روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كُنَّا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَبَابًا لا نَجِدُ شيئًا، فَقالَ لَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (يا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنَّه أغَضُّ لِلْبَصَرِ وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعليه بالصَّوْمِ فإنَّه له وِجَاءٌ).
هذه دعوة صريحة من النبي صلى الله عليه وسلم للشباب ـ ولمن كان محتاجا للزواج من غيرهم ـ أن يبادروا إليه متى ما وجدوا القدرة على ذلك، والقدرة هنا في الظاهر هي القدرة المادية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب شبابا ولا شك أن رغبتهم فيه قوية، وكذلك يدل عليه قول ابن مسعود “شبابا لا نجد شيئا”، فكأنه يقول لهم: من وجد شيئا يقدر به على الزواج فليبادر إليه، لما فيه من المنافع الدنيوية والأخروية.
فالزواج آية من آيات الله الباهرة، ونعمة من نعمه الظاهرة، فيه بيان لقدرة الله تعالى في خلقه، وحكمته في شرعه، قال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم:21].
والزواج طاعة لأمر الله وأمر رسوله، وقربة: فقد أمر الله به في قوله: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}[النور:42].
وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (تزوَّجوا الوَدودَ الولودَ فإنِّي مُكاثرٌ بِكُمُ الأُممَ)[صحيح سنن أبي داود، وراه النسائي أيضا]. وكذلك هنا في هذا الحديث: (مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ)، وقد حث كثيرا عليه صلوات الله وسلامه عليه.
والزواج سنة المرسلين والنبيين: فقد حكى القرآن عنهم أنهم كان لهم أزواج وكان لهم أولاد وأحفاد: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَٰجًا وَذُرِّيَّةً}[الرعد:38]. وقد أمرنا الله بالاقتداء بهم والاهتداء بهديهم فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}[الأنعام:90].
وهو هدي إمام المتقينوسيد ولد آدم أجمعين: فقد تزوج عليه الصلاة والسلام وكانت له ذرية، وقد رد التبتل على عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب ومن أراده معهم من شباب الصحابة، ولما أراد بعض الصحابة أن يدع الزواج لأجل أن يتفرغ للعبادة نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي)[متفق عليه وهذا لفظ البخاري].
والزواج فطرة وخلقه: فالله سبحانه خلق الرجال وركَّب فيهم ميلا للنساء، وكذلك خلق النساء وركب فيهن ميلا للرجال؛ حكمةً منه بالغة لعمارة الكون وليخلف الإنسان الأرض، وهذه الخلافة لا تكون إلا بوجود ذرية يخلف بعضهم بعضا.. ولا تكون الذرية إلا من اجتماع الذكر بالأنثى.. وليس هناك سبيل مباح حلال مشروع لهذا اللقاء في زماننا إلا بالزواج الشرعي وتكوين الأسر الطاهرة، أما الزواج اللوطي بين رجل ورجل، أو الزواج السحاقي بين امرأتين فهذا زواج ملعون من قبل السماء وفي جميع الأديان، وهو مخالف للفطر السليمة والأخلاق القويمة المستقيمة، مع ما فيه من مخالفة كاملة لمقاصد الزواج التي جعلها الله فيه..
الزواج باب رزق وأجر:
أما كونه بابَ رزقٍ فقد قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[النور:32]. وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ حقٌّ على اللَّهِ عونُهُم: المُجاهدُ في سبيلِ اللَّهِ، والمُكاتِبُ الَّذي يريدُ الأداءَ، والنَّاكحُ الَّذي يريدُ العفافَ)[رواه أحمد والترمذي والنسائي]. أي: الَّذي يُريدُ أن يتزوَّجَ ليُحصِّنَ نفْسَه مِن الزِّنا.
وأما كونه باب أجر: فقد قال عليه الصلاة والسلام: (وفي بُضْعِ أَحَدِكُم صدقةٌ. قالوا: يارسولَ اللهِ أَيَأْتِي أحَدُنا شَهْوَتَهُ وَيكونُ له فيها أجْرٌ؟ قال: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الحرامِ ألَيْسَ كان يكونُ عليْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَها فِي الْحَلَالِ يكونُ لَهُ أجرٌ)[رواه مسلم].
والزواج سبيل لتحصيل الذرية: يسعد بها الإنسان في حياته، ويدعون له ويتصدقون عنه بعد وفاته، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له)[رواه مسلم].
أغض للبصر وأحصن للفرج
ومن حكم الزواج التي نص عليها النبي في هذا الحديث أنه (أغَضُّ لِلْبَصَرِ وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ)، وغض الأبصار وحفظ الفروج مطلب ديني وأمر شرعي قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}[النور:30، 31].[المؤمنون:5-6].
إن الله تعالى أرسل المرسلين وجعل من مقاصد بعثتهم تصحيح عقائدهم، وتزكية نفوسهم، وتطهير مجتمعاتهم، وفي الزواج طهارة للمجتمع، وسلامة للبيوت، وحفظ للأعراض، وصيانة للأنساب؛ لأن هذه الشهوة شهوة جامحة وهي ككلب ينبح في نفس صاحبه، فإذا لم يجد الإنسان لها مصرفا حلالا يقضي فيه وطره ويصرف فيه شهوته وإلا بحث لها عن مصرف حرام، ولذلك جاء الشاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله يقول: “إئذن لي في الزنا”.. وإنما قال ذلك لأنه شاب تنادي عليه شهوته، ولكنه لا يجد ما يتزوج به لفقر أو حاجة، فماذا يفعل؟
ولهذا من أكبر مفاسد ترك الزواج وإغلاق أبوابه ووضع العراقيل أمام طالبيه، بغلاء المهور وكثرة الطلبات ومبالغ الحفلات وتكاليفه الكثيرة، فيعزف عنه الشباب وأن يسلكوا مسالك أخرى منكرة وهذا فيه فساد للشباب والشابات، وفتح أبواب المحرمات، وانتشار الفواحش والمنكرات.
وأغض للبصر
فالزواج باب إعفاف للفرج وصيانة للبصر وغض عن المحارم، وفي هذا إعانة على أداء العبادات والطاعات في حضور قلب وإقبال على الرب، لأن الشهوة إذا غلبت أنطلق البصر وصال وجال، فإذا قلبه صاحبه في وجوه الحسان أفسد القلب، وشتت الفكر، وهيج الشهوة، ودعا إلى الحرام.
كلُّ الحوادثِ مبدأُها من النظر .. .. .. ومُعظَمُ النارِ مِنْ مُستَصْغرِ الشَرِرِ
كْم نظرةٍ فعلتْ في قلب صاحبها .. .. فِعْــلَ السهــامِ بلا قـوسٍ ولا وتـرِ
والمــرءُ مـا دامَ ذا عينٍ يُقَـــلِبُها .. .. في أَعينِ الغِيرِ موقوفٌ على خَطرِ
يَســــرُّ مُقلَــتَهُ ما ضــرَّ مُهجَـتَهُ .. .. . لا مرحباً بســرورِ عــادَ بالضـررِ
فتقليب النظر في وجوه الغواني عقوبة للقلب كبيرة،وإنما كان عقوبة لأنه يشوش الفكر، ويسود القلب، ويظلم الوجه، ويحرم التوفيق.
فمن أطلق بصره في الحرام عوقب بكثير من الحرمان، في العبادة والطاعة والأنس بالله، وترك النوافل، والقربات، وعوقب بالوحشة والانقطاع عن رب الأرض والسموات
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا .. .. لقلبــك يومــا أتعبتك المنـاظـر
رأيت الذي لا كــلـه أنت قـــادرٌ .. ..عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
ومن لم يستطع فعليه بالصوم
فالزواج سبيل إلى تهدئة النفس والقلب والخاطر وتفريغ القلب والنفس من الشواغل للإقبال على عبادة الله سبحانه وتعالى في أكمل حال. وأما من لم يقدر عليه لضعف ذات يد، أو قلة مال، أو أي سبب فإنما سبيله أن يحاول إضعاف شهوته وتقليلها، بأي سبيل مباح وأفضله الصوم لأنه يضعف الشهوة والفكر فيها فكأنه كالخصاء، ثم إنه طاعة روحانية وعبادة إيمانية تصرف في الغالب صاحبها عن التفكير فيما يحرم، أو الاسترسال في النظر المحرم ودواعي الشهوة..
ولا شك أن الصوم سبيل من السبل وليس كلها، وهناك سبل أخرى كشغل النفس بعمل مفيد، وقضاء الوقت فيما هو نافع، أو تناول الأطعمة الطبيعية المثبطة للشهوة، وكذلك إن استدعى الأمر الأدوية، وأما إن كان الصوم يكفي فهو خير الأدوية، وهذا كله لمن لم يقدر على الزواج فإنه العلاج الناجع والدواء النافع وهو الأصل وما بعده معالجة لداء عدم وجوده.
فـ (يا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ).