أغنيات رينا كيتي الفرنسية: صوت الرومانسية المسموع وسط هدير الحرب العالمية الثانية

■ كانت أغنيات الفنانة الإيطالية رينا كيتي باللغة الفرنسية، الأكثر استماعاً وذيوعاً في سنوات الحرب العالمية الثانية، وهي أغنيات رومانسية بالغة الرقة والعذوبة، لا تملها النفس أبداً، تخاطب مشاعر النساء الأكثر عمقاً، وطبيعتهن الصافية في عالم أنثوي خالص، نعرف جيداً أن الحرب لم تكــــن مزحــة، وأن الأمور لم تكن بهذه الرومانسية، وربما لم يكن لدى […]

أغنيات رينا كيتي الفرنسية: صوت الرومانسية المسموع وسط هدير الحرب العالمية الثانية

[wpcc-script type=”ecda15761b9716a3d991ec1b-text/javascript”]

■ كانت أغنيات الفنانة الإيطالية رينا كيتي باللغة الفرنسية، الأكثر استماعاً وذيوعاً في سنوات الحرب العالمية الثانية، وهي أغنيات رومانسية بالغة الرقة والعذوبة، لا تملها النفس أبداً، تخاطب مشاعر النساء الأكثر عمقاً، وطبيعتهن الصافية في عالم أنثوي خالص، نعرف جيداً أن الحرب لم تكــــن مزحــة، وأن الأمور لم تكن بهذه الرومانسية، وربما لم يكن لدى النساء رفاهية الجلوس في البيت والاستماع إلى الموسيقى، لكن على الفن دائماً أن يصمد في وجه الرعب، والفنان الحقيقي ما هو إلا ناشط في الحرب على الخوف.
وقد استطاعت رينا كيتي بنعومتها وهدوئها أن توصل صوتها، وأن يكون مسموعاً وسط هدير الحرب، لم تتحول إلى رجل يرتدي الثياب العسكرية، ولم تنشد الأغنيات الحماسية المباشرة، فهي لم تذكر الحرب مطلقاً في أغنياتها، ولم تشر إليها من قريب أو بعيد، لكن المستمع يدرك على الفور أن الحرب هي السبب الوحيد لكل ما تعانيه هذه الأنثى الضعيفة الوحيدة، التي تغني عن الانتظار والاشتياق إلى الحبيب الغائب، والتشبث بالأمل، وإن كان وهماً، والوحدة والفراغ والخوف، والشعور بضياع سنوات العمر، وكأنها صوت كل النساء اللاتي وجدن أنفسهن وحيدات، وقد ذهب الرجال حتى المدنيون منهم إلى الحرب بإرادتهم أو رغماً عنهم، ومن يمنح النساء الحب إذا ذهب الرجال إلى الحروب؟ فالحرب وإن كانت مسؤولية الرجل، فالحب هو مهمته الأساسية، عليه دائماً أن ينثره في الكون وأن يملأ الدنيا بالشعر والغزل.
عندما نستمع إلى أغنيات رينا كيتي، نشعر وكأننا قرأنا قصصاً كلاسيكية عاطفية، وشاهدنا أفلاماً بالأبيض والأسود، وغريب جداً هذا الثراء البصري والدرامي في أغنياتها، رغم أن أغلبها يدور في حيز ثابت محدود، هو البيت الذي تعيش فيه وحيدة، ولا تتواصل مع العالم الخارجي إلا من خلال النافذة، ويبدو هذا العالم فارغاً أيضاً، وكأن جميع البشر قد اختفوا، ولا وجود سوى للأشجار والطيور التي تراقبها لوقت طويل، وتتواصل معها وتنتظر عودتها، فالطيور تؤنسها بعكس الأشجار التي يخيفها ليلاً صوت تخبط فروعها بفعل الهواء، وتبعث رائحة أوراقها الميتة الكآبة في نفسها، والغريب أيضاً أننا نشعر بالصمت الذي يلفها ويحيط بها، على الرغم من الموسيقى والغناء، وتعد أغنية «سأنتظر» الأشهر والأكثر استماعاً بين أغنياتها، وتكرر هذه الكلمة طوال الأغنية في ما يشبه التدرب على الصبر والانتظار، وهي أغنية عن ترقب وانتظار عودة الحبيب البعيد الغائب في كل يوم ليلاً ونهاراً، وتكرر هذا الأمر بلا توقف، وهو ما تعبر عنه الموسيقى بحركة دائرية متكررة مستمرة، ما أن تنتهي حتى تبدأ من جديد، هذه الأغنية لا تموت أبداً، رغم ارتباطها بزمن الحرب، ونستمع إليها الآن في أيامنا القاتمة حالكة الظلمة، ونحن ننتظر زوال لعنة لا تزول.

مهما تشابهت أغنيات رينا كيتي في موضوعاتها ومشاعرها، لا نشعر بالملل أو التكرار، ولا نرغب في التوقف عن الاستماع إلى هذه العاشقة التي تجلس في بيتها وحيدة، تنتظر عودة حبيبها من مكان ما في أوروبا، ومجيئه إلى أحضانها.

رغم خلود أغنياتها وقدرتها على البقاء إلى اليوم لامعة وجاذبة للمستمع، إلا أن مسيرتها الفنية تعد قصيرة، فقد امتدت سنوات النجاح منذ منتصف الثلاثينيات إلى منتصف الأربعينيات فقط، ثم توالت سنوات الخيبة والفشل، حتى التوقف التام عام 1950، فلم تنجح أغنياتها بعد انتهاء الحرب، ولم تستطع أن تقدم الموسيقى والأفكار التي تلائم مرحلة زمنية وفنية ونفسية جديدة، لكن ذلك لا يعني أن رينا كيتي قد نُسيت وأهملت، وأن أغنياتها كانت من ذلك النوع من الأغاني الموسمية التي لا يمكن الاستماع إليها خارج إطارها الزمني الخاص، وعلى العكس من ذلك، ربما يكون توقف مسيرتها الفنية، قد ساهم في بقاء هذه المجموعة من الأغنيات بارزة وأساسية ومتفوقة، لم تستطع أي أغنيات أخرى منافستها والتغلب عليها، في موضوعها الفني ومخاطبتها للمشاعر الأنثوية، وموسيقاها اللطيفة الرائقة، وأنغام الآلات الوترية والأكورديون الفرنسي الشهير، وذلك المزيج الأوروبي بين اللغة الفرنسية التي تغنيها رينا كيتي بلكنة إيطالية، تظهر أكثر ما يكون في حرف الراء بطبيعة الحال، وهذا الغناء النقي الواضح نطقاً وتعبيراً عن معاني الكلمات أيضاً وما تتطلبه من إحساس، بدون أدنى مبالغة في الأداء، فالبساطة المطلقة هي سر هذه الأغنيات الجميلة التي تعبر عن مشاعر امرأة بسيطة، ولصوت رينا كيتي رغم حزن أغنياتها القدرة على طمأنة النفس وإعانتها على تحمل الانتظار الثقيل الشاق.
وتعد أغنية «ليال بدونك» من أجمل أغنياتها، هذه الأغنية ربما تكون التانغو الأكثر حزناً الذي يمكن الاستماع إليه رغم إيقاعاته الجميلة، فلا وجود لرقص يشتعل غراماً بينها وبين حبيبها، أما خطواتها فهي تائهة لا تجد من يقودها، وجسدها ضائع مع أنغام الموسيقى لا يستطيع أن يتبع إيقاع جسده، وبالطبع لن تستطيع أن تؤدي الكثير من حركات رقصة التانغو، لأنها ستسقط حتماً، فحبيبها ليس معها لتتشبث بجسده ويمسك بها جيداً عندما تميل على ذراعه، ويحميها من السقوط وإن اقتربت من الأرض، هذا ما توحي به الموسيقى، أما كلمات الأغنية فتدور حول مشاعر الخوف التي تسيطر عليها في وحدتها وافتقادها إلى وجوده بجوارها، والنوم الذي بات أمراً مستحيلاً، وغياب الشمس وكآبة السماء، وكأن الشهور كلها تكون ديسمبر/كانون الأول في غيابه.
مهما تشابهت أغنيات رينا كيتي في موضوعاتها ومشاعرها، لا نشعر بالملل أو التكرار، ولا نرغب في التوقف عن الاستماع إلى هذه العاشقة التي تجلس في بيتها وحيدة، تنتظر عودة حبيبها من مكان ما في أوروبا، ومجيئه إلى أحضانها.

٭ كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *