرهم بالتخطيء، ويتطاول عليهم بالتجهيل، وهو لم يصل في العلم إلى ما وصلوا إليه، ولم يطلع على ما اطلعوا عليه من الأمور والأحوال.

أما كلمة “أخطأتُ” (بتاء مضمومة) فهي كلمة تكاد ألا توجد في حياتنا اليومية والشهرية والسنوية، سواء على مستوى كثير من الأفراد من العامة والعلماء والقادة، وعلى مستوى كثير من الجماعات والتيارات والتوجهات الفكرية والسياسية.

إن عدم الاعتراف بالخطأ ظاهرة منتشرة، وخاصة في عالمنا العربي والإسلامي، وتمثل داء عضالاً تعيش الأمة آلامه، وتعاني مآسيه في كل يوم تتأخر فيه عن سبيل التقدم، وكل يوم تشغل فيه بنفسها عن عدوها، وكل يوم يضرب فيه بعضها رقاب بعض، وكل يوم يتسلط فيه عدوها عليها.

وأعراض هذا المرض كثيرة نراها ظاهرة في أزماتنا ومشكلاتنا وخلافاتنا، ومن ذلك:
– تكرار الأخطاء نفسها، والوقوع فيها مرات عديدة بسبب العناد والكبر عن العودة إلى الحق.
– ضياع فرص الإصلاح والتصحيح.
– تأخر المجتمع عن غيره من المجتمعات في مجال التطور والتقدم.
– ضياع الجهود والأوقات في الحروب الكلامية والمهاترات.
– نشوء الفتن والانشقاقات في المجتمع.

ولطبيعة النفس دور كبير في النفور من الاعتراف بالخطأ، حيث تسعى النفس المتكبرة المتعالية إلى الظهور أمام الآخرين بمظهر العصمة والارتفاع عن مستوى الوقوع في الأخطاء، كما أن مكانة الإنسان الاجتماعية، كالمنصب والجاه والقيادة والشهرة، لها دور كذلك في دفع النفس إلى اختيار طريق التعصب والإصرار على الخطأ وهجر الرجوع إلى الحق، كما أن المنشأ والتربية من أكثر الأمور الدافعة والمسببة لذلك، حيث تؤثر بيئة الإنسان وتربيته الأولى في سلوكه ومواقفه، مما يستدعي مراعاة تأصيل خلق مراجعة النفس وتصحيح أخطائها في نفوس النشء وتربيتهم عليه، وفي نفوس عامة الناس.

الرجوع إلى الحق لا شك ثقيل على النفس، وخاصة مع وجود الأسباب السابق ذكرها، ويحتاج إلى نوع من الشجاعة، وقدرة على قبول الاعتراف بالخطأ ضمنا كان أو علنا، لكنه مع ذلك ينطوي على خير عظيم وحكمة بالغة، ولو وازن الإنسان بين التمادي في الخطأ وبين الرجوع إلى الحق بتجرد وإخلاص؛ لوجد أن الرجوع إلى الحق يرفع من مقام صاحبه، ويدل على رجاحة عقله، وبعد نظره، وسلامة مقصده، إضافة إلى ما قد ينطوي عليه من درء لفتنة، أو تجنب لأزمة، أو صيانة من ضلال، أو حفظ لأموال ونفوس.

وحين تريد النفس عند هذه الموازنة الصعبة شاهداً يؤنسها ودليلاً يرشدها، فهناك في كتاب الله _عز وجل_ الشاهد والدليل، لقد جاءت فرعون الآيات البينات على خطأ موقفه وسياسته، قال _تعالى_:”وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ” (الأعراف:130)، وعرف فرعون الحق وأيقن هو والملأ أنهم على خطأ، لكنهم:”وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ” (النمل:4)، ولم يستدرك فرعون والملأ معه الأمر ويرجعوا إلى الحق، فتسبب في ضلال قومه، وهلاك نفسه وقومه في الدنيا والآخرة، نعوذ بالله من الفتن، قال_ سبحانه_:”وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى” (طـه:79) ، وقال _تعالى_ : “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعـَوْنَ بِرَشِـيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُود” (هود: 96-99).

وفي المقابل نجد قرار إخوة يوسف _عليه السلام_ بالعودة إلى الحق، والاعتراف بالخطأ، سبباً في نيلهم دعاء أبيهم يعقوب _عليه السلام_ بالاستغفار، والتئام العلاقة بينهم وبين أخيهم يوسف _عليه السلام_، قال _تعالى_: “قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)” (يوسف: 97،98)، مع ملاحظة أن تماديهم في خطئهم تسبب في ما هو معروف من ابتلاءات ألمت بهم وبأبيهم وأخيهم _عليهما السلام_.

وصفحات التاريخ القديم والمعاصر ملأى بالمواقف العظيمة التي تمثل فيها هذا الخلق الفضيل، والمواقف المشينة التي تنكبت طريقه وحادت عنه، فقد تراجع الفاروق وهو المحدث الذي وافق رأيه القرآن في مواضع عدة، تراجع عن قرارات وآراء له لما رآها مجانبة للصواب، سواء في خلافته أو قبلها، ولم يجد غضاضة في رجوعه إلى الحق، فمن ذلك رجوعه عن رأيه بعدم قتال المرتدين إلى رأي أبي بكر بقتالهم لما تبين له صوابه، وقال: “فما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر _رضي الله عنه_ بالقتال، فعرفت أنه الحق”، فكان في ذلك الخير كل الخير، حيث تم القضاء على حركة الردة، والتمهيد لبدء الفتوحات الإسلامية المباركة.

إن الذي يأبى الرجوع إلى الحق، ويأنف من هذه الفضيلة؛ إنما يحكم على نفسه بالوقوع في رذيلة خبيثة، هي الكبر الذي ورد فيه ما ورد من الوعيد، والإصرار على الخطأ والتعصب الأعمى له، والذي يقود إلى المهالك، وتنشأ عنه الفتن والإحن، وقد قال _صلى الله عليه وسلم_: “الكبر بطر الحق وغمط الناس”.

الرجوع إلى الحق ليس محصوراً في صورة الإعلان الصريح، بل يكون معلناً، ويكون ضمنياً، والرجوع الضمني إلى الحق، يكون باتخاذ إجراء عملي يصحح الخطأ السابق، والرجوع المعلن يكون بالقول والفعل، كما فعل مثلاً مؤلف كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) الشيخ الفاضل عبد الرحمن الجزيري _رحمه الله_، حينما نبهه بعض الناس على أخطاء في كتابه، اعترف بما وقع فيه من أغلاط، وعمل على تصحيحها استجابة للنصيحة، قال _رحمه الله_: (جاءتني رسائل كثيرة … تشير بإعادة النظر في الجزء الأول من كتاب الفقه؛ لأنه يشتمل على أغلاط فقهية، وإيجاز في مواطن كثيرة، مع ما له من المزايا… فتصفحته بإمعان فوجدت هذه الملاحظات لها محل من الاعتبار… وعلى هذا رأيت إعادة النظر في الكتاب من أوله إلى آخره…) ، ثم ذكر ما وقع من خلط في الكتاب الأول وخطأ في طريقة تصنيفه، وما أدخله على الكتاب من إصلاحات.

وإذا كان الرسول _صلى الله عليه وسلم_ شرع لنا الرجوع عن اليمين التي نقسم فيها بالله _عز وجل_، وما أعظم القسم به _سبحانه_، إذا كان هناك خير من المقسم عليه، فقرار أو رأي خطأ نرجع عنه إلى ما هو خير منه أسهل كثيراً من الرجوع في يمين، خاصة إذا كان هذا الرأي أو المسار الخطأ يؤثر في مصير أسرة أو مجتمع أو أمة، قال _صلى الله عليه وسلم_:”إذا حَلَفْتَ على يمينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خيراً منها فَأَتِ الذي هو خيرٌ وَلْتُكَفّرْ عن يَمِينِكَ”، بل تأمل الحديث الآتي فهو أعجب منه، حيث ورد النهي عن الإصرار على يمين يقع بها الضرر، قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: “والله لئن يلجَّ أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفَّارته التي افترض الله عليه”(1).

قال في الفتح: “قوله: “والله لئن يلج” … من اللجاج وهو أن يتمادى في الأمر ولو تبين له خطؤه، وأصل اللجاج في اللغة هو الإصرار على الشيء مطلقا… قوله: “آثم” بالمد أي أشد إثماً. قوله: “من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه” … قال النووي: “معنى الحديث أن من حلف يميناً تتعلق بأهله بحيث يتضررون بعدم حنثه فيه فينبغي أن يحنث فيفعل ذلك الشيء ويكفر عن يمينه، فإن قال: لا أحنث بل أتورع عن ارتكاب الحنث خشية الإثم فهو مخطئ بهذا القول، بل استمراره على عدم الحنث وإقامة الضرر لأهله أكثر إثماً من الحنث، ولا بد من تنزيله على ما إذا كان الحنث لا معصية فيه”.

وأخيراً.. إن معرفة صحة ما عليه النفس أو خطئه تكون بأمور كثيرة؛ منها مراجعة النفس، والاستشارة، وطلب النصيحة، وسؤال من هو أعلم وأهل الخبرة وأهل الاختصاص، وموازنة المصالح والمفاسد، وأساس هذا كله الكتاب والسنة، وما أجمل أن يكون الرجوع إلى الحق نابعا من محبة الحق، ورغبة في الوصول إليه، وما أجمل أن نرى تلك الصفة قد غلبت التعصب والعناد والكبر.

________________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب قَوْلُ اللَّهِ _تَعَالَى_:”لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ”، حديث رقم 6250، 6251، ومسلم، في كتاب الأيمان، باب النهي عن الإِصرار على اليمين، فيما يتأذى به أهل الحالف، مما ليس بحرام، حديث رقم: 1655.

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *