أمريكا ما بعد احتلال العراق  وصعود ايران

رعد دليان العبيدي

منذ أقدم العصور وفجر التاريخ شهد العالم ولادة امبراطوريات عظيمة كانت ذات قوة ونفوذ في زمانها استمر قسم منها لمئات السنين ثم ما لبثت أن ضعفت وتقسمت وتلاشت وهذه سنة كونية ، فأن دوام الحال من المحال ، بدءاً من السومريين والآشوريين والبابليين في العراق والامبراطورية الاخمينية في بلاد فارس والامبراطورية البيزنطية والدولة العربية الإسلامية التي فتحت مشارق الأرض ومغاربها والدولة العثمانية ومن ثم الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ( بريطانيا العظمى ) وأخيراً وليس آخراً الاتحاد السوفيتي الذي تفكك في تسعينيات القرن الماضي .

ولو احصينا العمر الفعلي للولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسها في ٤ يونيو عام ١٧٧٦م إلى يومنا هذا لوجدنا أنه ٢٤٥ سنة وإن بروزها كدولة عظمى بدء بالظهور في الفترة الزمنية الممتدة ما بين أعقاب الحرب العالمية الأولى وبعد نهايةالحرب العالمية الثانية حيث تقاسمت النفوذ والهيمنة على العالم مع الإتحاد السوفيتي السابق وكان النظام في حينها ثنائي القطبية ، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي في عام ١٩٩١م اصبحت الولايات المتحدة القوة الوحيدة المهيمنة على العالم .

ولو تتبعنا بدقة الشأن الأمريكي منذ العام ١٩٩٠ مروراً بالعام ٢٠٠٣ و وصولاً الى عام ٢٠٢١ نجد الفرق واضح في تراجع الدور السياسي و الهيمنة السياسية الأميركية على العالم . نعم أنا اتفق مع كل من يقول بأنها اقوى دولة في العالم عسكرياً حيث بلغ حجم الانفاق العسكري فيها سنة ٢٠٢٠ نسبة ٣٨% من مجموع النفقات العسكرية في العالم وبمبلغ مقداره ٧٣٨ مليار دولار ، و وصلت هذه النفقات إلى ٧٤٠ مليار دولار في عام ٢٠٢١ .

وباحتساب الميزانية الدفاعية المباشرة فقط، فإن الولايات المتحدة تنفق ثلاثة أضعاف ما تنفقه الصين، التي تأتي ثانية بالترتيب العالمي في هذا المجال. بل إن الميزانية الدفاعية الأمريكية (المباشرة) تفوق ميزانيات الدفاع في الدول العشر التي تليها في الترتيب العالمي، مجتمعة، وهي: الصين، الهند، روسيا، السعودية، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، اليابان، كوريا الجنوبية، البرازيل؛ وفق بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، لعام ٢٠١٩ .

و هذا بدوره دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى استخدام خيار القوة و افراده على الخيارات الأخرى في حل جميع القضايا الداخلية و الدولية . وأن السبب الآخر يعزى وبلا شك إلى تراجع هيمنتها السياسية والدبلوماسية مقارنة بالهيمنة العسكرية وانها لم تعد كسابق عهدها من حيث قدرتها و تأثيرها السياسي على مجريات الأحداث في العالم من دون الاستعمال المفرط للقوة.

ولو مررنا بعجالة عاملين مقارنة بسيطة بين ماحدث للعراق بالأمس القريب وما يحدث لأيران اليوم لوجدنا الفرق واضح في تراجع النفوذ السياسي الأمريكي والأساليب الأمريكية الضاغطة .

و لو عدنا بالذاكرة قليلاً الى الوراء و بالتحديد أيام الغزو العراقي للكويت عام ١٩٩٠ نجد بأن الولايات المتحدة كانت بكامل قوتها كدولة عظمى مسيطرة سياسيا واقتصاديا وعسكريا على العالم بشكل فعلي وملموس بالرغم من كونه كان قائما على نظام ثنائي القطبية بوجود الاتحاد السوفيتي السابق آنذاك كقوة عظمى لا يستهان بها .

