“أصل العلكة”.. صدفة حركت أفواه العالم بالحلويات وملأت الخزائن بالمال

اكتشفت بمحض الصدفة، فأصبحت واحدة من أكثر الأطعمة المسلية واللذيذة مبيعا في العالم.

حسن العدم

عندما تقوم بمضع حبات علكة “تشيكلتس” المغطاة بالحلوى الملونة الناعمة، يتسرب مذاقها اللذيذ إلى أعماق مراكز إحساسك لتعطيك شعورا بالرضا لا يقاوم، أما إذا استبدلتها بقطعة من علكة السهم الشهيرة “ريغليز” فإن نكهة النعناع البري النفّاذة تستدعي منك كميات هائلة من الدوبامين التي تشعرك بسعادة تدوم طويلا.

 

هذه حكاية من حكايات سلسلة “أطعمة غيرت العالم” التي تبثها قناة الجزيرة الوثائقية، وتستعرض فيها أصل حلوى “العلكة”، والظروف التي أدت إلى اكتشافها وتطورها، وأرباب هذه الصناعة، وكيف وصلت بهم هذه الحلوى المسلّية إلى مصافّ أغنى أغنياء العالم.

عصر الصناعة والحاجة إلى المطاط.. نهضة الولايات المتحدة

في عام 1869، وبعد معركة شرسة في الحرب الأهلية، أصبح بإمكان الأمريكيين السفر لأول مرة من الساحل إلى الساحل، عبر خطوط سكة الحديد. كانت لحظة فارقة في تاريخ أمريكا، إنه زمن الوحدة الوطنية وعصر الصناعة الذي سيغير وجه أمريكا والعالم، هنا الآلة الكاتبة والهاتف وتطور الكهرباء، وهنا أيضا يتزايد الطلب على المطاط لربط تروس الآلات ولتغطية العجلات.

تنمو شجرة “سبوتيل” في غواتيمالا والمكسيك، ويستخرج المطاط من تحت لحائها

 

كانت أشجار المطاط تنمو في جنوب القارة، واستيراده من الخارج يكلف ثمنا باهظا، وكانت هناك محاولات مستميتة لإيجاد بدائل، وكان “توماس آدمز” رائد الأعمال في نيويورك قد استثمر كثيرا في إيجاد صيغ جديدة لصناعة المطاط، وهدته محاولاته إلى مستحلب يسمى “تشيكيل”، من شجرة “سبوتيل” الموجودة في غواتيمالا والمكسيك، يستخرج من تحت اللحاء ويتمتع بدرجة عالية من المرونة.

استثمر آدمز 30 ألف دولار في مُركَّب يقاوم الحرارة والبرودة والاحتكاك، وعالج “تشيكيل” على درجات متفاوتة من الحرارة واستخدم مركبات كيميائية مختلفة، حاول تصنيع عجلات وأحذية من هذه المادة، وكان يعرف أنه يتوفر على مادة مفيدة وذات قيمة هامة، ولكنه حتى اللحظة لم يكن يعرف كيف يستخدمها.

شعور الرضا.. اكتشاف بمحض الصدفة على المكتب

استخدم الناس مواد لاصقة منذ قرون، كانوا يمضغونها مثل العلكة، ولكن لاستخدامات علاجية معينة، وليس كالحلوى المستخدمة الآن، فقدماء الإغريق كانوا يمضغون صمغا من شجرة الميستكا لتنظيف أسنانهم، وقدماء الأوروبيين يمضغون قطران الباتيلا لتسكين التهاب الحلق، وفي القرن الـ19 كان الناس يمضغون نسغ التنوب وشمع البارافين.

العلكة المغطاة بطبقة مقرمشة من السكر تنافس في السوق

 

من خلال تجاربه على مادة التشيكيل، اهتدى “توماس آدمز” بمحض الصدفة إلى أن هذه المادة يمكن تسويقها على شكل علكة للمضغ، فطلب من ابنه غليها وتنقيتها، وفي الصباح كانت على مكتبه العينات الأولى من المنتج الجديد، مرونة مطاطية يولد مضغها الشعور بالرضا.

ومع أن مذاقها كان محايدا حتى الآن، فإن هذا النموذج الأولي سيكون هو قوام العلكة لمئة سنة قادمة. وسيكون عمادَ تجارة بقيمة 30 مليار دولار. وكان على آدمز حينها إيجاد وسيلة لتسويق منتجه الذي لم يسمع به الأمريكيون قط.

“اشترِ قطعة صابون واحصل على هدية”

على مسافة 800 من نيويورك، وتحديدا في شيكاغو كان رائد أعمال آخر يطلق شركته الجديدة، وكان ذا شخصية حادة ويفكر خارج الصندوق، إنه “وليام ريغلي”، وستبيع الشركة التي أسسها ثلث مبيعات العلكة في العالم، لكنه في البدايات وضع اسمه على منتج صابون، وكان يحلم بأن يصبح اسمه مرادفا لجميع منتجات التنظيف في العالم.

ولتسويق منتجاته لجأ “ريغلي” إلى الحيلة التجارية المعروفة آنذاك: “اشترِ قطعة صابون واحصل على هدية”، وكانت الهدايا تشمل مظلات المطر ومسحوق الخبز وكتب الطهي، وعلكة المضغ المصنوعة من شمع البرافين، وقد أصبحت فيما بعد أكثر هداياه شعبية، بل إنه لاحظ من سجلاته أن العلكة تباع أكثر من الصابون نفسه.

بائع الصابون.. بداية المنافسة الشرسة في عالم العلكة

على الساحل الشرقي بدأ “توماس آدمز” يعمل على إضافة نكهة تعطي الجاذبية لمنتجه، وكان يجرب نكهات عدة، فبدأ بالليمون وانتهى بعرق السوس الأسود الذي كانت له استخدامات علاجية منذ وقت طويل سابق، أما استخدامه كنكهة لعلكة المضغ فهذا أمر لم يشهده الأمريكيون من قبل. لقد نجح “آدمز” أخيرا في استخدام مادة تشيكل، وسمّى منتجه الجديد “بلاك جاك”.

وفي 1871 ارتفعت مبيعات “آدمز” لتغطي نيويورك كاملة، وأصبح هدفه الآن تغطية الشمال الشرقي بأكمله، وواصلت علكة “بلاك جاك” انتشارها حتى وقعت بين يدي الرجل الذي سيصبح أكبر منافسي آدمز، إنه “ريغلي” بائع الصابون الذي سيخوض غمار تصنيع العلكة وتجارتها، حتى تبتلع مبيعاتها في زمننا هذا أكثر من 370 مليار علبة سنويا.

علكة “بلاك جاك” أشهر منتجات شركة آدمز

 

ظهرت القطارات المعلقة في نيويورك عام 1868، وخلال عقدين من الزمن أصبحت تنقل أكثر من 190 مليون راكب سنويا، مما يعني أن محطاتها مزدحمة دائما بالمسافرين، وذلك ما يجعلهم دائما زبائن محتَملين لآدمز ومنتجاته من العلكة، ولكن هؤلاء الزبائن يتحركون بسرعة للحاق برحلاتهم، وقد لا يتسنى لهم شراء العلكة، وهذا ما أدى للاختراع الذي سيغير وجه التسويق في أمريكا والعالم.

آلات البيع الأوتوماتيكية.. اختراع غير وجه التجارة في أمريكا

لقد صمم “آدمز” آلة البيع الأوتوماتيكية التي يقوم مبدؤها على تشغيل عملية ميكانيكية عبقرية داخل الآلة، بحيث تصبح قطعة العلكة في متناول الزبون حال وضع قطعة النقود المعدنية في مدخلها الخاص، وفي 1888 عقد صفقة مع مصلحة السكك الحديدية لتركيب آلته الجديدة في محطات القطارات، وطرح فيها أحدث نكهات علكته “توتي فروتي”.

انفجرت أرباح “آدمز”، وأصبح يستثمر أمواله في تحقيق النمو السريع، وأصبحت منتجاته وآلات البيع التي اخترعها تمتد من الساحل إلى الساحل، وخلال سنوات معدودة أسس أول إمبراطورية للعلكة ذات النكهة، وعلى الرغم من ظهور عدة شركات منافسة حققت حضورا إقليميا، فإن “آدمز” بقي هو الأوفر حظا بلا منازع حتى تلك اللحظة.

تحويل خط الصناعة.. دعاية العلكة الجديدة تغرق الأسواق

في شيكاغو كان “وليام ريغلي” يبحث عن النجاح في أي منتج يمكن أن يحقق له أرباحا كبيرة، ووجد ضالته في المادة التي اكتشفها آدمز من قبله، وهي التشيكيل، فقرر تغيير مسار منتجاته من الصابون إلى العلكة، وعقد صفقة مع شركة “زينو” التي تصنع له علكة البرافين لتغيير المادة الخام إلى تشيكل، وأبقى لنفسه اختيار النكهة التي ستميزه عن غيره.

تعرف الناس إلى العلكة صدفة، فأصبحت واحدة من أكثر التسالي اللذيذة مبيعا في العالم

 

كانت النكهة الشائعة في ذلك الوقت “النعناع الفلفلي”، هذه النبتة التي كانت تستخدم في أنحاء العالم منذ آلاف السنين، وكان اليونانيون يستخدمونها للقوة الجنسية. لكن “ريغلي” أراد التمرد على الواقع، واتجه إلى تجربة نكهة “النعناع البري”، وأنتج أول علبة من علكة “ريغليز” بنكهة النعناع البري. ثم أتبعها بنكهة “جوسي فروت”، التي سينافس بها “توتي فروتي” علكة غريمه “آدمز”.

