الجفوة بين بعض البنات وأمهاتهن مشكلة فرضت نفسها في كثير من الأسر المعاصرة، وخلفت العديد من الآثار السلبية على بناتنا، وتصدع بسببها ركن هام من أركان الأسرة، تاركا ورائه جرح لا يندمل، وأزمات قد تستعص على الحل في كثير من الأحيان.
لكن ثمة العديد من التساؤلات التي تطرح نفسها في هذا الموضوع الشائك: ما الدوافع التي تجعل الابنة تفضل عدم التواصل مع والدتها، وتنكفئ على ذاتها، بل وربما تفضل التواصل مع صديقاتها وزميلاتها؟ .. هل السبب عائد إلى مجرد اختلاف العقليات أو الثقافات بين الطرفين؟ أم أنه بسبب اختلاف الزمن أو الجيل؟ وما هي المآخذ التي يأخذها الأبناء على آبائهم؟ وكيف هو السبيل للخروج من حالة الجفاف تلك؟
بين الطرفين
رغم أن لكل عصر خصائصه، وكلٌ يرى أن عصره أكثر حساسية من غيره، فإننا نرى أيضا أن عصرنا كذلك، حيث يتمتع بخصوصية فريدة، ساعدت في تباعد الفجوة بين الجيلين، بسبب ما دخل في عصرنا الحديث من تطور اجتماعي وتقني متسارع لم تشهد له الأحقاب الماضية مثيلاً، وما شهده من تقارب في الزمان والمكان، وإلغاء لحواجز كثيرة ارتبط أساساً بالتكنولوجيا التي حولت العالم إلى قرية صغيرة.
إن الانفتاح الذي حصل في المجتمع هو السبب الجوهري في حدوث تلك الفجوة خاصة بين البنات والأمهات، فالحياة التي عاشتها الأم قبل ثلاثين أو أربعين سنة لم يكن بها مثل هذا الانفتاح، فالابنة الآن ترى أن هناك فارقا كبيرا بين تفكيرها وتفكير والدتها، خاصة إذا ما كانت الأم محدودة التعليم وكانت الابنة جامعية وتدخل على مواقع الإنترنت وتتواصل مع وسائل الإعلام والتثقيف المعاصرة، بخلاف الوالدة التي لم تعش مثل هذه المجالات، فتحس الابنة بوجود فجوة بين تفكيرها وتفكير والدتها، وقد تراها من أصحاب «العقليات القديمة»، ويتسرب بداخلها إحساس أنه لا يمكن أن تتفاهم معها اعتقادا بأن الأمهات لا يفعلن شيئا سوى إصدار الأوامر وعلى الأبناء التنفيذ.
وعلى صعيد آخر نجد الكثير من الأمهات – إلا من رحم ربي- يقدمن الحب والعناية والرعاية لكن نادرا ما يتفهمن بناتهن أو يحرصن على تكوين صداقة معهن كي تبث لهن البنات أفكارهن ومشاكلهن بل ومخاوفهن وأحزانهن، وكي تجد في أمهاتهن الصديقات اللاتي يشاركهن الأفراح والأتراح، ويقدمن لهن المشورة النافعة والنصيحة المخلصة .. طبعا كل هذا تحت دعوى أن البنت مهما كبرت فهي صغيرة في عين أمها، قليلة التجربة،لم تعركها أحداث الأيام وصروف الليالي، وبالتالي فرأيها لا يهم لسطحيته، ومشاعرها ليست في الحسبان لأنها في طور النضج لم تكتمل بعد!.
والمحصلة أن تجهيل كل طرف للآخر، وعدم احترام عقليته وثقافته ورغباته يمثل حلقة مفرغة يدور فيها الطرفان دون الوصول إلى خروج عملي من هذا المأزق.
أضف إلى هذا جهل الأمهات بمنهج التربية السليم، وغياب الوعي التربوي داخل البيت، من العوامل المؤثرة في اتساع هذا الخرق. فالآباء والأمهات غالبا ما يربون الأبناء بطريقة تقليدية موروثة، ليست ممنهجة، ولا تتمتع بأي مرحلية، ولا تأخذ في الاعتبار أسسا تربوية لا غنى عنها، كمراعاة الفروق الفردية، والتدرج في العقاب، والتوازن بين الترغيب والترهيب، والفهم الجيد لمرحلة المراهقة… إلى آخر هذه الأسس التي يجهلها كثيرٌ من الآباء والأمهات.
الآثار والعواقب
العلاقة بين الأم والبنت شيء مميز يجب الاهتمام به وإلا حصل ما لا تحمد عقباه، فالجفاء يتعارض مطلقا مع مشاعر الأنوثة الرقيقة، والعاطفة الفياضة القابعة في كينونة كل امرأة سواء صغرت أم كبرت، لذلك لا نستغرب ردة فعل قاسية قد تأخذ أحد المظاهر التالية:
• جفاف العلاقة بين الأم وابنتها، وإذا جمع بينهما حوار غلب عليه الطابع الانتقادي من كلتيهما للأخرى، وقد تتمرد البنت على طلبات أمها غير مقتنعة بآرائها، وإذا كانت لا تصرح بذلك علانية.
• الفراغ العاطفي الذي يدفع الفتاة لأن تبحث عن صدر حنون في مكان غير المناسب فتقع ضحية، فغالبا ما تلجا البنت لخارج البيت تبحث عن من يسمعها ويتفهم مشاعرها (الصديقة، الجيران، زملاء العمل) والخطير أن تقع فريسة لعديمي الضمير أو قليلي الخبرة الذين يقدمون لها حلولا قد تكون مأساوية.
جسور التواصل
• من المهم أن تحرص كل أم على أن تطور نفسها وثقافتها حتى إذا لم تمكنها ظروفها من إكمال دراستها، فالثقافة لا علاقة لها بالشهادات، وهناك الكثير من دورات تطوير الذات وكيفية التعامل مع الآخرين، وتلك الدورات المنتشرة والحمد لله في بلادنا العربية والإسلامية على نحو جيد وعلى أعلى المستويات. ثم ما المانع من تبني سياسة التثقيف الذاتي وجني أرباح التكنولوجيا العصرية بتعلم مهارات الكمبيوتر والإنترنت، ومواكبة ثقافة وروح العصر، لكي نتفهم طبيعة هذا الجيل ونتقن فن التعامل معه.
• عبارات التجهيل والتصغير وربما التحقير تسد منافذ الفكر، وتغلق النفس، وتحكم على أي علاقة بالفشل حتى من قبل بدايتها .. ليلين كل منكما في يد الآخر، ويحترم حقه في الفكر والرأي والميول، فليس كل «قديم» عقيم لا فائدة فيه، وليس كل «حديث» غني وثري بمنافعه، فتجارب وخبرات الماضي ثروة لا يستهان بها، وجيل اليوم بلا شك يختلف في متطلباته وتطلعاته، ولو أفسح كل طرف صدره للطرف الآخر لوجد عنده كنوزا ربما لا يدركها من الوهلة الأولى .. إن الحب المشروط أول بدايات الكره الممقوت.
• عزيزتي الأم .. يا من أنت أكبر سنا ومقاما وخبرة، يقول الإمام الثوري رحمه الله: «لاعب ابنك سبعاً، وأدبه سبعاً، وصاحبه سبعاً، ثم اتركه والتجارب».. تذكري دائما أن ابنتك تكبر كل يوم .. وتحتاج منك الدعم والمساعدة إلى جانب منحها الصلاحية لإدارة حياتها كما تحب ما لم تقع في زلل .. من الخطأ أن ترسمي لها الطريق كاملا كي تجنبيها الخوض في متاعب الحياة، متناسية أهمية أن تخوض ابنتك تلك التجارب كي تعي أهمية النتيجة الصحيحة في النهاية، وبذلك تكبر قيمة الشيء وتحافظ عليه أكثر .. إنها للأسف محاولة الأمومة الجارفة في أن تلغي مرحلة من مراحل حياة ابنتها (فترة المراهقة)، وتريدها أن تقفز بها من كونها طفلة إلى إنسانة ناضجة بدون متاعب .. يجب إعطاء الفتيات فرصة المرور بكل المراحل مع الوضع في الاعتبار أن تمرد الأبناء يدور بين الرقابة المفرطة والحرية المفرطة.
• من المهم أيضا مراعاة الأم لطبيعة وشخصية الابنة ، فضلا عن مستواها الفكري، من أجل تحديد الهدف من الحوار .. فما أجمل أن نستعيض عن القوانين الصارمة بالحوار البناء المثمر.
• من المسلمات التربوية أن حرص الأم على حكاية بعض أسرارها لابنتها يكسر حواجز الرهبة ويدعم جسور التواصل الفكري، وبالتالي يشجع البنت على حكاية أسرارها لأمها، واعتدادها برأيها، واللجوء إلي مشورتها في الأزمات التي قد تواجهها خارج المنزل.
• بنيتي الغالية .. إن ما ينبغي أن تضعيه في اعتبارك أن كل واحدة منكما لها وظيفة تختلف عن الأخرى. فعليك كبِنت أن تخاطري وتخوضي التجارب، وعلى والدتك أن تشرف وتراقب. وبينما تحتاجين للخصوصية في المشاعر, تحتاج الأم إلى أن تشعر بأنها تسيطر على الوضع, ولا يتحقق هذا إلا إذا اطلعت أمك على ما بداخلك من أسرار.
• بعض الفتيات يفضلن العزلة والانطواء في غرفهنّ، ويردن أماً تفهمهنّ بدون أن يتحدّثن .. إنّهنّ يعشن خيالات وأوهام، فالأم مشغولة في معظم الأحيان، وهي التي تحتاج لابنتها .. تريد أن تبادرها ابنتها بالحديث عن همومها وتخفف عنها، فقلب الأم كبير، لكن الكثير من الفتيات لا يدركن حقيقته.