النفوس الفارغة تقبل على الباطل بشراهة كأنه حق، وتميل معه كأنه عدل، وتدعو إليه كأنه هدى، وتفنى فيه كأنه خلاص، وتكد معه كأنه راحة، وتلتذ به كأنه حلاوة، في وهم من خرافة التصور تجعلهم يتسابقون إليه، ويتنافسون فيه، وينافسون به:
تفنى عيونهم دمعًا وأنفسهم.. .. ..في إثر كل قبيحٍ وجهه حسنُ
وأنت أعزك الله إذا تأملت أحوال الخلق أدركت معنى قوله سبحانه: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىsize=3>)[الليل:4].
كلٌ قد سعى وجدّ، وكلٌ قد حصَّل ووجد، وكلٌ قد غدا وراح، لكنه ما كلَّ وما استراح، بل في كدٍّ وكد، وبحث وحث، وأمنية ومنية (إِنِّكَ كَادِحٌ) في رحلة حياتك على الأرض بين الوخم والحقيقة، والإدراك والإخفاق:
وللنفوس وإن كانت على وجلٍ.. .. ..من المنية آمـالٌ تقويها
والمرء يبسطها، والدهر يقبضها.. والنفس تنشرها، والموت يطويها
وغاية الكدح قوله جلَّ في علاه: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَىsize=3>)[النجم:42].
حتى متى تسقي النفوس بكأسها.. .. ..ريب المنون وأنت لاهٍ ترتعُ
أفقد رضيت بأن تعلَّل بالمنى.. .. ..وإلى المنية كلَّ يوم تدفعُ
والدنيا كما قال أبو حاتم: بحر طفّاح، والناس في أمواجها يعومون.
والبحر الطفّاح أكثر ما يعلوه “زبد” فقاقيع لها نقيق “ضفادع الليل” في أشخاص وأحداث، وتجري عليهم “السنن” (كذلك يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِsize=3>)[الرعد:17].
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو طافيًا، ولكنه بعدُ زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء، وطروح لا حقيقة له ولا تماسك فيه، والحق يظل هادئًا ساكنًا، وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات. ولكنه هو الباقي في الأرض .. (الظلال).
ولكن ما الذي يحدث للإنسان؟ ما الذي يحدث لأبناء الغفلة؟ إنه ببساطة عمى: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِsize=3>)[الحج:46].. عمى القلوب هو الذي جعلها تتخبط في سعيها، وتذهب إلى حتفها سكرى بخداعها: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاًsize=3>)[الكهف:103، 104].. بطل عملهم واجتهادهم في الدنيا، وهم يظنون أنهم محسنون بأفعالهم. (زاد المسير).
تتشعب بهم الطرق، وتختلف عليهم السبل، وتتقاذفهم الأهواء في خسف الروح، ودنس النفس، وخفة العقل (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَsize=3>).
هذا سعي كثير من أهل الدنيا في تعلقهم بها، ونصبهم فيها، وحرصهم عليها، وطلبهم إياها (يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَاsize=3>)[الشورى:20]، مفتونون بحبها وزخرفها وزينة مترفيها (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْsize=3>)[الأنبياء:3].. في أودية الباطل، ومجاهل الهوى، ومفازة الردى، يقتلهم الحرص، ويستذلهم الطمع في صور مخزية من غباء العناء “يألمون” بما في أيديهم وبما فاتهم، وتمزقهم الحسرات في الغدو وفي الرواح طلبًا للسراب، وكأنه ماء الحياة، وبعد حين تصبح اليد فارغة، وتستيقظ وهي خاوية (كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِsize=3>)[الرعد:14].
حارث.. همام.. ملهوف.. ظمآن.. يمد ذراعية، ويبسط كفيه.. حرص وكدٌ.. وتبقى الذكرى لمن لا يسكن أبدًا (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَsize=3>)[المدثر:37].
فإلى أين تغدو؟ ولمن تبيع النفس؟ ففي حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه: “كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقهاsize=3>”. [رواه أحمد ومسلم] .