 عند الاحتلال العراقي للكويت ظهرت لنا بوضوح الهيمنة الأمريكية على العالم من خلال تحشيد كافة الدول ضد العراق و تشكيل تحالف دولي مكون من أكثر من ٣٠ دولة و بغطاء كامل من مجلس الأمن الدولي ؛ و لم يستطع الاتحاد السوفيتي في حينها ايقاف هذه الحرب على الرغم من كونه حليف قوي للعراق ، والتي تم من خلالها انهاء الإحتلال العراقي للكويت و فرض حصار اقتصادي قاسي عليه دام زهاء ثلاثة عشر عام . وخلال تلك الفترة كانت فرق التفتيش التابعة للأمم المتحدة تصول وتجول في العراق وبلا حسيب أو رقيب بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل التي كانوا يزعمون بأن العراق يمتلكها ، وخلال المدة الممتدة من عام ١٩٩٣ إلى عام ١٩٩٨م تم قصفه ثلاث مرات تحت ذرائع وحجج واهية وكان المبرر لآخر ضربة هو عدم امتثال العراق لقرارات مجلس الأمن وتدخله في عمل مفتشي اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة .

 في عام ٢٠٠٣ نجد ان تراجع الهيمنة السياسية الأميركية بدء بالظهور _ وهنا انا أُاكد بأنني لا اقصد التفوق العسكري والتقني والاقتصادي والتفرد كقوة عظمى وانما القوة السياسية وإمكانية التحشيد الدولي _ عندما قررت غزو العراق و احتلاله عسكريا ، من خلال اخفاقها في استحصال نفس الدعم الدولي الذي حصلت عليه أبان الاحتلال العراقي للكويت ، بل و إنها فشلت حتى في التأثير على مجلس الأمن لأصدار قرار يخولها بشن الحرب عليه ، لا بل وإن الإدارة الأمريكية والمتمثلة بالرئيس بوش الأبن لم تستطيع من التأثير حتى على الكونكرس نفسه والحصول على موافقته ، مما اضطرها للتحرك منفردة دون الرجوع إلى مجلس الأمن ، و هذا بحد ذاته يعد تراجعاً في مستوى الهيمنة السياسية لأمريكا .

أما في ما يخص فشل الدور الأمريكي في احتواء إيران و بالتحديد ملفها النووي و تدخلها في الشؤون الداخلية لكل من العراق و سوريا و اليمن و لبنان و البحرين فهو يظهر لنا حجم ذلك التراجع و امكانية التأثير على الساحة الدولية .

ان ما نراه اليوم من موقف هزيل ومتراخي في ما يخص موضوع الملف النووي الإيراني مقارنة بنفس الموقف الذي اتخذته ضد مفاعل تموز العراقي نجد الفرق واضح في مستوى التأثير واتخاذ القرارات على المستوى الدولي حيث اعطت الولايات المتحدة الأمريكية الضوء الأخضر و المباركة و الغطاء للطيران الإسرائيلي الذي قام بقصفه و تدميره بشكل كامل ، و من قبل ذلك عمدت اسرائيل إلى اغتيال عدد من علمائه المؤسسين وكان ابرزهم عالم الذرة يحيى المشد الذي وجد مقتولاً في حجرته بفندق في باريس في يونيو عام ١٩٨٠ . بينما نجد ان اقصى ما استطاعت امريكا فعله لأيران هو عقد اتفاقية بالتعاون مع اربع دول اوربية لمراقبة برنامجها النووي و كان ذلك في عهد اوباما ، و بعد تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة أخذ الدور الأمريكي بالتراجع بصورة أكبر من خلال عدم اتخاذه نهجاً سياسيا ثابتا و مستقراً إزاء العديد من القضايا الهامة ، و من بينها الانسحاب الأمريكي بشكل منفرد من الإتفاق النووي الإيراني و عجزها عن ايجاد بديل لهذا الاتفاق يضمن عدم تطوير إيران لهذه الأنشطة و يحول دون امتلاكها للسلاح النووي الذي تسعى جاهدة للحصول عليه .