ولتسويق منتجاته لجأ “ريغلي” إلى إغراق السوق بإعلانات لمنتجاته، وأنفق بسخاء على الدعاية، وخلال عقد من الزمن ارتفعت مبيعاته إلى 100 ألف دولار، أي ما يعادل أكثر من 3 ملايين دولار هذه الأيام.

وفي نيويورك كان آدمز يتوسع في السوق باطراد، وصار مصنعه ينتج ملايين من قطع العلكة، وزاد عدد موظفيه لأكثر من 500. وفي 1889 تولى “توماس آدمز جونيور” إدارة الشركة خلفا لأبيه، وعقد مناقشات لتحالف موسع مع عدة مصنعين في المجال، وذلك من أجل هزيمة خصمه اللدود “ريغلي”، ولتوفير مصادر آمنة لخام تشيكيل.

ضرب التكتلات.. قد تأكل صغار السمك كبار الحيتان

في 1899 نجح “توماس آدمز جونيور” في إعلان “تكتل تشيكيل الأمريكي” بقيمة سوقية بلغت ما يعادل 280 مليون دولار اليوم، وقد عرض هذا التكتل الفكرة على “ريغلي” للانضمام إليه، ولكنه رفض هذا العرض، ووجد في هذا الرفض فرصة للتميز والتقدم.

في 1902 نمت أرباح “ريغلي” لتبلغ 100 ألف دولار سنويا أي ما يعادل أكثر من 3 ملايين دولار اليوم، ولكنها لم تشكل خطرا على إمبراطور العلكة “توماس جونيور” وتكتله الجديد، ولذا لجأ ريغلي إلى محاولة فرض منتجه كعلامة وطنية للعلكة في السوق الأمريكي، والسبيل إلى ذلك هو معركة إعلامية فاصله، حتى وصل معدل إنفاقه في 1907 إلى ما يعادل 84 مليون دولار.

شركة ريغليز تغرق السوق بدعايات لمنتجها بالنعناع

 

 

آتت هذه الحملة الدعائية أكلها في 1910 وتضاعفت مبيعات ريغلي 30 ضعفا تقريبا، مما جعل منتجه علامة وطنية حقيقية، ومكّنه من تقويض الهيمنة السوقية لأكبر تكتل للعلكة في البلاد.

قطبا الصناعة العظيمان.. وجهان لعلكة واحدة

رغم الضربة القوية التي تلقاها فإن تكتل “توماس جونيور” لم يستسلم، وأسفر العصف الفكري لأعضائه عن فكرة منتج طرح في الأسواق عام 1915، واستمر وجوده في السوق حتى يومنا هذا، إنها علكة “تشيكلتس”، تلك الحبات المغطاة بغلاف من الحلوى بألوان مختلفة. أصبح هذا المنتج على كل لسان، وأنشأ “آدمز” من أجله أحدث مصنع من نوعه في البلاد، وصار ينتج 5 ملايين علبة يوميا.

كانت “تشيكلتس” ضربة موجعة أثقلت كاهل “ريغلي”، وكان عليه أن يرد بطريقة غير مسبوقة، ولأنه صاحب أفكار مجنونة، فقد صار يوزع عينات مجانية على كل المواطنين الموجودة أسماؤهم في دليل الهاتف، بل ويرسل الهدايا لكل طفل يحتفل بعيد ميلاده، لقد وصلت منتجاته بالفعل إلى كل منزل تقريبا، واستطاع بهذه الطريقة أن يهيمن على السوق مرة أخرى، بل ويصبح أثرى رجل في أمريكا.

“تشيكليتس” فخر الصناعات التي قدمتها شركة آدمز ولا تزال تتقدم بها عالميا

 

بحلول ثلاثينيات القرن الـ20 كان “ريغلي” يغطي 60% من سوق العلكة العالمي، وقد أنفق كثيرا من ثروته على فريق شيكاغو بولز للريغبي، وبنى للفريق ملعبا يحمل اسم ريغليز. أما تكتل “آدمز” فكان نصيبه 15% من سوق العلكة، ولكنه أصدر منتجات أخرى ما تزال أيقونية حتى يومنا هذا مثل “دينتين” و”ترايدنت” و”ببلليشوز”.

لقد ساهمت أفكار آدمز وإرثه الكبير في إرساء قواعد تجارة تقدر قيمتها السوقية بـ32 مليار دولار، أما “ريغلي”، فمنذ وفاته عام 1932، فقد أصبح اسمه مرادفا تماما لمنتجات العلكة في أنحاء العالم.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *