درج كثير من الناس على الاستشهاد بهذه الآية عند تعمد الاستهزاء بمقام الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم. والاستشهاد بالآية صحيح؛ لكن قد يساء فهمه مما يستلزم توضيح معنى الآية والمقصود بها.
الآية الكريمة في سورة الحجر، وهي سورة مكية باتفاق العلماء، ومعلوم لدى الكافة أن المسلمين في مكة ما كان لهم قوة ولا دولة، وأنهم تعرضوا لكثير من الأذى القولي أو الفعلي، حتى إن النبي الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم قد تعرض للأذى في بدنه. وتفاصيل ذلك ثابتة في كتب السيرة.
ولأن المسلمين ما كانوا بذوي عدد أو بأس، وما كان لهم طاقة بمواجهة كفار مكة فقد طولبوا بالصبر على الأذى واحتمال الضيم إلى أن يأذن الله لهم بالمواجهة. وفي هذه الملابسات نزلت الآية الكريمة.
ويذكر المفسرون أن الآية نزلت في عدد من كفار مكة كانوا يستهزؤون برسول الله صلى الله عليه وسلم فانتقم الله منهم وقتلهم يوم بدر.
ولما تحول المسلمون إلى المدينة، وصار لهم دولة وكلمة، ما صمتوا على اجتراء حاقد على مقام النبوة. والشواهد على ذلك كثيرة؛ منها قصة كعب بن الأشرف الذي آذى الرسول فقال عليه السلام: من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله.فقتله محمدا بن مسلمة. والحديث متفق عليه. وقد ورد أكثر من حادث مثله، وتفصيل ذلك في كتب السيرة.
إذن نستطيع القول أن الآية نزلت في ملابسات معينة؛ فقد كان المسلمون يتعرضون للاضطهاد في مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن ويتصدع فؤاده لإعراض المشركين، ولنيلهم من رسالة الإسلام، فأمره ربه ألا يبالي بهم وأن يعرض عنهم؛ وأن يتفرغ للصدع بالدعوة؛ فإن الله سيكفيه أمرهم، وينتقم منهم.
وقد ذكر القرآن كثيرا من مواقف الأذى والسخرية التي تعرض لها الأنبياء ولم يذكر في غالبها عقوبة عاجلة لهؤلاء المستهزئين، وذلك كإيذاء اليهود لموسى وتبرئة الله له، والسبب في ذلك أن الدنيا ليست بدار جزاء؛ فقد يسخر الكفار ويستهزئون بالأنبياء فيحل بهم العذاب في الآخرة، قال تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [سورة الأنعام/10،سورة الأنبياء/41].
إن سنة الله في الكون أن يدفع الصالح بالطالح، والطيب بالخبيث، وأن يقف أهل الحق في مواجهة المبطلين والساخرين، وألا يتحجج الناس بأن الله سيكفي رسوله وسيكفيهم أمر المستهزئين، قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) [الأنبياء/18] فأهل الحق هم الذين يقيمون منهج الله بإذن الله.
وشواهد ذلك من السنة والسيرة كثيرة، ويكفينا ذكر حديث واحد؛ فعندما أمر رسوله بالتبليغ والبيان والتخويف والإنذار قال: (فقلت: رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة. قال: أستخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك. رواه مسلم. ومعنى يثلغوا رأسي: يضربوها بشيء يابس.
ولم يقل الله لنبيه في هذا الموطن ولا في غيره إني سأكفيك إياهم وأرد عنك أذاهم، وإنما أوضح له الطريق: اعمل وعلينا العون، جاهد ولك المدد، لن يكون إزهاق الباطل إلا بعلوِّ صوت الحق، ولن يسكت الشر بالكلام ولا حتى بالدعاء.
نعم، ما فائدة الدعاء أن يهلك الله الظالمين الساخرين ونحن نتعامل معهم، ونتسامح فيما فعلوا، ولا ننهاهم عن منكرهم، إن أي دعاء في مثل هذه الأمور لن يتفتح له أبواب السماء مادام غير مقترن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس إن الله يقول مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر من قبل أن تَدْعُوني فلا أجيبكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم) رواه ابن حبان وغيره.
إن الله قادر على أن ينصر نبيه، وأن يكفيه المستهزئين، ولكن الله يبتلينا بهؤلاء وغيرهم ليتميز منا الخبيث من الطيب، وليعلم الغافل واللاهي، والصامت والشامت، ثم يحاسب كلا بما فعل.
إن الله يكفي نبيه المستهزئين إذا لم يوجد من أتباعه من يسعي لكف شرهم وأذاهم، ولذلك فإن ابن تيمية رحمه الله كان ذا بصر نافذ حين قال: “و من سنة الله أن من لم يكن المؤمنون أن يعذبوه من الذين يؤذون الله و رسوله فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله و يكفيه إياه … وكما قال سبحانه: ( فأصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين). أ هـ من كتاب الصارم المسلول.
فالجهد الأكبر على المسلمين أن يدينوا هذا الأمر، وأن يسعى كل منا بقدر طاقته في رد الاعتداء، والوسائل السلمية كثيرة، ولم نصل إلى مرحلة العجز بعد، وليقل كل منا كما قال صلاح الدين الأيوبي لأرناط: أنا أنوب عن رسول الله. والقصة مذكورة في البداية والنهاية لابن كثير عند ذكر وقعة حطين.
ألا فلينب كل منا عن رسول الله، فهو أولى بنا من نفوسنا، ولا يليق بنا أن ننتظر النصر من السماء، بعد أن نسينا الاعتداء، سنتان تمر فينسى المسلمون الأمر، وينصرفون إلى أمورهم مرددين:( إنا كفيناك المستهزئين) ولعل الساكتين الباردين مشاركين المستهزئين جرما عند الله.