 وعندما قامت إيران بإسقاط الطائرة الأميركية من دون طيار تراجع ترامب في اللحظات الأخيرة من الرد عليها بتوجيه ضربة عسكرية محدودة . و عندما تم اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني في العراق ردت إيران على هذه الحادثة بشن هجوم بالصواريخ على قاعدتين عسكريتين امريكيتين مهمتين في العراق ادت الى جرح عدة جنود و الحاق خسائر مادية في القاعدتين وقد مرت هذه الحادثة مرور الكرام من دون أن ترد أمريكا رداً يوازي مكانتها كأعظم دولة في العالم كما كانت تفعل في الماضي .

اما الرئيس الديمقراطي بايدن الذي جاء خلفا لترامب فأنه هو الآخر يعيش حالة من الارتباك السياسي ومواقفه تتسم بالضعف تجاه ايران وملفها النووي ولم يستطيع اقناع الايرانيين أو اجبارهم على ايقاف تخصيب اليورانيوم عند الحدود المتفق عليها مع وكالة الطاقة الذرية و واصلوا التخصيب حتى تجاوزوا نسبة الستين في المئة واصبحوا قاب قوسين او ادنى من امتلاك القنبلة الذرية وهذا يعد تراجعا خطيراً في النفوذ السياسي الأمريكي.

 إن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية المفاجئ و المربك و الفوضوي من افغانستان وتسليمها بيد من كانت تقاتلهم على مدى عقدين من الزمان في عقر دارهم ، والتي كانت تصنفهم في صدارة قائمة الإرهاب العالمي يعد مؤشر آخر خطير من مؤشرات تراجع الهيمنة الأمريكية و مدى حالة التخبط والارباك التي تمر بها .

و في نفس السياق من سلسلة الإخفاقات التي بدأتها الولايات المتحدة الأمريكية قامت بسحب قواتها المقاتلة من العراق انسحابا تدريجياً تحت وطأة الضغوط التي تمارسها إيران ضدها من خلال قيام الجماعات الموالية لها بشن هجمات صاروخية منسقة وبالطائرات المسيرة على القواعد الأمريكية بحيث من المقرر أن تبقي على عدد محدود من الجنود لكي تحفظ ماء وجهها أمام العالم بدعوى تقديم المشورة للقوات العراقية وتطبيق اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين .

أمريكا بالأمس هي ليست نفسها أمريكا اليوم بعد أن خاضت في المستنقعين الأفغاني والعراقي وخارت قواها واستنزفت قدراتها .

وإن الظهور المفاجئ لجائحة كورونا وما سببته من إرباك للولايات المتحدة والعالم أجمع وما خلفته من اغلاقات وخسائر في الاقتصاد الأمريكي والعالمي على حد سواء سرع هو الآخر من وتيرة التراجع السياسي الأمريكي عالمياً وانشغالها بالشأن الداخلي الذي بات يعاني من أزمات ممتالية جراء تفشي هذا الوباء .

 لو ان هذه الأحداث حصلت في فترة الثمانينيات أو حتى في التسعينيات من القرن الماضي سنجد أن الرد الأمريكي عليها لن يكون بمثل ماشهدناه اليوم من تراخي و تخبط وعشوائية في اتخاذ القرارات المصيرية الحاسمة سواء في ما يتعلق بموضوع الملف النووي الإيراني أو الملف الأفغاني أو العراقي وكثير من القضايا الأخرى التي يشهدها العالم .

أمريكا اليوم بدأت بالترجل عن عرش الزعامة العالمية وبدأ العد التنازلي العكسي لكي تكون دولة عظمى وليست اعظم دولة في العالم حالها كحال بريطانيا أو روسيا سواء طالت المدة ام قصرت لكنها حقيقة واقعة علينا التسليم بها والتهيؤ لأستقبال زعامات جديدة تحكم العالم و تتربع على عرش الصدارة العالمي . من هي هذه الدولة ؟ ومتى سوف تبرز و يلمع نجمها ؟ سيكون عامل الوقت وتطورات الظروف الدولية الراهنة كفيلان بالإجابة على ذلك .

ماجستير علوم سياسية/ علاقات دولية

البلد / العراق

Source: Raialyoum.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *