ورغم هذه الوشائج والروابط، إلا أن الاختلاف بين الناس أمر وارد، ووقوع الشقاق بين البعض محتمل، وربما تقاتل فئام من الناس وهم من أهل الإسلام وليس هذا بالمحال، ولكنه أمر طبيعي وواقعي، كما نوه إلى ذلك ربنا تعالى بقوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)[الحجرات:9]، فقد يكون الرجلان مسلمين ويختلفان، وتكون الطائفتان مؤمنتين وتقتتلان، وإنما يقع ذلك لاختلاف الأخلاق، وتباين الأفكار، وتفاوت مدارك الناس بين القوة والضعف، واختلاف وجهات النظر، وربما يقع الشقاق والخلاف والنزاع بسبب سعي الوشاة والنمامين الذين يفسدون في الأرض شرار الخلق كما وصفهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الذين إذا رُؤوا ذُكر الله عز وجل. ثم قال: ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى. قال: المشَّاؤُونَ بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت”.[صحيح الأدب المفرد].
هؤلاء المفسدون في الأرض أصحاب القلوب المريضة والألسنة البغيضة، التي تسعى للتفريق بين الناس، والإفساد بين الأحباب، يفرقون بين المرء وزوجه، والابن وأبيه، والأخ وأخيه، ويوقعون بين الصاحب وصاحبه، والجار وجاره، وبين المرء وإخوانه.
**مفاسد التدابر: ***
إن التنازع والتقاطع مفسد للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، مبدد للأموال والثروات، ذلك لأنه إذا دب الخلاف واشتدت الخصومة، فسدت النيات، وتغيرت القلوب، وتدابرت الأجساد، فوقعت الحالقة التي لا تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: “دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين .” [صحيح أبي داود]. وقال عليه الصلاة والسلام : “والذي نفسي بيده ! لا تدخلوا الجنة حتى تسلموا، و لا تسلموا حتى تحابوا، و أفشو السلام تحابوا، و إياكم و البغضة ؛ فإنها هي الحالقة، لا أقول لكم: تحلق الشعر، و لكن تحلق الدين” [صحيح الأدب المفرد]
فإذا وقع التدابر أظلمت الوجوه وساء ظن المسلم بأخيه (والظن أكذب الحديث)، وتفوهت الأفواه بفاحش القول وألوان البهت، وربما امتدت الجوارح بالضرب والقتل والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “كُلّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ عرْضُهُ ومَالُهُ وَدَمُهُ “. ويحتقر كل واحد أخاه و”بِحسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشرّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلمَ “. وربما تهاجرا “وَلا يَحِلّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ”. ناهيك عن الأسر التي تتهدم، والأطفال التي تشرد، والمحرمات التي تنتهك، والمظالم التي ترتكب.
فإذا وقع ذلك فسد العباد وساءت البلاد، وفشلت الأمة، وذهب ريحها (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال:46].
**الإصلاح .. الإصلاح***
فإذا كان الاختلاف بين المسلمين وما ينتج عنه من الهجر والقطيعة يتسبب في كل هذه المفاسد العظيمة والعواقب الوخيمة، لذا كان الصلح بين المتخصامين (سواءً كانوا أزواجًا وزوجات، أو أفرادًا أو جماعات) من أجل القربات وأعظم الطاعات، وحث عليه الشارع ورغب فيه، وجعله خير ما يتناجى به المتناجون (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)[النساء:114].
فعظَّم الله ثوابه، وثرى أجره حتى جعله أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قال صلى الله عليه وسلم: ” أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصّيَامِ وَالصّلاَةِ وَالصّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى. قال: صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ”.[صحيح الترغيب:2827].
وقال صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصدقة إصلاح ذات البين”.[صحيح الترغيب:2817]. وقال صلى الله عليه وسلم: “ما عمل ابن آدم شيئا أفضل من الصلاة وصلاح ذات البين وخلق حسن”.
ولقد باشر النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلح بين أهل الخصومة بنفسه، فلما بلغه أن بني عوف بن عمرو بينهم شر قال: “اذهبوا بنا نصلح بينهم”. وخرج يصلح بينهم في أناس، وتأخر عندهم حتى كادت تفوته الصلاة بسبب ذلك.وفي الصحيح: “سَمِعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُمَا، وَإذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ. وَهُوَ يَقُولُ: واللهِ لاَ أَفْعَلُ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: “أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللهِ لاَ يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟ قَالَ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللهِ فَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ”. وفي بعض الروايات: “فوضع عنه شطر المال”.
يقول الإمام الأوزاعي – رحمه الله – : ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين.
فإذا علم المسلمون فساد سوء ذات البين، وعظيم مساويها، ووخيم عواقبها على الأفراد والأمم لزمهم أن يعلموا على إصلاح نفوسهم، وقطع دابر القطيعة فيما بينهم، وألا يكون في قلب أحدهم لأخيه شحناء ولا بغضاء .
وإذا عرف المسلمون ـ والدعاة منهم خاصة ـ عظيم أجر الساعين بين الناس بالإصلاح وما لهم من عظيم الأجر وعميم الثواب عند الله تعالى دعاهم ذلك وحفزهم للسعي في هذا الباب الفضيل إذ لا يعقل أن يزعم زاعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، ويشفق على الدين وأهله، ثم هو يعلم أن بين اثنين -من إخوانه – شحناء أو قطيعة ثم لا يسعى غاية سعيه، ويبذل غاية جهده، ليصلح بينهم رحمة بهم وشفقة عليهم، وطمعًا في فضل الله ورحمته، ورغبة في عظيم أجره ومثوبته.
بسم الله الرحمن الرحيم: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الحجرات:9].